آراء

أمريكا.. خطوات إلى الخلف

عندما فاز الرئيس باراك أوباما في 2012 كتبت مقالا بعنوان " العالم يتغير بعمق" .. وقارنت بين التسامح الذي يشهده أهم بلد في عالمنا وعصرنا، أمريكا، وبين العصبيات و التعصب الذي نعانيه في بلداننا العربية بشكل خاص.. وأنا في حالة صدمة بنتائج إنتخابات الرئاسة صبيحة 9/ نوفمبر ، ذكرني الفيسبوك بالمقال ، وأعدت نشره.. لكن العالم بدا يتغير هذه المرة في الإتجاه المعاكس، وعلى نحو يهدد بالضرر والخطر.

 

في مسيرته نحو الحرية خاض الشعب الأمريكي معارك عديدة منها حرب الإستقلال والحرب الأهلية التي لم تندمل جروحها إلى الآن.. كان العالم هناك يختلف ويعترك ويضطرب ويتأرجح، لكن المحصلة بقيت إيجابية، وظلت مسيرة تلك الأمة منذ أكثر من قرنين تمضي قدما، إجمالا.

 

في المقال الذي كتبته قبل أربع سنوات ، قلت إن فوز أوباما الأسود ذي الجذور المسلمة ، للمرة الثانية، في بلد كانت تسوده العنصرية، يؤكد أن التغيير الذي يحدث في العالم عميق ، ومن شواهده أيضا إختيار أبو الكلام المسلم رئيساً للهند ذات الأغلبية الهندوسية .. وقلت أيضا إنه لا يستبعد أن تأتي الديمقراطية الأمريكية خلال عقود برئيس أمريكي من الأقلية المسلمة أو اليهودية .. والملفت إن قطاعا كبيرا إن لم يكن غالبية المسلمين الأمريكيين كانون يؤيدون المرشح الرئاسي بيرني ساندرز ذا الأصول اليهودية.

 

ما الذي يحدث الان وقد فاز الشعبوي ترامب..؟

 

على مستوى السياسة، هناك من يرى أنها لا توجد تعددية سياسية حقيقية في أمريكا ، وإنما حزب واحد بوجهين، وتبقى، بسبب ذلك، خيارات الناخب الأمريكي محدودة .. ونادرا ما يكون التغيير والتجديد حقيقي وملموس على الرغم من زخم الحملات والوعود التي غالبا ما تتلاشى وتتراجع بعد الإنتخابات..ويشار كثيرا إلى الحزب غير المرأي ( invisible party)الذي يحكم أمريكا ، البيروقراطية ، التي لا يستطيع أحد أن يحكم إلا إذا كسبها إلى صفه، وقليلا ما يحدث ذلك.

 
في 1980 عشية الإنتخابات التي فاز فيها رونالد ريجان، قال أحد مستشاريه لأصدقائه في حفل عشاء ، سوف تسمعون أننا سنحدث تغييرات جذرية كبيرة ، والحقيقة هذا غير ممكن ، وإذا كان الديمقراطيون في عهد كارتر، قد استطاعوا أن يحركوا الوضع خمس درجات إلى اليسار ، فسوف نحركها نحن أيضا خمس درجات إلى اليمين، إذا حالفنا الحظ.

 
كان التوجس من ريجان على أشده ، وكان يوصف بالرعونة والجهل ، لكنه كان قادرا على مخاطبة الجماهير الأمريكية وإقناعها بما يريد، وقام بتغييرات إقتصادية عرفت بالريجانيزم، تقوم على تعزيز اقتصاد السوق وتقليل تدخل الحكومة ، وخفض الضرائب على الأغنياء ، ودفع بسباق التسلّح إلى الأمام فيما عرف حينها بحرب النجوم، الذي عجل بالإطاحة بالإتحاد السوفيتي الذي كان يَطلق عليه إمبراطورية الشر.

 
ما الجديد في شأن دولاند ترامب..؟ خلافا لريجان الذي كان حاكما لكاليفورنيا، ولكل الرؤساء السابقين ،،جاء ترامب من خارج المؤسسسة الرسمية، ولم يسبق له أن شغل منصبا رسميا.. وعلى الرغم من أن ترامب استهدف في خطابه وحملاته النخب والمؤسسة الرسمية الحاكمة، بحزبيها ومؤسساتها ، والمؤسسات الإعلامية النافذة، وقد تغلب عليها جميعا في الإنتخابات، فعلى الأرجح أنه سيهادنها خصوصا في فترة رئاسته الأولى، أو في مراحلها الأولى ، ويعقد معها الصفقات، وهو رجل الأعمال التاجر الذي يخبر الصفقات.

 
كتبت منشورا قصيرا منذ حوالي سنة، متسائلا عن صعود ترامب ، فقال أحد اليمنيين الأمريكيين المتابعين ، هذا الرجل محل سخرية الجميع هنا، ويستحيل ترشيحه من قبل الحزب الجمهوري .. هذا أضحوكة ..! كان كثيرون يرون ذلك أيضاً.

 
واضح أن ترامب فاجأ الجميع، وخاصة النخب الأمريكية .. وواضح أن غالبية كبيرة في الشعب الأمريكي شعرت طويلا أن صوتها غير مسموع ، وأن النخب السياسية والإعلامية تحدث نفسها وتخاطب نفسها وتعمل لذاتها .. ولذلك كانت رسالة الشعب هناك قوية وحاسمة ووقفوا إلى جانب ترامب الذي يتحدى المؤسسة ويدينها ويندد بها .. ترامب لا يجسد بالضرورة القيم والسلوكيات التي يرغب الشعب الأمريكي المتدين المحافظ أن يراها في الرجل الأول في الجمهورية الأمريكية الذي يفترص أن يكون نموذجا يحتذى ، وقد قال فيه الإعلام ما لم يقل مالك في الخمر ،لكن غالبية الناخبين قدروا أن ترامب هو الأقدر على تأديب المؤسسة التي طالما خدعتهم وظللتهم كثيرا، وقد تأخذهم إلى حيث لا يتوقعون أو يرغبون، خذ مثلا حقوق المثليين التي صادق عليها الرئيس أوباما، وقد ظلت محل رفض طوال العقود الماضية.. وحيث لا يستهان بالمؤسسة التي يبدو أنها أخذت على حين غرة، فسيضطر ترامب إلى مهادنتها وعقد صفقات معها من ذلك ما هو ضمني مع المؤسسة الإعلامية ، ومنه تقديم تنازلات للمؤسسة التشريعية في مشاريع قوانين مثل تحديد فترات العضوية في الكونجرس الذي يتبناه .. لكن ذلك لا يعني أن الرجل لن يستخدم قوة الدفع التي أتت به لإحداث تغيرات قد يتمخض عنها النافع والضار.

 
بالمقابل ستجد المؤسسات الحزبية والإعلامية في أمريكا أنها بحاجة إلى مراجعة وإعادة تقييم وتغيير..ولعل المؤسسة الإعلامية التقليدية تشعر الان بأهمية فضيلة التواضع حيث فقدت قدرا كبيرا من قدرتها على التأثير وهي التي كانت تظن أنه لن يغلبها غلاب، لكنها قد تعيد ترتيب أوراقها الان وتتريص بالخصم اللدود المتعجرف الذي مرغ أنفها في التراب وطعن بمصداقيتها وتغلب على تأثيرها الجبار .. ولا تغيب عن البال هنا فضيحة الوترجيت التي أطاحت بنكسون، وعززت من مكانة ومهابة المؤسسة الإعلامية طيلة أكثر من أربعة عقود.

 
وفيما يخص الأقليات، وخاصة المسلمين، فيبدو أنهم سيواجهون أوضاع صعبة ، لكن ذلك قد لا يستمر طويلا، فالأصل والمثل
المستقرة في المجمتع الأمريكي هي التعدد والتسامح ،لكن خطاب ترامب التحريضي، واستغلال تعاظم خطر الإرهاب، سيفاقم
معاناة المسلمين هناك.. مما يحتم على المسلمين أن يكونوا أكثر نشاطا وفعالية وعقد تحالفات مع من يسند قضاياهم ويتبناها من خلال النخب والأحزاب والمؤسسات الإعلامية، ورب ضارة نافعة.

 
يبدو أنما يحدث في أمريكا اليوم يعد من قبيل التراجع أو خطوات إلى الخلف ، غير أنه قد لا يطول الوقت بأمريكا التي يحتدم فيها النقاش والحوار والمناظرات، وتسود فيها المؤسسات حتى تعود لذاتها وقيمها التي أهمها التسامح والإنتفاح.

 
ولا ينتظر من ترامب أي شيء إيجابي في أي قضية عربية ، بما في ذلك /أو على وجه الخصوص قضية فلسطين التي ظلت على أجندة كل الروساء الأمريكيين منذ أكثر من ستين عاما، ولكن دون حل عادل .. وصار العرب يعانون اليوم من أكثر من نكبة وأكثر من قضية، وسينأى ترامب بنفسه عن المنطقة العربية إلا ما له علاقة مباشرة وملحة بالمساس، أو تحقيق مصالح الولايات المتحدة الأمريكية ..

زر الذهاب إلى الأعلى