شيفيلد مدينة بنكهة يمنية
شيفيلد مدينة يتزاحم فيها شعور بالألفة منذ أن يضع الانسان أقدامه على ارضها.. تتسلل إلى الوجدان كلما توغلتت داخل شوارعها القديمة حيث ترتسم ملامح تاريخ صناعي ارتبط بالهجرة الاولى لليمنيين ممن قامت على اكتافهم صناعة الحديد والصلب في هذه المدينة التاريخية. أمضينا فيها ثلاثة ايام التقينا بقطاعات واسعة من الجالية واطلعنا على نشاطاتهم في مختلف المجالات وعلى وجه الخصوص الخدمات التي تقدمها الجالية لأعضائها في مجال تعليم اللغة والدين وغيرها من الأنشطة الاجتماعية اضافة إلى متابعة مختلف القضايا مع الجهات المختصة ومنها سفارة اليمن في لندن.
لشيفيلد نكهة خاصة، منذ زمن قديم واسم هذه المدينة يتردد على مسامعنا من قبل المغتربين الأوائل فيي خمسينيات القرن الماضي الذين قدموا للعمل في مصانع الحديد والصلب، فكان المغترب يعود في الإجازة ليحكي عن هذه المدينة وعن مصانع الحديد وتذويبه وتبريده وتشكيله ونقله إلى الحاويات والمخازن.. يحكي كيف تعرض احدهم للحريق في جسمه أو عينيه أو شعره لانه لم يلتزم بنظام "الامن الصناعي"، ولا ينسى طبعاً ان ينطق هذه العبارة بالانجليزية التي لم نكن نعرف معناها يومذاك الا بالشرح لما يجب ان يلبسوه أو يضعوه على اعينهم اثناء العمل.
تمشي في شيفيلد وخاصة في المناطق التي كانت مركز تجمع هذه المصانع فتتذكر حكاياتهم عن انتظامهم فيي طوابير طويلة منذ الصباح الباكر، وخاصة ايام الشتاء، من مساكنهم حتى المصانع بحرص شديد على الوصول في الموعد المحدد لبدء العمل.
هذه المصانع اليوم توقفت عن العمل وغدت مباني مهجورة يجري هدمها واعادة بناءها كأبراج ضمن خطة شاملةة لتطوير المدينة.
تهجم عليك الذكريات فتتخيل هؤلاء العمال يتحركون حواليك كمرشدين لمعالم المدينة، يحملقون فيك وكأنهم يقولونن نحن من صنع إسم هذه المدينة الصناعية، يخيل اليك مع السكون الذي يحيط بهذه الأبنية المهجورة أن أرواح هؤلاء العمال تتحرك في ذهاب وإياب بين أروقة المكان في احتجاج على ما آلت إليه تلك المصانع التي أفنوا فيها فتوتهم وشبابهم.
لا تصحو من هذا الخيال الا وقد توقفت للسلام على عدد من الشباب المارين صدفة فيقدمون انفسهم لتكتشف أنن بعضهم احفاد لهؤلاء العمال القدامى وقد غدوا جزءاً من نسيج هذا المجتمع الجديد الذي ولدوا ونشأوا وتعلموا فيه وتخرجوا في كلياته وجامعاته.
تذكرت من خلال هؤلاء الأحفاد بعضاً من الأسماء التي قدمت لي يد العون وانا طالب في القاهرة. فقد سافرتت للدراسة عام ١٩٦٦ للالتحاق بالجامعة في القاهرة وبعد ستة أشهر من وصولي، وكانت الظروف في غاية الصعوبة، استلمت رسالة من احدهم، بدون ان أكون قد تواصلت مع أي أحد، منهم يقول فيها: لقد جمعنا لك مائتين وستين جنيه إسترليني ومرفق كشف طويل بأسماء الذين ساهموا في جمع هذ المبلغ برجاء أن تذهب إلى البنك الأهلي المصري لاستلامه.
منذ ذلك اليوم واسم هذه المدينة لا يفارق ذاكرتي.. قلت لنفسي كم كان لهذه المدينة ومغتربيها فضل في مواصلةة دراستي.
شيفيلد مدينة رائعة يتصاعد منها عبق اليمن في الكثير من أحيائها، و إلى جانب هذا العبق، الذي يجعل من هذهه المدينة لوحة معبرة عن كفاح اليمنيين وتعاونهم وجمال اغترابهم وحبهم لبعض وما خلفوه من ذكرى عطرة، هناك ما يجب أن يحاصر ويشطب من ذلك الرذاذ المتطاير من سحاب طارئ لا وظيفة له غير تشويه هذا التاريخ الجميل لليمنيين في هذه المدينة الرائعة.