تواصل «الشرق الأوسط» سلسلة حلقاتها الميدانية في مناطق الاضطراب في جنوب اليمن، وذلك في محاولة لتلمس طبيعة تلك الاضطرابات والوقوف على طبيعتها وأسبابها وعللها والحلول التي تطرح،
وأيضا وجهات نظر القوى اليمنية في الساحة، وفي هذه الحلقة أجرت «الشرق الأوسط» حوارا مع السياسي اليمني محسن بن فريد العولقي، أمين عام حزب رابطة أبناء اليمن (رأي)، أحد أقدم الأحزاب اليمنية، الذي تأسس مطلع خمسينات القرن الماضي في جنوب اليمن، وتغوص المقابلة في عمق الأحداث اليمنية المتفاقمة، فإلى نص الحوار:
* كيف تقرأون المشهد في اليمن عموما والجنوب بشكل خاص في ضوء تنامي نشاط الحراك وكذلك «القاعدة»؟
- المشهد العام في اليمن لا يسر، بل يبعث على القلق والخوف مما هو مقبل، ففي صعدة لا تزال النار تحت الرماد، والحراك في الجنوب بين مد وجزر، و«القاعدة» تظهر وتختفي في تناغم مع السلطة في كثير من الأحيان، والوضع الأمني متردٍّ، والدولة غائبة، والوضع الاقتصادي والحياة المعيشية لأغلبية الناس في الوطن مُزرية وتعيسة، كما أن الحزب الحاكم قد دس رأسه في الرمال وهو ذاهب، كما يبدو، للانتخابات المقبلة بمفرده.
* ما هي الأخطاء التي ارتكبت في الجنوب وأدت إلى ما وصل إليه الحال في الوقت الراهن؟
- الخطيئة الأولى التي ارتكبت في الجنوب هي انفراد طرف واحد بالسلطة بعد الاستقلال مباشرة في نوفمبر 1967م، وفرض الرأي الواحد والصوت الواحد والحزب الأوحد. ليس ذلك فقط.. بل وتبني نهج ماركسي لا يتلاءم ولا يتناسب مع طبيعة بلادنا وشعبنا، وأدى ذلك إلى موت عدن، التي كانت الميناء الثاني أو الثالث في العالم بعد نيويورك، وإلى قتل وسحل خيرة أبناء البلاد، وإلى هروب وهجرة خيرة العقول من الجنوب حينها، أما الخطيئة الثانية فهي قيام وحدة اندماجية عام 1990، وليس فيدرالية، بين حزبين ونظامين مختلفين؛ نظام ماركسي أو اشتراكي في الجنوب، ونظام رأسمالي أو إقطاعي في الشمال. ولم تقم تلك الوحدة على نيات صادقة بين الحزبين الحاكمين حينها (المؤتمر الشعبي العام في الشمال والحزب الاشتراكي في الجنوب). بل على حسابات خاصة بكل طرف، وكل ظل يتربص بالآخر حتى وقعت معركة صيف 1994 التي لا تزال تجر ذيولها على البلاد والعباد حتى اليوم، أما الخطيئة الثالثة فهي أن المنتصرين في حرب صيف 94 قد نظروا للجنوب أرضا وإنسانا كغنيمة حرب وليس كشركاء في وطن واحد ودولة وسلطة واحدة، وهو الأمر الذي لا يزال يعيشه الجنوب حتى اليوم، وهذا الواقع هو بمثابة الدافع والوقود الذي يحرك الحراك في الجنوب، ويقض مضجع كل جنوبي.
وقد تفرع عن الخطيئة الثالثة الكثير من الممارسات الخاطئة والمظالم البينة التي تؤكد على عقلية المنتصر، وتستخف بأبناء الجنوب، وتستولي على أرضهم وثرواتهم ووظائفهم؛ سواء في القوات المسلحة والأمن أو وظائف الدولة المهمة المختلفة الأخرى، وبدا وكأن هناك سياسة منهجية لتقويض كل مقومات الدولة في الجنوب؛ بدءا من الاستمرار في عدم الاهتمام بميناء عدن ومطارها، مرورا بخصخصة الكثير من المؤسسات الكبيرة في الجنوب والاستيلاء عليها من قبل المتنفذين بأسعار زهيدة، وبدا وكأن الشمال وتجاره ومتنفذيه يزدادون غنى، والجنوب وأهله يزداد فقرا على فقره، وكل ذلك أدى إلى المزيد من الشعور بالمرارة والغبن، وأدى إلى انطلاق الحراك وتصاعده ليشكل ظاهرة سياسية واجتماعية حية في مختلف مناطق الجنوب.
نحن كحزب لسنا مع مطلب الحراك بالانفصال أو فك الارتباط. وقدمنا بديلا عمليا وواقعيا هو تبني النظام الفيدرالي على إقليمين: شمال وجنوب. ولكننا في نفس الوقت نحترم خيارات الحراك ولا نسفهها، إنني أرى في الحراك ظاهرة سياسية حية وعظيمة يمكن أن يستفيد منها اليمن كله لو تم ترشيد الطروحات وتوحيد القيادات.
* هل تعتقد أن هناك إمكانية وخط عودة في مسيرة الحراك المطالب بما يسميه «فك الارتباط» أو «الانفصال»؟
- أرد بالقول إن الأغلبية في الجنوب لا تزال صامتة، وإذا ما شعرت هذه الأغلبية بأن هناك توجها حقيقيا وملموسا لدى السلطة الحاكمة في صنعاء لبدء إصلاحات سياسية حقيقية فيمكن أن يتراجع صوت الحراك ويعلو صوت هذه الأغلبية الصامتة، ولكن للأسف، لا أرى أي مؤشر على جدية السلطة والحزب الحاكم في إحداث أي إصلاحات حقيقية. وللأسف، أيضا، فإن الحزب الحاكم يعمل على طريقة «عمال التراحيل»، أي العمل باليومية و«ما بدا بدينا عليه» (أي لكل حادث حديث)، وها هو الحزب الحاكم قد ضرب عرض الحائط بفكرة الحوار الوطني، وها هو يسير على ما يبدو للدخول منفردا في الانتخابات المقبلة، ويعيد إنتاج أسوأ مما هو قائم الآن.
وملمح آخر من ملامح عدم جدية النظام في التعاطي مع مشكلات الوطن المتزايدة والمتصاعدة يظهر بوضوح في الخطاب السياسي والإعلامي للسلطة والحزب الحاكم بعد نجاح دورة «خليجي 20» الرياضية في عدن، فبدلا من أن يوظف هذا النجاح ليُحسب لكل أبناء اليمن ولتعزيز التلاحم الوطني وبدء صفحة جديدة، فإذا بالخطاب السياسي والإعلامي القصير النظر يحول هذا النجاح لمكائد سياسية وتصفية حسابات.
* هل تعتقدون أن أسلوب تعامل نظام الحكم مع الأوضاع في الجنوب مناسبة وستتمكن من القضاء علي الحراك؟
- لا، لا نعتقد ذلك، نظام الحكم يتحدث مع نفسه في الجنوب، من خلال موظفيه وأعضاء الحزب الحاكم، الذين لا يظهرون ويتواصلون مع الناس إلا في موسم الانتخابات، ونظام الحكم اليوم بعيد عن الناس ومعزول عن نبض الأغلبية، ليس في الجنوب فقط، بل في عموم البلاد، ولا يتعامل هذا النظام إلا مع حاملي المباخر، أما من له رأي فيُحارب أو لا يُسمع له، النظام يجيد اللعب على التوازنات، ولكن المرحلة لم تعد تحتمل ذلك، ولهذا أعتقد أن الأوضاع ستتفاقم في الجنوب، وأعتقد، أيضا، أن عامل الزمن لن يسعف السلطة للاستمرار في سياساتها القديمة.
* أين تقفون في الرابطة من الربط الرسمي بين الحراك و«القاعدة»؟
- لا نعتقد أن هناك أي رابط أو صلة بين الحراك والقاعدة، بل إن هذا الربط يثير استغراب وسخرية المواطن البسيط في بلادنا.
* ما هو الحجم الحقيقي لـ«القاعدة» في الجنوب؟ وهل هي صناعة رسمية، كما يقول البعض؟
- لقد ضُخمت «القاعدة» في الجنوب بشكل مبالغ فيه من قبل السلطة. وذلك لأسباب كثيرة، لا تخفى على المواطن البسيط؛ فما بالكم بالمتخصصين في هذا الشأن، وأنا شخصيا مع الرأي الذي يقول إنها في معظمها صناعة رسمية.
* باعتبارك أحد وجهاء قبيلة العوالق في محافظة شبوة، هل تقوم القبيلة بحماية أنور العولقي وغيره من المطلوبين؟ ولماذا؟
- قبائل العوالق ليس لها علاقة ب«القاعدة»، وقبائل العوالق لا تحمي من ينتمون لـ«القاعدة». وحقيقة الأمر أن منطقة العوالق تتصف بجبال شاهقة ووعرة وذات مساحات واسعة وقد يلجأ لها للتخفي والحماية هذا الطرف أو ذاك من دون علم أو إذن من هذه القبيلة أو تلك، وهناك خشية من أن السلطة نفسها، ربما، تستخدم تلك العناصر كمبرر لضرب قبائل العوالق وتحجيمها، والعم الشيخ فريد بن أبو بكر، وهو المرجعية القبلية في المنطقة، والخبير بجبال كور العوالق؛ فهو وإخوانه وأعضاء الرابطة في المنطقة قد قارعوا الاستعمار البريطاني في تلك الجبال في الخمسينات والستينات، والجبهة القومية في السبعينات، وهو ما يؤكد أن قبائل العوالق ليست مع «القاعدة» ولا يحمون عناصرها، وهم يعملون لتجنيب المنطقة أي ضربة من السلطة من جانب، ولإخراج أي عناصر غريبة عن المنطقة، من جانب آخر.
وبهذا الصدد، أنا أتفق تماما مع ما قاله الأخ الأستاذ طارق الحميد، في عموده في «الشرق الأوسط» قبل بضعة أيام، عندما قال إن «(القاعدة) لا تستطيع الاستقرار في بلد مستقر، وغير متأزم سياسيا أو أمنيا»، وأضاف: «فالمطلوب محاربة (القاعدة) ليس بالسلاح وحسب، بل وحتى بالإصلاح السياسي والديني ودعم الاستقرار».
* هل توجد لديكم مخاوف من تزايد العنف في الجنوب أو اندلاع حرب أهلية؟
- نعم، هناك خوف وخشية كبيرة لدينا من تزايد العنف في الجنوب في الأيام المقبلة؛ فعندما تسوء أحوال الأغلبية معيشيا واقتصاديا وأمنيا وسياسيا ويُفقد الأمل، يمكن أن يلجأ الإنسان لأي وسيلة، وطالما ظلت السلطة تتعامل بهذه الأساليب الملتوية، وعدم الجدية في إيجاد حلول حقيقية لمشكلات الوطن المتزايدة والمتراكمة؛ فالخشية موجودة من تزايد العنف، ليس في الجنوب فقط، بل في كثير من أنحاء البلاد، وهذا ليس رأيي فقط، بل هو رأي كثير من الباحثين ومراكز البحث المهتمة بالشأن اليمني.
* كنتم في الرابطة أول من اقترح الفيدرالية كحل للأزمات المتعددة في اليمن؛ فهل تعتقدون، حاليا، أن الوقت ما زال مواتيا للعمل بها، خاصة في ظل رفضها من قبل النظام والحراك الجنوبي؟
- نعم، نفتخر في حزب رابطة أبناء اليمن (رأي) بأننا أول حزب سياسي قد طرح فكرة الفيدرالية منذ وقت مبكر كحل عملي للمسألة اليمنية، فقد أقررنا ذلك في مشروعنا الشامل للإصلاح الذي أعلناه في عام 2005، وقد أوضحنا أن الدولة المركبة (أي النظام الفيدرالي) هو النظام الأمثل والأصلح لليمن، وأوردنا أعمدة ستة أخرى كأساس للإصلاح السياسي، وهي: الانتخابات بالقائمة النسبية، النظام التشريعي القائم على مجلسين منتخبين، مجلس النواب ومجلس الشورى، حيادية الإعلام، حيادية الخدمة المدنية، حيادية الجيش وقوى الأمن واحترافيتها، استقلال القضاء ونفاذ أحكامه، وقد كررنا توجهنا هذا في رؤية الحزب المعلنة في يناير (كانون الأول) 2008، وفي الصيف الماضي أعلنا أن التطورات في البلاد تحتم الإسراع بإعادة هيكلة النظام السياسي وتبني النظام الفيدرالي على إقليمين: شمال وجنوب، ويُطبق في إطار كل إقليم حكم محلي كامل الصلاحيات، وقد وجهت لنا السهام من كل حدب وصوب، ولكن هذا ليس بالغريب علينا، فرواد الرابطة قد اتُّهموا، عند تكوين الرابطة في عدن عام 1951، ومطالبتهم برحيل الاستعمار البريطاني عن بلادنا، وتوحيد الـ23 سلطنة وإمارة ومشيخة في كيان سياسي واحد، اتهموا بالجنون حينها، ونحن كحزب، عند طرحنا لمشروعنا هذا ورؤيتنا هذه انطلقنا من دراسة عملية لواقعنا السياسي اليوم ومن شعورنا بالواجب الوطني لما نرى أن فيه مصلحة بلادنا والإقليم والعالم، ونحن لم يكن في بالنا أن نرضي هذا الطرف أو ذاك، وإنما نرضي ضمائرنا ونسعى لتحقيق ما فيه خير البلاد والعباد في الجنوب والشمال.
ومع ذلك أقول: نعم، ما زلنا نعتقد أن الوقت ما زال مواتيا للأخذ بالنظام الفيدرالي، ولكن الوقت يمضي سريعا فإن لم تُتخذ قرارات مصيرية وجريئة الآن فقد لا يكون الأمر متيسرا غدا ولكي ينجح هذا الحل، لا بد أن يكون هناك إرادة سياسية حقيقية لدى السلطة الحاكمة من جانب، وتأثير ملموس للإقليم والعالم من جانب آخر، وأعتقد، شخصيا، أن جماعات الحراك في الجنوب إذا أيقنت بأن السلطة جادة، ومعها الإقليم والعالم، في إعادة هيكلة النظام السياسي والأخذ بالنظام الفيدرالي، كما هو مطبق في أكثر من 120 دولة في العالم اليوم، فلربما يراجعون أنفسهم في مسألة الانفصال أو فك الارتباط.
* هناك من يطرح أن مشكلات اليمن لا يمكن حلها إلا بتدخل أطراف خارجية، ما رأيكم؟
- لقد طرح حزبنا ما يمكن أن نطلق عليه «خارطة طريق» لحل «المسألة اليمنية»، طرحنا ذلك في رسالة رسمية رفعناها لمؤتمر لندن لأصدقاء اليمن في يناير 2009، وطرحتها أنا، كممثل لحزب الرابطة، عند لقائي بوفد مجلس الشيوخ الأميركي الذي زار صنعاء في الربيع الماضي، وطرحناها على مؤتمر نيويورك لأصدقاء اليمن في شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، وسنكرر طرحها على مؤتمر الرياض لأصدقاء اليمن في فبراير (شباط) المقبل، وتتكون خارطة الطريق من بنود هي: الإصلاح السياسي الشامل هو مفتاح الحل لأزمة الوطن، وإعادة هيكلة النظام السياسي في اليمن، وتبني النظام الفيدرالي بين إقليمين، شمال وجنوب، يجب أن يكون هو جوهر أي حوار وطني مقبل، وينبغي أن يشترك في الحوار الوطني المأمول ممثلون عن كل الأطراف الرئيسية المؤثرة، وبالتحديد ممثلون عن الحراك الجنوبي وعن الحوثيين وعن معارضة الخارج، حيث إن عدم الثقة بين الأطراف السياسية اليمنية هي ما يطبع العلاقة بين هذه الأطراف الآن، فإنه لا جدوى من أي حوار وطني مقبل ما لم يكن بحضور إقليمي ودولي فعال، وذلك ليشهدوا على ما تحاورت واتفقت عليه الأطراف اليمنية المختلفة، وليؤمنوا ويضمنوا تنفيذ ما تم الاتفاق عليه، وأخيرا، ولضمان نجاح هذا الحوار وتمكين حضور كل الأطراف، ينبغي أن يتم الحوار الوطني إما في مقر جامعة الدول العربية أو في مقر مجلس التعاون الخليجي، وبذلك، فنحن لا نأتي بشيء جديد، كيمنيين؛ فقد سبقنا إلى ذلك الأخوة اللبنانيون عندما اجتمعوا في الطائف لأسابيع كثيرة، وتحاوروا، وتجادلوا، واتفقوا، وأنهوا بذلك الحرب الأهلية اللبنانية المدمرة التي استمرت لسنوات وسنوات.
وهنا أتساءل: هل من الضرورة أن نتقاتل كيمنيين أولا..؟، وأرد بالقول: الواجب والمنطق والعقل يحتم علينا أن نتعلم من الزمن ومن تجارب الآخرين، وينبغي أن يكون واضحا للجميع أن بلادنا لا يمكن أن تُحكم من قبل شخص واحد أو قبيلة واحدة، أو حزب واحد، اليمن لا يمكن أن يستقر ويقف على أقدامه إلا بتضافر جهود كل أبنائه ومشاركتهم بالفعل، وبشكل عادل، في الثروة والسلطة. وفي اليمن من الثروات والمقومات ما يكفي لإقامة دولة مدنية متقدمة حديثة في جنوب الجزيرة العربية.
* غدا: من هو الجهادي الذي أصبح مدافعا عن الوحدة اليمنية؟