جاءت تصريحات الرئيس السوري بشّار الأسد حول استعداده زيارة مصر متى أراد المصريون ذلك، أثناء حضوره القمة العربية الثانية والعشرين، بمثابة محاولة لإذابة وكسر جبل الثلج بين سورية ومصر، الذي بدأ يتكون منذ مقتل رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، وتوجيه أصابع الاتهام إلى النظام السوري، ومن بعدها توالت الأحداث التي زادت هذا الجبل ارتفاعا وصلابة.
تصريحات الأسد جاءت مبررة في ظل المبادرة التي أطلقها العديد من الرؤساء العرب لزيارة الرئيس مبارك للاطمئنان على صحته، وتهنئته بنجاح العملية الجراحية التي أجراها مؤخرا في ألمانيا، مما يعطي تلك التصريحات طابعا إنسانيا أكثر منه سياسيا، وربما تكون الجوانب الإنسانية أكثر قدرة على حل المشاكل وحسم الخلافات السياسية، نظرا للثابت عن الثقافة والتقاليد الشرقية عموما، والعربية خصوصا، من الاحتكام للعاطفة والاعتماد عليها في حسم العديد من الأمور.
لم يزر بشار الأسد مصر منذ أكثر من 4 سنوات، مرت خلالها العلاقات المصرية السورية بمراحل توتر خطيرة، بسبب اختلاف المواقف حول العديد من القضايا، مثل دعم حركة حماس، والموقف من الحرب الإسرائيلية على حزب الله في لبنان، وكذلك الموقف من الحرب الإسرائيلية على غزة نهاية عام 2008 ، فخلال تلك الأحداث خرجت تصريحات متعارضة من النظامين المصري والسوري، اتضح منها مدى الهوة التي تفصل بين البلدين، ورغم عدم إعلان ذلك صراحة، إلا أنه خلال حرب إسرائيل ضد لبنان وغزة، تم اعتبار سورية ضمن ما عُرف بمحور "الممانعة" مع إيران وحزب الله وحماس، فيما تم التعارف على أن مصر في محور "الاعتدال" مع السعودية وغيرها من الدول، وقامت بعض القنوات الفضائية، مثل الجزيرة، بتوسيع الهوة بين الدول العربية، من خلال الترويج لتصريحات متبادلة بين المحورين تشير إلى مدى التباين في وجهات النظر والموقف من الحرب، ما جعل الفجوة تتسع، والعلاقات بين تلك الدول وبعضها البعض تسير من سيء إلى أسوأ.
السنوات الأربع الأخيرة كانت فترة فاصلة في طبيعة العلاقات بين مصر وسورية، فمن المعروف تاريخيا أن الدولتين من أكثر الدول العربية تواؤما وانسجاما منذ فترة الوحدة بينهما في الستينيات، إذ كانتا تشكلان ما يشبه الدولة الواحدة، إلى أن انتهت تلك العلاقة بعد نكسة 67، ورغم ذلك ظلت الروابط السياسية والروحية تجمع بين البلدين باعتبارهما على خط مواجهة واحد مع العدو الإسرائيلي، ومع الوقت بدأت الهوة تزداد بين الدولتين، وتراوحت بين الشد والجذب، إلا أنها في السنوات الأخيرة، اتخذت اتجاها واحدا هو التنافر، بسبب ما اعتبره الكثيرون انضمام سورية إلى محور إيران، وقيام إيران باستغلال سورية لفرض نفوذها في المنطقة العربية والشرق الأوسط، ومن مظاهر ذلك إعلان سورية عن دعمها لحزب الله الموالي لإيران، وكذلك لحركة حماس الإسلامية في غزة، في حين تعتبر بعض الأنظمة العربية الحزب والحركة لا يمتلكان الشرعية التي تمكنهما من التحالف مع الأنظمة أو الحكومات، بل واعتبرت تلك الأنظمة تحالف سورية مع حزب الله وحماس نوعا من ادعاء البطولة الزائفة، ومحاولة المتاجرة بقضايا كبرى، بعيدا عن الحسابات السياسية التي تفرض نفسها على أرض الواقع.
تصريحات الأسد، حول زيارته المرتقبة لمصر، أثارت الكثير من الجدل، ليس لكونها محاولة لتضييق الهوة بين البلدين "مصر وسورية"، ولكن لكونها جاءت مشروطة وبلغة مبهمة وملتبسة، إذ أتبع الأسد استعداده للزيارة بأن ذلك سيتم متى أراد المصريون ذلك، ما يحمل إشارة خفية بأن هناك خلافا جذريا، أو احتمالا لعدم رغبة المصريين في إتمام هذه الزيارة، دون توضيح هل يقصد الشعب المصري أم النظام المصري، وهل هناك هوة بين النظام السوري ونظيره المصري، في مقابل حب وتسامح ووئام بين الشعبين، أو بين النظام السوري والشعب المصري، وهل تم طرح تلك الصيغة بالتحديد حتى يكسب أرضا وشعبية في الشارع المصري، للإيحاء بأنه ليس في خصومة مع النظام المصري، ولكن النظام هو الذي يفتعل تلك الخصومة معه، بدليل أنه مستعد لزيارة مصر، ولكن النظام المصري لم يمد يد الترحيب ولم يطلب ذلك، في حين أن زيارات الرؤساء للدول الأخرى تحكمها معايير وبروتوكولات خاصة، ولا تعتمد على رغبة الرئيس أو تصريحات صحفية من هنا أو هناك.
استغل الرئيس السوري فرصة القمة العربية ليعلن عن نيته التعاون والتنسيق مع كل الرؤساء العرب، وعلى كافة المستويات، واستعداده لزيارة الجميع، دون تحديد مصر في هذا السياق، ما يشي برغبته في طي الخلافات جانبا، والبدء من جديد في علاقات وطيدة، تضمن التعاون الكامل مع تلك الدول، ورغم ذلك ما زال الأسد يعقد تحالفات مع النظام الإيراني، مع ما يحمله هذا الأمر من أبعاد لا تصب في صالح العديد من الدول التي تحتل مكانة مركزية في المنطقة العربية، مثل مصر والسعودية، ما يدعو إلى التساؤل عما إذا كانت تصريحات الأسد حول زيارته القاهرة رغبة منه في إنهاء الخلافات القديمة، أم للاحتفاظ بعلاقات معقدة ومتشابكة في المنطقة، أم للعب دور الوسيط بين محوري الاعتدال والممانعة.
في كل الأحوال، يرى مراقبون، بأن استقبال القاهرة للرئيس السوري، ضرورة، وفرصة لإحداث طبقة عازلة على الدور الإيراني في المنطقة، في هذه الفترة بالذات، حيث يكون احتواء القاهرة لدمشق إضعافاً للابتزار الإيراني الذي دأب على الإفادة من عزلة سورية العربية. من هنا فإن المصريين لن يمانعوا من منح فرصة للرئيس الشاب، على الأقل للكشف عن النوايا وحقيقة التوجه نحو العرب وإذا ماكانت دمشق ستخرج من سياسة الفصائل إلى سياسة البيت العربي الرسمي.