تطورات جنوب اليمن: مخاوف من تكرار تجربة الجبهة القومية
بعد مرور 54 عاماً على ثورة 14 أكتوبر 1963 ضد الاستعمار البريطاني في جنوب اليمن، واستيلاء "الجبهة القومية" على السلطة والمشهد برمته على حساب فصائل المقاومة الأخرى، يساور الخوف اليوم فصائل وسياسيين من تكرار التجربة نفسها بعد التطورات المتلاحقة في جنوب اليمن، وتحديداً في مدينة عدن إثر تصدّر قوى نفوذ جديدة تدعمها الإمارات، محاولة تسيّد المشهد على بقية الفصائل والتيارات السياسية.
"الجبهة القومية للتحرير" هي إحدى فصائل المقاومة ضد الاستعمار البريطاني، تمكنت من بسط نفوذها قبل الاستقلال على حساب منافستها "جبهة تحرير جنوب اليمن"، واستطاعت الانفراد بالسلطة بعد الاستقلال وإعلان جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية في 30 نوفمبر/تشرين الثاني من عام 1967 بدعم بريطانيا، التي رأت أن من مصلحتها تسليم عدن لـ"الجبهة القومية".
وكنتيجة لتفرد "الجبهة القومية" بالسلطة وإقصاء رفقاء السلاح ضد الاستعمار البريطاني، شهد جنوب اليمن حوادث دموية متعددة، قبل أن يأتي الحزب الاشتراكي الذي يعد امتداداً لـ"الجبهة القومية" في 1978 كحزب وحيد يحكم جنوب اليمن تحت شعار "لا صوت يعلو فوق صوت الحزب". وخلال فترة حكمه التي عُرفت بسياسة الصوت الواحد، شهد الجنوب سلسلة أحداث دموية، كان آخرها أحداث عام 1986 بين القيادات العليا في الحزب، والتي أخذت طابعاً مناطقياً قُتل على إثرها الآلاف، وهرب عدد من القيادات إلى شمال اليمن من بينها الرئيس الحالي عبدربه منصور هادي، والرئيس الجنوبي السابق علي ناصر محمد الذي يتواجد حالياً في المنفى.
وخلال الأسابيع الأخيرة ومع تصاعد الاحتقان، وحالة الغليان التي تشهدها مدينة عدن بعد هيمنة قوى مدعومة من الإمارات تمتلك السلاح والنفوذ، تزايدت مخاوف قيادات في الدولة وسياسيين، من عودة سيناريو "الجبهة القومية"، خصوصاً بعد أن تبنّت هذه القوى سياسة الصوت الواحد وشيطنة تيارات سياسية بعينها واستهدافها، مثلما يحصل مع حزب "الإصلاح" الإسلامي وقيادات سلفية، وصولاً إلى مسؤولين كبار في الدولة ومنعهم من دخول عدن، كما الحال مع محافظ عدن عبدالعزيز المفلحي والرئيس عبدربه منصور هادي.
وتزامناً مع الاحتفالات في الجنوب بذكرى ثورة 14 أكتوبر، وعودة قيادات ما يُسمى "المجلس الانتقالي" الذي يقوده محافظ عدن السابق، عيدروس الزبيدي، كان واضحاً حجم التهديدات التي أطلقتها قيادات في المجلس واستعدادها لاستخدام العنف والقوة ضد الخصوم أو تلك الأصوات المناوئة للمجلس. وفي هذا الإطار، قال الزبيدي، الجمعة، إن المعركة ضد من سماها ب"الجماعات المتطرفة" وبينها حزب "الإصلاح" ستتواصل، لافتاً إلى أنه لا يمكن أن تكون هناك شراكة بين "الحراك الجنوبي" والشرعية.
من جهته، قال نائب رئيس المجلس، هاني بن بريك، المقرب من الإمارات والمشرف على وحدات أمنية تسيطر على عدن، إنه "لا خيار لنا في الجنوب غير عودة الجنوب دولة مستقلة، ونحن مستعدون أن ندفع أرواحنا ثمناً لذلك؛ لأن البديل هو الإرهاب الحزبي الطائفي القادم من الشمال". وأضاف في تغريدات على حسابه في "تويتر": "الشر الأكبر الذي يواجه الجنوبيين الآن ليس من المتنفذين في الشمال، بقدر ما هو من قلة جنوبية تستغل المال والسلطة لتنتقم لنفسها من ضياع حلم الحكم"، في إشارة إلى الحكومة الشرعية. وتابع: "نخاطب كل جنوبي، كان في الحكومة أو خارجها، تبنى أي خيار خارج إرادة شعب الجنوب، فلن يغفره له الشعب وسيبقى وصمة عار".
أما عضو المجلس ومحافظ حضرموت السابق، اللواء الركن أحمد سعيد بن بريك، فهدد بأن "المجلس الانتقالي" لن يسمح بإقالة أي مسؤول جنوبي في الحكومة الشرعية مستقبلاً. وقال في كلمة أمام حشود في ساحة المعلا مساء الجمعة: "لن نسمح بعد هذا اليوم بإقالة اللواء فرج البحسني (محافظ حضرموت) أو شلال علي شائع (مدير أمن عدن) لأن القوات التي بنيناها في حضرموت وعدن ستقف مع شعب الجنوب، فكفى مهازل واستعراض مزايدات".
وعلى ذات المنوال قال القيادي في الحراك الجنوبي عمر بن فريد: "من لا يحترم إرادة شعب الجنوب -أياً كان- لن نحترمه لأنه ببساطة فرد لا يكترث برأي مئات الألوف ويضع نفسه فوقهم".
وتُظهر التصريحات المتسقة، والتي تصب في خانة مواجهة "الخصوم"، أن الجنوب، وعدن بالذات، مقبل على مرحلة جديدة في موضوع الحريات السياسية وبسط النفوذ، وهو ما أثار توجس الرئيس هادي، الذي قال في خطاب عشية ذكرى ثورة 14 أكتوبر، إن "الجنوب والوطن عموماً لن يكون وطناً إلا حين يتسع لجميع أبنائه ويعترف البعض بالكل ويؤمنون بواجبهم فيه". وأكد هادي أنه ليس بإمكان حزب ولا تيار ولا نافذ احتكار تمثيل البلاد أو النضال أو التفرد بحكمها دون الآخرين. وأضاف: "يكفينا ما جرى من صراعات وتناحر، فحين نستعرض ما جرى من صراعات داخلية في جنوبنا وإقصاءات وتنافر مبكر بين رفاق النضال وزملاء السلاح عقب ثورة أكتوبر، نكتشف كم كانت الكارثة كبيرة، والتي ليس أولها ولا آخرها ما حدث في يناير 1986 وغير ذلك من المحطات المؤلمة في تاريخنا السياسي".
كما لم يخف رئيس الحكومة أحمد عبيد بن دغر مخاوفه مما يدور في عدن، إذ حذر في كلمة له في عرض عسكري من الاستيلاء على السلطة بالقوة في عدن كما جرى في صنعاء. وقال: "حذار أن تسقط ثورة أكتوبر بمبادئها العظيمة، فإنني أرى في الأفق غيمة سوداء تحيط بهذه الثورة كما أحاطت بثورة سبتمبر".
من جهته، اعتبر المتحدث باسم مجلس المقاومة في عدن، علي الأحمدي، أنه "ليس من المقبول أن يحاول طرف فرض واقع واحد على الجميع أو محاولة إنهاء أو إقصاء طرف آخر، فكما رأينا من تجربة 50 عاماً مضت منذ تأسيس الجنوب لم تنته الأفكار والأحزاب والجماعات على الرغم من القتل والطرد والتشريد". ولفت الأحمدي في منشور على صفحته في "فيسبوك" إلى أن "الجنوب لن يقبل مجدداً مشروع الصوت الواحد سواء كان باسم الاستقلال أو كان باسم المنهج الديني حتى ولو استخدم المستبدون نفس أسلحة أسلافهم وطرقهم من قتل وسجن وتشريد".
وفي الإطار نفسه، دعا السياسي الخضر مرماش إلى الاتعاظ من الماضي ونبذ سياسة إقصاء الطرف الآخر المخالف، مضيفاً في منشور على صفحته في "فيسبوك": "كل قيادة الجبهة القومية تقريباً وقيادة ثورة 14 أكتوبر إما ماتوا في السجن كما حصل لأول رئيس للجنوب، قحطان محمد الشعبي، أو طردوا من الجنوب كما حصل لمحمد علي هيثم رئيس وزراء الجنوب بعد الخطوة التصحيحية والرئيس علي ناصر محمد، أو قتلوا على يد رفاقهم كما حصل لفيصل عبداللطيف الشعبي أول رئيس وزراء للجنوب بعد الاستقلال والرئيس سالم ربيع علي، وغيرهم مئات من قيادات الجبهة القومية".
وفي محاولة لطمأنة الشارع من هذه المخاوف، قال المتحدث الرسمي باسم "المجلس الانتقالي الجنوبي" سالم ثابت إن "المجلس ليس في سباق على امتطاء الجنوب مع أي طرف جنوبي، بل هو كيان سياسي من أجل الجنوب، والمسار الآمن لقضيته". وتابع: "لن تتكرر تجربة الجبهة القومية مهما كان التأييد الشعبي أو خيارات القوة لأننا نؤمن ونتطلع لجنوب جديد سليم ومعافى، أساسه العدالة والمواطنة والتسامح والتصالح وبالتالي، فهو ليس جنوب ما قبل 67، ولا جنوب ما بعد 67، ولا جنوب ما بعد 90، بل هو جنوب جديد لكل وبكل أبنائه".