تقارير ووثائق

محطات الغاز العشوائية في اليمن: قنابل تحصد أرواح المواطنين

التهم حريق في محطة تعبئة غاز غير مرخصة، جسد العشريني اليمني عبد الرحمن خالد المطري، في يناير/كانون الثاني من العام الجاري، ما أسفر عن إصابته بحروق من الدرجة الأولى وتشوهات بكامل جسده، أدت إلى وفاته بعد الحادث بشهرين، تاركًا خلفه حُلما لم يتحقق في مساعدة أسرته على العيش حياة مستورة.

يتحدث مهدي المطري، عم عبدالرحمن، بحسرة عن الحادثة وأسبابها: "الحريق نتج عن تشغيل مولد الكهرباء أثناء تسرب الغاز، ما أدى إلى حدوث حريق داخل المحطة المتواجدة في حي مسيك في أمانة العاصمة". ويضيف: "عدم الخبرة وانعدام وسائل الأمن والسلامة كانا سببين لعدم إخماد الحريق في بدايته".

وتتكرر هذه الحوادث بالصورة نفسها، في تلك المحطات المتخصصة في تعبئة الغاز المنزلي وغاز السيارات. يحدث ذلك بالمخالفة لقوانين الصحة والسلامة وسط ضعف رقابة وإهمال من قبل أجهزة الدولة، ممثلة بشركة الغاز وأمانة العاصمة وأجهزتها الأمنية، إذ وثق هذا التحقيق عشرة حوادث مشابهة خلال العامين الماضيين، من بينها حادثة احترق منزل حمود سنهوب في فبراير/شباط الماضي، إذ تم إنشاء محطة غاز ملاصقة للمنزل في حارة الصياح في أمانة صنعاء، ما أسفر عن احتراق طوابقه الأربعة بالكامل. يقول سنهوب إن مالك المحطة كان يستخدم ناقلة مياه لنقل الغاز السائل لتعبئة خزانات المحطة التي تقوم بتعبئة أسطوانات الغاز المنزلي وكذلك السيارات التي تعمل بالغاز. ويضيف: "نخشى على حياتنا، ونطالب الجهات المختصة بإزالتها تماما".

 

أرقام مخيفة

يكشف إحصاء أجرته الشركة اليمنية للغاز عن وجود 647 محطة تعبئة للغاز غير مرخصة، في مديريات أمانة العاصمة الاثنتي عشرة والتي يعيش فيها 3 ملايين نسمة. ويقول المهندس عبد الرب آغا، عضو اللجنة التي أجرت الحصر إن: "العدد في ازدياد في ظل العشوائية الموجودة، وغياب أية آلية للرقابة، أو أدوات تساعد السلطات على الحد من انتشار تلك المحطات".

في أمانة صنعاء وحدها قفز عدد تلك المحطات من 43 محطة عام 2015، إلى 600 محطة عام 2016، بحسب وثائق رسمية صادرة عن الشركة اليمنية للغاز.

وتكشف الوثائق أن مديرية السبعين تحتل المرتبة الأولى في عدد المحطات بنحو 145 محطة. وتؤدي نسبة الربح الكبيرة التي يجنيها أصحاب المحطات إلى زيادة انتشارها، إذ يشترون 20 لترا من الغاز الذي يعبأ في أسطوانات الغاز المنزلية بـ1250 ريالا (5 دولارات)، ويبيعونها بـ4300 ريال (17 دولارا) بحسب الشركة.

أحياء مهددة

تستعين المحطات العشوائية بمولدات كهرباء لتواصل عملها بسبب انقطاع الكهرباء منذ بداية الحرب، الأمر الذي يزيد من احتمالات نشوب حرائق. وتضاعفت حالات الحروق بسبب حوادث محطات الغاز، وفقا للدكتور صالح الحيضاني، مدير مركز الحروق والتجميل بالمستشفى الجمهوري والذي يعد المؤسسة الحكومية الوحيدة لعلاج الحروق في العاصمة.

يقول الحيضاني: "حالات حروق الغاز تمثل 70% من إجمالي حالات الحروق التي يستقبلها المركز". ويقول الحيضاني بأن هذه المحطات عبارة عن "قنابل موقوتة"، تنتج عن حوادثها ما يوصف علميا بأنه "حروق كاملة".

ووثق معد التحقيق شكاوى لمواطنين من الانتشار الكبير لتلك المحطات، وهو ما أكده المهندس عبدالرب آغا المهندس، مهندس في الإدارة الفنية بشركة الغاز: "نتلقى شكاوى بشكل شبه يومي من إنشاء محطات تعبئة الغاز بجوار منازل أو محلات تجارية"، ومن بين هذه الشكاوى تلك المقدمة من علي صالح ثابت، والذي قال لـ"العربي الجديد": "نعلم أن شكوانا لن يتم البت فيها، لكننا نحاول إيقاف الضرر. كيف يعقل إنشاء محطة غاز بجوار مركز لبيع الأخشاب، وبجوار مدرسة للأطفال؟ نخاف من حدوث كارثة على حارة السلام بأكملها في حال نشوب حريق في المحطة".

ويتم احالة تلك الشكاوى إلى أمانة العاصمة التي ألقت باللوم على الجهات الأمنية، ويعزو العقيد الركن عبدالكريم محمد البخيتي مدير عام الدفاع المدني بأمانة العاصمة ضعف دوره في الحد من انتشار تلك المحطات إلى "عدم توافر الإمكانات بسبب الحرب".

وأجرى معد التحقيق معاينة شملت 180 محطة تعبئة غاز مخالفة، اختيرت عشوائيا في شيراتون، الصافية، باب اليمن، شارع تعز، شميلة، مسيك، مذبح، الستين، الجامعة والحصبة. وأظهرت المعاينة أن 98% من تلك المحطات لا توجد فيها طفاية حريق، وأن 100% من المحطات لا يرتدي العاملون فيها الملابس المخصصة للعاملين كالخوذة والقفازات ونوعية الملابس الواقية للجسم المصنوعة من الأسبستوس.

وفقا للعقيد البخيتي فإنه منذ 2014: "أصبحنا لا ندخل أي حي إلا نجد فيه محطة أو محطتين للغاز. وتتمثل خطورتها في كون أغلبيتها جزءًا من بيوت سكنية وبعضها للأسف ملتصق بجدران مدارس".

ويؤكد البخيتي على تزايد الحرائق في هذه المحطات، ما أدى إلى سقوط ضحايا وحدوث خسائر مادية، ويقول: "معظم تلك الحرائق كانت تحدث في أنابيب التوصيلات الخاصة بالمحطات، ولو وصلت الحرائق لخزانات الغاز فيمكن أن يختفي حي بأكمله لا سمح الله".

مخالفة علنية

يحدد القرار الجمهوري رقم (80) لسنة 1993 مسؤولية الشركة اليمنية للغاز في منح التراخيص لإنشاء محطات تعبئة الغاز. ويضع أنظمة الأمن الصناعي والسلامة المهنية والنظم الخاصة بحماية البيئة وتنفيذ برامج التفتيش الميداني لمنشآت الغاز للتأكد من تطبيق تلك الأنظمة.

واطلع معد التحقيق على الإجراءات التي حددتها الشركة لمنح تراخيص إنشاء محطات تعبئة الغاز والتي تبدأ بعد أن تتلقى الشركة طلب الترخيص، إذ ترسل فريقا فنيا وتجاريا لمعاينة موقع الإنشاء، وترفع تقريرًا بقبول أو رفض الموقع، ثم تكلف فريقا فنيا وتجاريا آخر للتأكد من اكتمال أعمال التركيبات في المحطة ويقيمها فنيًا.

ويرفع الفريق تقريرا ثالثا يغطي كل المتطلبات الفنية ويؤكد على توافر أدوات الأمن الصناعي والسلامة المهنية. ولكن هذه الإجراءات تبقى حبرا على ورق بحسب الشركة، وما رصده معد التحقيق وهو ما يؤكده مدير إدارة التفتيش الفني بالشركة اليمنية للغاز المهندس الشريف عبود قائلا: "لم نمنح تراخيص لأي محطة منذ عام 2014، وانتشارها مخالف للقوانين، كونها لا تخضع للمواصفات والمقاييس الفنية التي تحددها الشركة".

ويقول: "يمنع منعا باتا إنشاء أي محطة في أي منطقة مأهولة بالسكان، بينما الآن نجد الكثير منها وسط الأحياء السكنية وهذه كارثة". ويبدو أن كل جهة حكومية تلقي بكرة اللهب في مرمى الجهة الأخرى. إذ يجيب المهندس الشريف عبود على سؤال حول سبب عدم قيام الشركة بإزالة تلك المخالفات، بقوله: "نرفع تلك المخالفات أولا بأول إلى أمانة العاصمة وهي الجهة المسؤولة عن إزالة تلك المخالفات بموجب اتفاقنا معها". لكن الأمانة تلقي بالمسؤولية على الدفاع المدني، والدفاع المدني يشكو من نقص الإمكانات بسبب الحرب، وهكذا تدور الدائرة.

أزمات متلاحقة

وتشهد صنعاء أزمات متلاحقة في المشتقات النفطية، ما أدى إلى حدوث ارتفاع كبير في أسعارها، وظهور العديد من رجال الأعمال المنتفعين في هذا المجال. يقول المهندس عبدالسلام الجرادي مدير عام الأشغال في أمانة العاصمة صنعاء: "حاولنا جاهدين متابعة الأمر مع شركة الغاز لكن الموضوع للأسف يفوق قدرتنا، لأن الجانب الأمني التنفيذي غير متوافر بالشكل المطلوب. لدينا مخالفات ولو وجهنا بإزالتها لا نجد أي دعم أمني لتنفيذ الإزالة".

ويضيف: "هناك قضايا في النيابة بخصوص تلك المحطات، لكن النيابة تردها بحجة أننا، كمكتب أشغال، لسنا جهة اختصاص، وأن جهة الاختصاص هي شركة الغاز".
ولا تقوم النيابة بتسجيل القضايا بل تعيدها إلى شركة الغاز والتي تحولها إلى أمانة العاصمة. ويؤكد الجرادي أن أمانة العاصمة أرسلت كتابا إلى وزارة الداخلية أخلت فيه مسؤوليتها.

وتابع: "شركة الغاز لم تستطع إدارة الأزمات المتلاحقة. ونحن في أمانة العاصمة نسعى بكل ما نستطيع لتوفير الغاز، كون المتضرر الأول والأخير هو المواطن".
ويعترف الجرادي بعجز الأمانة عن الحد من انتشار هذه المحطات قائلا: "لا توجد لدينا بدائل في ظل وضع البلد. وإن عملنا على منعها فإننا نفاقم الوضع على المواطن ونرفع من سعر الغاز".

تشهد أسعار الغاز ارتفاعا مستمرا في الفترة الأخيرة. وارتفع سعر الأسطوانة سعة 20 لترا من 1200 ريال (4.8 دولارات) إلى 4300 ريال، خلال العامين الماضيين.
وتبلغ تكاليف إنشاء هذه المحطات المخالفة نحو 10 ملايين ريال يمني (40 ألف دولار)، حسب مسؤول في وزارة النفط اليمنية.

وقال المسؤول، الذي طلب عدم ذكر اسمه بسبب اعتبارات النزاع المسلح في اليمن، واحتمالات خطورة ذلك عليه: "هناك شخصيات نافذة سعت لتقليص صلاحيات شركة الغاز، وسعت لانتشار تلك المحطات بهذا الشكل العشوائي. إذ يمتلك بعض تلك الشخصيات 150 محطة عشوائية ويعرقلون إزالتها، لأنهم يجنون منها أرباحا هائلة".

ما السبب؟ يجيب البخيتي: "هناك قوى تدعم وجود مثل هذه المحطات لاستفادتها الكبيرة منها. لكننا في الدفاع المدني نحرص على عدم منح أي موافقة لأن هناك مخاطر كبيرة لهذه المحطات". ويضيف: "يوجد مستفيدون كبار، لا تهمهم سوى مصلحتهم، ويسعون لتحقيق مكاسب شخصية، وهؤلاء يعرقلون خطط قيادة الأمانة والداخلية لإزالة ولو بعض المحطات التي تشكل خطورة كبيرة على السكان".

*تم إعداد التحقيق بدعم من شبكة (أريج) "إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية"

زر الذهاب إلى الأعلى