علوم و تكنولوجيا

للمرة الأولى في تاريخ البشرية.. ناسا تسعى لملامسة الشمس

قبل عدة ساعات، أعلنت الإدارة الوطنية للملاحة الجوية والفضاء (NASA) في بث مباشر عبر قناتها على اليوتيوب عن الموعد النهائي لبدء رحلتها التاريخية للشمس عبر المركبة المسماة "مسبار باركر الشمسي (Parker Solar Probe)، والذي سينطلق في صيف 2018 القادم، لتقف من الشمس على مسافة لم يحدث أن اقتربت منها أية مركبة سابقة في تاريخنا، حوالي ستة ملايين كيلو متر فقط، ليلامس بذلك سطح الغلاف الخارجي للشمس، بينما نعرف أن كوكب عطارد نفسه يقع على بعد 59 مليون كيلومتر في المتوسط من الشمس.

 

الكثير من الأسئلة

تلك إذن هي أولى رحلاتنا للشمس، لذلك سوف تكون "باركر" محملة بالكثير من الأسئلة على متنها، فالشمس أقرب النجوم لنا، والتعرف إلى تركيبها ونشاطها وآليات تفاعلها مع الفضاء المحيط يعطينا مدى واسع من البيانات يمكن لنا تطبيقه على نجوم أخرى وفهم تركيب الكون بشكل أعمق. والشمس كذلك هي مصدر الحياة على سطح الأرض، لذلك كلما ازداد فهمنا لها ارتفعت درجة فهمنا لتطور الحياة هنا على الأرض، أو ربما على كواكب أخرى.

ناهيك عن احتياجنا الشديد لفهم طبيعة الرياح الشمسية (Solar Wind) التي تنطلق في شكل غازات متأينة من سطح الشمس لتعبر الأرض بسرعات تصل إلى 500 كم/ثانية، ليؤثر ذلك على الغطاء المغناطيسي للأرض، وكذلك على أقمارنا الصناعية وأدوات اتصالنا، كذلك سوف يعطينا التعرف إلى تركيبها وآليات عملها فرصة أفضل لحماية روّاد الفضاء المنطلقين خارج الغلاف الجوي وتصميم أدوات تساعد على حمايتهم من الآثار الضارة لتلك الرياح الشمسية.

لذلك فإن المهمة الأساسية للمركبة "باركر" سوف تكون دراسة كيفية تحرك الطاقة والحرارة خلال الهالة الشمسية (Corona) وفهم السبب في تعجيل/تسريع الرياح والجسيمات الشمسية الأخرى، لهذا السبب تحديدًا تمت تسمية المركبة باسم مسبار باركر، نسبة إلى الفيزيائي الفلكي يوجين باركر (Eugene Parker) من جامعة شيكاغو، رائد علوم فيزياء الشمس  والذي توقع نظريًا وجود الرياح الشمسية قبل ستين عامًا.

ربما كذلك تستطيع المركبة إعطاءنا كمّا من البيانات المفيدة والذي يمكن أن يفسر سبب الفارق المهول في درجات الحرارة بين سطح الشمس (حوالي 5800 درجة مئوية) وهالتها (ملايين الدرجات المئوية بنسب متفاوتة لا تقل عن نصف مليون درجة)، لنفترض مثلًا أنك - مع بعض الأصدقاء - تجلسون الآن في أحد الأيام الشتوية حول النار للتدفئة، من الطبيعي أنك كلما ابتعدت عن تلك النار سوف تقل درجة الحرارة الخاصة بها، لكن ما يحدث على الشمس عكس ذلك.

فما أن ترتفع فوق سطح الشمس حوالي 2100 كم -بداية منطقة الهالة- حتى ترتفع درجات الحرارة لتصبح أكبر بمقدار 200- 500 مرة، هناك العديد من النظريات لتفسير ذلك، أحد الأسئلة مثلًا هو: هل تتسبب جزيئات البلازما في ذلك الارتفاع المهول في درجة حرارة الهالة؟ كذلك، هل تسخن الهالة الشمسية لتلك الدرجات مرة واحدة في كل السطح الشمسي؟ أم أن ذلك يحدث على هيئة بقع انفجارية تنقل الحرارة بين بعضها البعض؟ ستكون إحدى مهمات باركر -ربما- هي التأكيد على صحة تلك الفرضيات من عدمها.

لماذا هو صعب أن نلمس الشمس؟

قد يبدو ذلك الخبر مفاجئًا حينما تسمعه لأول مرة، فالبعض يتصور أن تلك مهمة بسيطة؛ خاصة أن البشر تمكنوا بالفعل من إطلاق مركبات ك فوياجر والتي تتجهز الآن للخروج من المجموعة الشمسية، وكاسيني التي استكشفت عوالم الكواكب الثلجية، لكن في الحقيقة هناك تحديّان رئيسيان واجها رحلة كتلك، وما أن تم تجاوزهما حتى أصبح التخطيط للرحلة ممكنًا.

قديمًا، بينما كنت طفلًا، تصوّرت أن السفر للشمس ممكن طالما استطعنا اصطحاب كمّية ضخمة من الثلج معنا وتغطية أجسمنا به، في الحقيقة تبيّن أن الموضوع أعقد من ذلك قليلًا، المشكلة الأولى لباركر ذات علاقة بتركيب المسبار ذاته، فالمركبة ستقترب من الشمس بشكل يرفع من شدة الضوء والإشعاع الصادر منها بقيمة 520 مرة عن الأرض، بالتالي سوف نحتاج درعا لحماية المركبة من التأثر بتلك الحرارة والإشعاع الشديدين، هذا الدرع سوف يكون في مواجهة الشمس طوال دوراة المسبار حولها حاميًا بقية أدوات المركبة خلفه، في باركر استخدم باحثو ناسا ما نسميه درع "الكربون-كربون المقوى Reinforced Carbon-Carbon" RCC، بسمك 11.5 سنتيمتر تقريبًا.

الكربون-كربون المقوى هو مادة مركبة (Composite Material) من ألياف كربون (Carbon Fibers) - يتم استخدامها لتقوية شبكة من الجرافيت (Graphite)، تتميز تلك التركيبة بقدرتها الشديدة على تحمل قوة الشد المرتفعة، والحرارة الشديدة التي تصل إلى 2500 درجة مئوية، خاصة أنها ذات وزن خفيف ومُعامل تمدد حراري منخفض، لذلك فهي شائعة في الاستخدامات الفضائية وسباقات السيارات.

المشكلة الثانية، وهي ربما الأكثر دفعًا للتعجب، لها علاقة بكيفية وصول المركبة إلى الشمس، فالبعض يتصور أن الوصول للشمس أمر سهل بفعل جاذبيتها لنا، كل ما تحتاجه هو الارتفاع في الفضاء وترك نفسك للسقوط في الشمس، لكن ذلك غير صحيح، ببساطة لأن الأرض بالفعل تسقط في الشمس، لكنها لا تصل لها أبدا -تفوّتها- بسبب سرعة الأرض، فهي تدور حول الشمس بسرعة 30 كيلو متر في الثانية، وهذا ما يجعل كل محاولة لها للوقوع في الشمس تمثل دورة كاملة حولها وهكذا.. وهو ما يفعله القمر في مداره حول الأرض.

يشبه الأمر أن تقف على قمة مبنى مرتفع للغاية، ولنتخيل -مثلًا- أنه مبنى يقف على الشمس وتوجد قمته عند مدار الأرض، الآن سوف نقوم بقذف الكرة رقم 1 بسرعة قليلة، سوف تقع الكرة في الشمس بفعل جاذبيتها للكرة، بعد ذلك نقوم بقذف الكرة رقم 2 بسرعة أكبر، وستقع أيضًا لكن على مسافة أبعد قليلًا من سابقتها، يحتاج الأمر أن نلقي بالكرة رقم 3 بسرعة محددة حتى تتخذ مدار حول الشمس، بحيث لا تفلت منها ولا تقع فيها، فيُقال هنا أن الكرة بالفعل تحاول الوقوع في الشمس، لكنها تفوّتها بشكل متتالي، لأن سرعتها تمنعها من السقوط.

لذلك فإن ما سوف يحدث إذا ارتفعت للفضاء وتركت نفسك للسقوط في الشمس هو أنك سوف تتخذ مدارا كالأرض حولها فقط ولن تسقط فيها، لأن سرعتك بالفعل هي سرعة الأرض التي انطلقت منها، بالضبط كما تكون سرعة الذبابة المزعجة في السيارة حولك هي سرعة السيارة التي تتحرك بداخلها، لذلك، سوف تحتاج في البداية لأن تجري عكس اتجاه الأرض ولكن بنفس السرعة، أي 30 كم في الثانية، حتى تخفض من سرعتك وتسقط إلى الشمس مثال الكرات 1 أو 2، وهذه سرعة غير ممكنة بالنسبة لقدرات المركبات الفضائية حاليًا.

لذلك كانت أحد الحلول المقترحة لمدار باركر في البداية، وأي مسبار شمسي آخر، هي أن يذهب أولًا للمشتري، حيث أنه من المعروف أن السرعة المدارية للكوكب ترتفع كلما اقترب من الجسم الذي يدور حوله، وتنخفض بابتعاده عن مركز الدوران، فالمشتري يدور حول الشمس بسرعة مدارية حوالي 13 كم في الثانية، وهي سرعة يمكن لنا الحصول عليها، إذن يمكن للمركبة أن تذهب أولًا لمدار المشتري، والسقوط منه إلى الشمس - بنفس الطريقة التي تحدثنا بها عن الكرات - ثم الدوران حولها على مسافة قريبة.

لكن ذلك سيستهلك الكثير من الوقت والجهد والطاقة، هنا طوّر الباحثون فكرة أفضل، وهي أن تسقط المركبة في البداية إلى مدار الزهرة، وهذا ممكن، ثم تستخدم جاذبية هذا الكوكب سبع مرّات في سبع سنوات لدفعها إلى الشمس، يشبه الأمر -تقريبًا- أن تربط صخرة صغيرة في حبل وتلفها بيديك حولك بسرعة ثم تترك الحبل، فتندفع الصخرة للأمام متخذة من دورانها حولك - بسبب شدك لها أثناء الدوران - القوة للإندفاع، كذلك ستتخذ باركر من جاذبية/شد كوكب الزهرة لها دفعة للإمام، يحدث ذلك كثيرًا كلما أطلقنا مركبات للفضاء، حيث أنها تكتسب سرعة إضافية بالمرور بجانب (Flyby) كوكب ما ثم تستمر في رحلتها.

خلال تلك السنوات السبع سوف تتم باركر أربعة وعشرون دورة حول الشمس تنتهي بحلول شهر يونيو للعام 2025 وتنتهي معها مهمة باركر، خلال تلك الرحلة سوف تتخطى سرعة باركر 700 ألف كيلومتر في الساعة، وسوف تقترب من الشمس بأكبر درجة وسرعة ممكنتين في الدورات الثلاثة الأخيرة، وخلال مجموع تلك الدورات سوف تقسم أجهزة باركر مهماتها لاستخراج كل البيانات الممكنة من سطح الشمس.

جدير بالذكر أن الصورة التي استخدمتها ناسا للترويج للمركبة قد تكون مضللة، ذلك لأنها أظهرت الشمس باللون الأحمر، بالطبع يُقصد من ذلك الاقتراب من فكرة الجمهور عن الشمس كما يراها الناس في صور الويب الشهيرة من التلسكوبات المتخصصة والتي تستخدم فلاتر من نوعيات محددة، لكن ذلك أيضًا يقود لبعض سوء الفهم، فالشمس ليست -في الحقيقة- حمراء أو صفراء، بل هي بيضاء اللون، أما اللون الأصفر أو الأحمر -الغروب- الشمسي فهو فقط ذا علاقة بمرور أشعة الشمس خلال الغلاف الجوّي الخاص بالأرض.

حسنًا، ها نحن ذا ننطلق إلى الشمس، تلك التي سحرت القدماء فقدسوها، الآن تمتد عقولنا عبر العلم، عبر مركبات مصممة بدقة شديدة، لكي تلمسها بدرجة ما، وتتعرف على أسرارها، لأول مرة في تاريخ البشر على هذا الكوكب، فالعلم يفتح لنا كل يوم آفاقًا جديدة، يمد أيدينا، أعيننا، أقدامنا إلى أجزاء من هذا الكون لم نكن لنتصور أبدًا أن نقترب منها يومًا ما، في الحقيقة يدفعنا ذلك للمزيد من الفضول والتشوق لقراءة كل تلك النتائج المتوقعة من رحلة باركر في السنوات السبعة، وللتعرف على المزيد عن ذلك المجهول المحيط بنا، وتأخذنا حماسة السؤال: ماذا يخبئ لنا المستقبل ؟ فكما يقول ريتشارد فاينمن "لا أشعر بالخوف من عدم معرفة الأشياء .. هذا لا يخيفني البتة".*

زر الذهاب إلى الأعلى