لم يكن الطفل أسامة الذي لم يتجاوز الحادية عشرة من عمرهِ يعرف ما ينتظرهُ من مصيرٍ مجهول وهو قابعٌ داخل فصلهِ الدراسي بمدرستهِ الذي ظلّ خمس سنوات يذهب إليها ويعود كل يوم دون أن يعترضه خطر أو يداهِمَهُ شرٌّ أبداً, حتى كانت الفاجعة له ولأهلهِ حين أقدم بعض الغوغاء ممن لا يحلو لهم العمل إلاّ في الظلام ويعجزون عن مواجهة وحل مشكلاتهم بالطرق القانونية أو عبر وجاهات وعُقّال المجتمع الذين اعتدنا على أنّهم هم المرجع في حل غالبية الخلافات الأُسرية وعلاقات المصاهرة..
حين يعجز هؤلاء المعوّقون عن مواجهة واقعهم يلجأون لمثل هذه الأعمال الدنيئة (خطف الأطفال) ،يشجعهم على ذلك عدم وجود الحزم والضبط اللازم من الجهات الأمنية المختصة، وهو ما يهدِّد الأمن والسلام الاجتماعي وينذر بعواقبٍ وخيمة على الدولة والنظام بأسرهِ إنْ هما ظلاّ يتفرّجان على هذه الأوضاع ولم يسرعا لاتخاذ الإجراءات القانونية الحازمة والصارمة لردع كل من تسول له نفسه المريضة الإقدام على اختطاف الأطفال وترويع الآمنين..
خاصة وأنّ فاجعة اختطاف الطفل أسامة من قلب العاصمة صنعاء وسط اليمن، ليست الأولى في مجتمعنا فقد سبقها العديد من حوادث الاختطاف المماثلة، والتي لم تحرِّك الجهات المعنية تجاهها ساكناً، واكتفتْ في أحسن الأحوال بالتوسُّط عبر المشايخ و الوجاهات الاجتماعية لإعادة الأطفال المختطفين دون أنْ تجرؤ على تقديم أيٍّ من أولئك المجرمين خاطفي الأطفال لأيّة محاكمة ينالون خلالها جزاءهم العادل والرادع في الوقت نفسه لهم ولأمثالهم من المرضى الذين تسول لهم أنفسهم المريضة الإقدام على مثل هذه الجريمة.
ولو كانت الجهات الأمنية المعنية قامت بدورها كما يجب منذ أوّل حادثة اختطاف لما حدثتْ جريمة اختطاف الطفل أسامة، التي هي تتويج لمسلسل الإهمال وعدم القيام بالدور اللازم من قبل الأجهزة الأمنية، وإلاّ لما تمادى خاطفو أسامة في جريمتهم، خاصةً وهم من منتسبي المؤسسة العسكرية التي يعوّل عليها الجميع حراسة هذا الوطن وحماية أمنهِ واستقرارهِ في حالة-لا قدّر اللهُ- وحصل مثلما حصل في مصر أو تونس، لكن إذا كان الخوف يأتي من مصدر الأمان فعلى الدنيا السلام، وهذا يذكرنا بالمثل الشعبي القائل: {إذا قد بيت الله يوطِّل فأين الكِنان؟!}.
فاجعة الطفل أسامة وقعت حسب قوله وتأكيد أهله وشهادة جيرانه وزملائه في تصريحاتهم لنشوان نيوز حين كان في المدرسة وأتته إحدى بنات جيرانهم تدعوه ليجيب والدها الذي ينظر له كوالده بحكم أنهم جيران ودائماً ما يأتي والدها إلى منزل أسامة بشكل شبه يومي للمقيل وأحياناً الغداء.. هذا الأمر جعله يلبي طلب ياسمين ابنة الجيران فور محادثتها له، فخرج على إثرها إلى خارج المدرسة ليرى ماذا يريد والدها، ومن هنا بدأت المأساة وكانت الفاجعة حين أقدم والد ياسمين الضابط في القوات المسلحة بإدخال أسامة إلى السيارة هو وبعض زملائه وأقربائه الذين تربطهم بوالد أسامة علاقة مصاهرة لم يكن هو فيها لا وسيط ولا طرف، لكن شاءت إرادة الجبناء إلاّ إدخال والد أسامة في المعمعة ليكون خاتمة ذلك التهور والإقحام البليد اختطاف أسامة دون ذنبٍ له سوى أنّه ابن الشخص الذي تربطهم به علاقة المصاهرة.
المتهم الرئيس في الجريمة الذي أقدم على ارتكابها بتخطيط وتسهيل من ابن عمه والد ياسمين هو متزوج من فتاة من قبيلة والد أسامة تربطها به علاقة أسرية بعيدة نوعاً ما، وحين تم زواج المتهم من هذه الفتاة كان عبر أناسٍ آخرين ولم يعلم والد أسامة بهذه المصاهرة إلاّ حين ذهبت زوجة المتهم لبيت أهلها ورفضت العودة إلى بيت الزوجية بسبب ما نالها منه من العذاب وشظف العيش - حسب قولها - مع ذلك المجرم التعيس، الأمر الذي ألجأَهُ إلى والد أسامة بوساطة من ابن عمه والد ياسمين ليقوم بإصلاح ذات البين حسب ما هو متعارفٌ عليه في مجتمعنا، لأنّ الوسيط في الأول والأخير ليس له من سلطة سوى الإقناع،وما سواه فليس ملزماً به، وعمله في الأول والأخير هو عمل خيري لا يُلام عليه إنْ هو لم يفلح فيه.
لكن العقليات العفنة ممن استحوذ عليها قانون الغاب أبت إلاّ أنْ تزج بوالد أسامة في المعمعة على الطريقة الهمجية التي تقول : ((إنْ لقيت الغريم والاّ ابن عمّه)).. فكانت جريمة اختطاف الطفل أسامة ليكون الإفراج عنه مقابل إعادة زوجة المتهم الرئيس في القضية،وبتدبير وتخطيط ممن كان يعتبره بمقام والده.
والموحش والمقزّز في هذه الجريمة الذي يبعث على الاشمئزاز هو أنّ والد ياسمين بمجرّد اختطاف أسامة من المدرسة أوصل بقية الخاطفين إلى خارج العاصمة بعد أن أعطوه مخدرا لم يفق منه إلاّ وهو في بيت الخاطف الرئيسي في قرية والد ياسمين النائية التي تدور حولها العديد من الشبهات والتهم الجنائية على رأسها المتاجرة بالأعضاء البشرية وتشليح السيارات.
حين فاق أسامة من المخدر لم يكن يعلم أنه قد قطع مسافات طويلة عن العاصمة صنعاء ولم يكن حتى تلك اللحظة قد استوعب ما حدث حتى تكلّم إليه المجرم الرئيس وهو يضع المسدس - كما قال أسامة – على رأسه ويقول له مهدِّداً : إذا لم تعد زوجتي سأقتلك هنا ولن يعلم بمكانك أحد. ثمّ أعطاه بعد يومين تلفوناً يكلم به والده والمسدس على رأسه بأنه في أحسن حال ويطلب منه التوسط لإعادة زوجة الخاطف رغم أنه ليس له أية سلطة عليها.
أجبروه على القول بأنه في أحسن حال رغم أنهم وضعوه في مكان إنفرادي وأغلقوا عليه الباب ولم يكونوا يسمحوا لأحدٍ زيارته أو الاطمئنان عليه حتى من الأطفال الذين هم بسنِّه، الأمر الذي ولّد لديه عقدة خوفٍ شديدة، خاصة وقد مارسوا عليه وهو طفل بريء وبائس شتى أنواع القمع والاضطهاد النفسي بأشكالٍ وحشية يندى لها الجبين ويشعرك أن الخاطفين تخرجوا من المؤسسة العسكرية بتل أبيب لا من مؤسسة يمن الثاني والعشرين من مايو المجيد.
والد ياسمين الرائد في الجيش اليمني الباسل بمجرّد إيصال أسامة وبقية الخاطفين إلى خارج العاصمة عاد وبكل وقاحة تنم عن مجرم محترف له في هذا المجال باعٌ طويل إلى بيت والد أسامة وتناول معه الغداء وكأنّ شيئاً لم يكن، وليرقب الموقف عن كثب ويرى ردّة فعل والد أسامة الذي لم يتم غداءه لأن قلبه - حسب قوله – كان مقبوضاً على ولده أسامة الذي تأخر عن الحضور من المدرسة على غير عادته.
وحين ترك الغداء وخرج ليبحث عن أسامة لم يكلِّف والد ياسمين نفسه حتى بطمأنته على ولده وتركه في فاجعته ودوّامته دون أنْ ينبس ببنت شفه، بل زاد على ذلك أن عاد لمنزله وكأن أمر ابن صديقه الذي كان لا يزال للتوِّ يأكل الغداء معه لا يهمه بشيء.
قضى أسامة ثلاثة عشر يوماً في الأسر يتجرّعُ صنوف العذاب والترويع والقمع بدون أيّ ذنبٍ في ظلِّ عجزٍ تام من قِبَلِ الأجهزة الأمنية عن تحريره أو ضبط الخاطفين المحسوبين على المؤسسة العسكرية.
وخلال هذه الفترة كان يقيّده الخاطفون بكل قسوة بحبالٍ غليظة تركت آثرها على قدميه الطريتين اللتين لا تقوى على مثل هذه الوسائل الوحشية والتي لا تزال باقية إلى وقت التقائنا به رغم أنّ الخاطفين حاولوا أن لا يطلقوا أسرَهُ إلّا بعد أن زالت معظم آثار التعذيب الوحشي الذي مارسوه عليه،لكنّهم لم يستطيعوا محو الآثار النفسية السيئة التي حفرت بقلبه أخاديد موحشة لمجتمعٍ همجي لا يزال يتعامل بعقليّات القرون الوسطى وشريعة الغاب في زمنٍ لم يعد لمثل هؤلاء الرعاع مجالٌ لبسط سطوتهم إلّا في بلد الحكمة والإيمان الذي كان من المفترض أن تكون هي أولى الدول التي تتخلّى عن هذه العادات السيئة باعتبارها دولةً حضارية كان لها مع القوانين والأنظمة والمدنية باعٌ طويل.
يقول أسامة الذي تسبقه إلى التعبير عن مأساته عبراته وإجهاشه بالبكاء كلما سرد موقفاً من المواقف الهمجية القاسية التي تعرض لها على يد خاطفيه : لقد تركوني دون أكل الأيام الأولى وكانوا يكتفون بما يقدمه لي أحد الأطفال من تحت الباب من كسرة خبزٍ يابسة لم أكن أستطع بلعها دون شيء آخر معها، وحين بكيت وطلبتُ منهم إعادتي لأهلي ضربوني ضرباً قاسياً وقام أحدهم ولطَمَني على وجهي حتّى أسقط أحد سنوني التي كانت تؤلمني ولم أقوَ على قلعها من قبل، وحين كان يأتيني البول كنت أتبول من النافذة لأنهم لم يسمحوا بخروجي البتّة، أمّا الغائط فلم يأتني لأنّي لم أكن آكلُ شيئاً، الأمر الذي دفعهم إلى إخراجي من سجني الانفرادي والذهاب بي إلى الوادي للعمل الشاق في حقولهم الزراعية وحتى أضطر للأكل، وحين حاولت الفرار من الوادي جرّاء التعب الذي لحقني من العمل بالمفرس أو الحجنة تبعوني وضربوني ضرباً مبرحاً حتّى أغمي عليّ.
كانت أقدامي لا تزال جريحة من آثار الحبال التي قيدوني بها وإذا بهم يزيدون الطين بلّة ويعاقبوني بالعمل بالحقل وحمل المفرس الذي لا تزال آثاره على يدي رغم أنّهم لم يطلقوني إلاّ بعد زوال معظم آثار التعذيب الجسدي، أمّا التعذيب النفسي فقد رأينا نحن آثارها حين كان أسامة يجهش بالبكاء وهو يرتجف خشيةً من عودة أولئك التتار الذين حاولوا أن يسرقوا من البراءة والطهارة أنقى صورها.
ويضيف: كنتُ أتوسّلُ إليهم وأبكي بحرقة عَلَّهم يفرجوا عنّي وإذا بهم يزدادون عتوّاً ونفوراً، ولم أجد في القرية بأكملها من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر كما هو سائد في كل المناطق ليطلقوا سراحي،فقد كان الكل ينظرون لي وكأنّ ما أنا فيه أمرٌ عادي وليس غريباً عليهم.. أمّا أقسى ما كنتُ أعانيه فهو حين يدنو الليل وأنا لوحدي داخل ذلك السجن الانفرادي المظلم الذي كنتُ أحس أنّ الأشباح تكتنفه من كل جانب وكانت الكوابيس المفزعة تقض مضجعي على الدوام،ناهيك عن أنّهم لم يعطوني حتى فراشاً أو غطاءً فكنتُ أضطرُّ لأن أتغطّى بقميصي في ظل بردٍ شديد يسود تلك القرية النائية.
ثلاثة عشر يوماً ووالد أسامة ووالدته وإخوته يعيشون في جحيمٍ حقيقي ومحرقة أعصاب لا يقوى على تحمّلها إلاّ الأفراد القلائل ممن يهبهم الله الصبر والثبات حين تنزل المُلِمّات.
والغريب والمحزن في هذه الجريمة التي يشدّد على عقوبتها القانون أنّهُ لولا تدخُّل أحد المشايخ الفضلاء لما انتهت فصولها التراجيدية حتى الآن، لأنّ الجهات الأمنية اكتفت بتحرير المذكرات ولم تقدِّم أيّ جهدٍ عملي على أرض الواقع لإطلاق الطفل أسامة أو القبض على المجرمين الذين لا يزالون حتى كتابة هذه الأسطر طلقاء؟؟َ!
فهل ستجد جريمة اختطاف الطفل أسامة تجاوباً من المعنيين لضبط وردع الجناة قانونيّاً ليكونوا عبرة لغيرهم من الغوغاء أم ستفتح الباب واسعاً للمزيد من جرائم الاختطاف التي انتشرتْ مؤخراً في ظلِّ التقاعس المريب الذي تبديه الأجهزة الأمنية تجاه مثل هكذا جريمة..
نأمل فقط أنْ تكون جريمة اختطاف أسامة هي خاتمة المطاف لهذا السيناريو المرعب الذي لعب دور البطولة فيه أفرادٌ من قوّاتنا المسلّحة الأشاوس، وهذا لن يتأتّى إلاّ إذا اتُخِذَتْ بحق الجناة أشد وأقسى العقوبات القانونية.