المحافظون البريطانيون.. معركة داخلية من أجل أخرى مصيرية
يعقد حزب المحافظين الحاكم في بريطانيا إبتداءً من اليوم، ولمدة ثلاثة أيام، مؤتمره السنوي في مدينة مانشستر وسط أجواء تتسم بالتعقيد على صعيد الحزب والدولة معاً.
فعلى صعيد الدولة أدى الاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتحاد الاوربي الذي أجري عام ٢٠١٦ إلى انقسامات اجتماعية رافقتها حالة من الاضطراب الاقتصادي والتخبط السياسي والتهديد بدعوات جديدة لتقرير مصير الأمم التي يتكون منها النسيج البريطاني وخاصة اسكوتلندا، ناهيك عن أن الخروج كان قد رفع رصيد الشعبويين اليمينيين عالياً قبل أن يتمكن المجتمع البريطاني الشديد الحساسية تجاه هذا النمط من النهج الاجتماعي الايديولوجي من احتواء ذلك بصورة جسدت التنوع الثقافي والاثني والتعايش بقيم الحرية والمسئولية بين مكونات هذاالمجتمع.
أما على صعيد الحزب،كحزب حاكم، فقد أدى الخروج من الاتحاد الاوربي إلى استقالة زعيمه يومذاك دافيد كاميرون وهو صاحب الدعوة الشهيرة إلى الاستفتاء على بقاء أو خروج بريطانيا من الاتحاد. ورغم أن استقالته أربكت وضع الحزب، فوق ما شكلته نتائج الاستفتاء من اضطرابات اجتماعية وسياسية عامة انعكست على تماسك الحزب ووحدته الداخلية، إلا أن الحزب استطاع أن يلملم اجنحته التي اختلفت وتصارعت بين مؤيد للخروج ومدافع عن البقاء ضمن الاتخاد الاوربي. وكان اختيار السيدة تريزا ماي ( وزيرة الداخلية) زعيمة للحزب ورئيسة للوزراء حلاً توفيقياً إعتبره الجميع نقطة انطلاق واقعية لترميم وضع الحزب. وكانت ماي فعلاً قد أدركت حجم تعقيدات ما بعد الخروج فجاءت توليفة وزارتها لتؤكد نظرتها العميقة باختيار قادة الجناحين ليتولوا أهم الوزارات، فمن جناح الخروج تم تعيين بوريس جونسون وزيراً للخارجية ودافيد دافيس وزيراً لشئون التفاوض على الخروج من الاتحاد الاوربي ووليام فوكس وزيراً للتجارة الخارجية والتبادل الدولي، ومن جناح البقاء عين فليب هاموند مستشاراً ووزيرا للمالية ووزيرة الداخلية امبر رود.. وضعت هذه التوليفة أمام مسئولية تاريخية وهي تنفيذ ما اختاره البريطانيون بارادة حرة وهو الخروج من الاتحاد الاوربي.
وعندما تجادلت هذه الاطراف واختلفت حول ما سمي الخروج الناعم soft Brexit والخروج الصعب hard Brexit، وبدا أن هناك تشكيك بإمكانية تحقيق هذا الخروج بدون مصاعب كبرى لم تتردد في أن تعلن رأيها بقوة وهي التي كانت تنتمي إلى جناح الداعم للبقاء في الاتحاد الاوربي وقالت يومها جملة حاسمة" Brexit is Brexit" فصارت هذه الجملة عنواناً لحقيقة لم يعد بالإمكان المجادلة حولها وهي أنه لا عودة عن القرار الذي اتخذه الشعب.
ومثلما تضطرب الطبقات السياسية في مختلف بلدان العالم حينما تنتصب أمامها مهام مرحلة معقدة وشائكة وبمجاهيل عدة، فقد اضطربت الطبقة السياسية البريطانية بدرجة استدعت فيها كل خبرتها التاريخية ومؤسساتها البحثية وإعلامها شديد الحساسية في صلته بنبض المجتمع لتحتوي هذا الوضع.
ساهمت كل هذه المنظومة ببناء وعي متماسك لمواجهة تحديات الخروج باستدعاء بريطانيا العظمى من ثنايا التاريخ ليتبدد الخوف من تأثير مغادرة الاتحاد الاوربي على أمن وسلامة البريطانيين. حضرت بريطانيا العضمى بشخصيتها التاريخية في وعي المجتمع فتبدد الخوف الذي سكن فئات واسعة من المجتمع وخاصة الشباب. وفي هذه الأثناء وبحسابات سياسية، ثبت فينا بعد أنها لم تكن دقيقة، قررت حكومة المحافظين إجراء انتخابات برلمانية، أطلق عليها snap polling، انتخابات خاطفة، بهدف تعزيز وضع المحافظين في مجلس العموم بقياس مخادع وغير دقيق لمزاج الرأي العام،فقد كان حزب العمال في أسوأ حالاته، غير أن النتائج أدت إلى نكسة غير متوقعة لحزب المحافظين.. فقد خسر أغلبيته الكبيرة في البرلمان والتي كانت تؤهله لتمرير القرارات لصالح سياساته وبرنامجه. وللمرة الثانية تثبت التقديرات واستطلاعات الرأي الفجوة الكبيرة بين هذا العمل النخبوي ومزاج الجماهير.
إضطر المحافظون على تشكيل حكومة أقلية مع الحزب الديمقراطي الأيرلندي (عشرة مقاعد في البرلمان). وفي هذا الوضع واصلت حكومة المحافظين التفاوض مع الاتحاد الاوربي بموجب المادة خمسين من القانون العام للاتحاد.
قبل إنعقاد المؤتمر ظهر مجدداً الخلاف على السطح مع تيار الخروج الذي يصر على أطروحاته القديمة بخصوص مزايا الخروج والذي لا يرى سبباً لأن تدفع بريطانيا أربعين مليار جنيه إسترليني حصتها في موازنة الاتحاد مقابل السنتين التي اقترحتها رئيسة الوزراء كفترة انتقالية تبقى خلالها بريطانيا في الاتحاد بعد انتهاء الفترة في مارس ٢٠١٩.
بكل تأكيد سيتمكن المحافظون من تجاوز مشاكلهم الداخلية فالمناصب لا تشكل إلا أسباباً هامشية في الصراعات التي تمر بها الأحزاب في هذه الديمقراطيات، والخروج من المنصب لا يعد نفياً ولا يتم بطريقة الاستبعاد السياسي الذي يعقبه القطيعة والنفي، وإنما هو تعبير عن خلاف في الموقف من قضية معينة.. وكثيراً ما أثبتت الأيام صحة موقف المستبعد فيعاد له اعتباره،ليس بالضرورة بعودته إلى منصبه، وإنما بتصحيح الموقف من رأيه ومن حجته.
غير أن ما يحيط بمستقبل بريطانيا من غموض بسبب مجاهيل معادلة ما بعد "البركست "هو الذي يقلق حزباً عريقاً كالمحافظين، سيشير إليه التاريخ بالبنان كصانع لحدث كبير مثل هذا ما مع سترتب عليه من نتائج سلباً أو إيجاباً.
لا شك أن هذا المؤتمر سيكون لزاماً عليه أن يرد على كثير من الاسئلة التي ترفع من هواجس المجتمع تجاه المستقبل.
*سفير اليمن في بريطانيا