ما أن بدأت الأزمة المفتعلة بين مصر والجزائر تتراجع حدتها ، إلا وفوجىء الجميع بتقارير صحفية تزعم تورط القاهرة بالتعاون مع واشنطن في التجسس على مفاعل نووي جزائري.
ففي 3 مايو / أيار ، ادعت صحيفة "النهار الجديد" الجزائرية في تقرير نشرته على النسخة الإنجليزية لموقعها الإلكتروني حصولها على وثيقة استخباراتية أمريكية سرية تكشف تورط القاهرة في التجسس على مفاعل "عين وسارة" في جنوب الجزائر لصالح الولايات المتحدة.
وأضافت الصحيفة أن الوثيقة تشير إلى أن الحكومة المصرية تواطأت مع الولايات المتحدة في بداية التسعينات للتجسس على المفاعل النووي الجزائري في منطقة عين وسارة .
وتابعت أن وزير خارجية مصر في هذا الوقت الذي لم تحدد اسمه كان التقى المسئول الأمريكي ريتشارد آلن كلارك خلال زيارته للقاهرة في شهر أيار/ مايو 1991 ، حيث تطرقت المحادثات إلى قضية المفاعل النووي الجزائري في عين وسارة بولاية الجلفة ، مشيرة إلى أن كلارك الذي كان يشغل منصب مساعد وزير الخارجية الأمريكي المكلف بالشئون السياسية والعسكرية طلب من الوزير المصري تزويد بلاده بمعلومات حول المفاعل الجزائري قيد الإنشاء وما أشارت إليه في ذلك الحين تقارير صحفية حول بناء المفاعل النووي الجزائري بمساعدة من الصين.
وأشارت إلى أن هذا الطلب جاء في وثيقة حملت توقيع ''سري جدا'' وأرسلتها السفارة الأمريكية بالقاهرة إلى وزارة الخارجية الأمريكية بشأن مضمون زيارة الوفد الأمريكي للقاهرة ، قائلة :" المفاجأة في الوثيقة أن الوزير المصري عبر عن تفهمه للقلق الأمريكي قبل أن يقدم وعدا للمسئول الأمريكي بدراسة الطلب ".
ولم يقف الأمر عند ما سبق ، بل إن الصحيفة نشرت أيضا صورة للوثيقة المزعومة وعلقت عليها بالقول : " تكشف طريقة التعاطي المصرية مع الطلب الأمريكي بتزويد واشنطن بمعلومات حول البرنامج النووي الجزائري ومفاعل عين وسارة من خلال تقديم الوعود بدراسة الطلب بل إن مجرد قبول مناقشة الأمر يعد رغبة وقبول من جانب سلطات مصر للتعامل الاستخباراتي مع واشنطن على حساب الجزائر، حيث أن الأعراف الدبلوماسية المعمول بها في هذا الجانب خصوصا مع الدول الشقيقة تقتضي بعدم التدخل في أي شأن داخلي لدولة شقيقة خاصة إن كان الأمر يتعلق بشأن سيادي مثل شئون الدفاع".
تصريحات عمرو موسى
ورغم أن الصحيفة لم تذكر اسم وزير الخارجية المصري الذي تضمنته الوثيقة المزعومة ، إلا أن هناك من رجح احتمال أن يكون الدكتور عصمت عبد المجيد أو عمرو موسى ، وسرعان ما خرج الأخير على وسائل الإعلام ليفضح المزاعم السابقة .
ففي 5 مايو / أيار ، نفى الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى صحة ما نشرته جريدة جزائرية حول تسريبه معلومات عن المفاعل النووي الجزائري بالتعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية ، قائلا :" إن ما ادعته الجريدة آراء مسمومة".
وخلال مؤتمر صحفي عقده بالجامعة العربية ، أضاف موسى قائلا :" إن هناك التباسا حول هذا الموضوع " ، لافتا إلى أن هناك نوايا متوجهة إلى إيقاظ الوقيعة بين مصر والجزائر كلما هدأت.
وطالب موسى بقطع يد كل من يحاول من أي جهة الوقيعة مرة أخرى بين البلدين ، قائلا :" لا يمكن أن يكون هناك وزيرا مصريا أثناء رئاسة وزارة الخارجية المصرية سواء كنت أنا أو من جاء قبلي أو بعدى يمكن أن يكون ضالعا في أي ضرر يمس بأي دولة عربية" .
وأضاف أن التاريخ الذي يدعون فيه بتسريب المعلومات كان اليوم الثاني لتوليه مهام وزارة الخارجية المصرية وليس من المعقول أن يناقش ملفا بهذه الخطورة كما أنه ظل أسبوعين مشغولا بمهام مراسمية تتعلق بتولي المنصب.
تساؤلات وحقائق
التصريحات السابقة تؤكد زيف ما جاء في الوثيقة المزعومة تماما في ضوء حقيقة بسيطة وهي أنه مثلما تم الكشف عن اسم المسئول الأمريكي كان يجب الإشارة إلى اسم وزير الخارجية المصري باعتبار أن الوثيقة رسمية مثلما زعمت صحيفة " النهار الجديد ".
وتبقى هناك عدة تساؤلات جوهرية تنتظر إجابة من صحيفة "النهار الجديد " وهو لماذا تم الكشف عن الوثيقة المزعومة في هذا التوقيت ؟ ولماذا انفردت هي بالحصول عليها دون غيرها من وسائل الإعلام الجزائرية؟ ولماذا لم يعلق أي مسئول جزائري عليها في حال كانت صحيحة ، وأين الدليل الذين يدين مصر بالتجسس ؟ ".
فوفقا لما ذكرته الصحيفة فإن مجرد قبول مناقشة الأمر يعد رغبة وقبولا من جانب سلطات مصر للتعامل الاستخباراتي مع واشنطن على حساب الجزائر ، إلا أنه وفقا للأعراف الدبلوماسية ، فإن تلك العبارة لا تحمل أي دلالة ، كما أنه كان يجب على الصحيفة الجزائرية أن تستند لوثيقة تكشف حقائق وأدلة عملية حول قيام القاهرة بمساعدة واشنطن في التجسس على الجزائر وليس مجرد اقتراح لأحد المسئولين الأمريكيين خلال زيارة للقاهرة لم ير النور ، لأنه لو وافقت القاهرة على الاقتراح الأمريكي عبر وثيقة رسمية لكانت وسائل الإعلام الإسرائيلية والأمريكية أول من نشرت الأمر إبان احتدام الأزمة بين مصر والجزائر عقب مباراتي 14 و18 نوفمبر في التصفيات المؤهلة لكأس العالم 2010 .
وبالإضافة إلى ما سبق ، فإن هناك أمرا آخر يكذب الوثيقة المزعومة تماما وهو أن واشنطن ما كانت تسمح ببناء مفاعل نووي في الجزائر لو كانت لديها شكوك تجاهه ، كما أنها ما كانت تلتزم الصمت على مدى 19 عاما في هذا الصدد ، فهي متأكدة منذ البداية من سلمية البرنامج النووي الجزائري ولذا لم تكن هناك حاجة للتجسس عليه .
وبصفة عامة ، فإن الوثيقة المزعومة ما هي إلا محاولة مفضوحة لإشعال التوتر مجددا بين مصر والجزائر ، خاصة وأن توقيت ظهورها تزامن مع عودة الهدوء إلى علاقات البلدين الشقيقين .
ورب ضارة نافعة ، فالوثيقة المسمومة أكدت للقاصي والداني أن الأزمة يين مصر والجزائر كانت مفتعلة منذ البداية وتقف خلفها بعض وسائل الإعلام غير المسئولة التي تسعى للشهرة على حساب علاقات الإخوة والصداقة والعروبة والإسلام التي تربط الشعبين الشقيقين ولعل هذا ما تأكد في تصريحات أدلى بها رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الشيخ يوسف القرضاوي لقناة "الجزيرة" في 22 نوفمبر / تشرين الثاني 2009 وكشف خلالها أن بعض وسائل الإعلام الجزائرية رفضت نشر بيان له دعا خلاله للتهدئة بين البلدين وهو ما اعتبره دليلا على أن هناك من يسعى لتأجيج الفتنة.