دراسات وبحوث

رسائل التبصير.. كشف ألغام التحرير: لغم عفوية انطلاق المقاومة العراقية

تضليل متعمد ام وعي هابط؟

من الامور المثيرة للاستغراب، ولكنها من اكثرها توقعا، ان يظهر من يحاول ان يزور احداث مازال شهودها واحداثها ووثائقها حية وموجودة ومازالت ذاكرة الناس العاديين تستعيد كثيرا صورها واثارها،

ومازال الكثير من ابطالها احياء بيننا ومازلنا نعيش في بيئتها ولم تمض عليها عقود أو قرون كي يصبح ممكنا تغيير الوقائع المادية بعد غياب الشهود والوقائع أو ضعف الذاكرة! ومن بين اهم وابرز شهادات الزور والتزوير، أو السذاجة والوعي الهابط، اطروحة ان المقاومة العراقية كانت عفوية في انطلاقتها ولم يكن هناك اي اعداد مسبق لها!

وهذه الشهادة قالتها افواه كثيرة ومتناقضة التكوين والموقف والهدف، بعضها وطنية والاخرى من اعداء المقاومة،، لكنها تقف جميعها فوق تلة عامل مشترك وهو انكار وجود اعداد مسبق للمقاومة العراقية!

اننا ونحن نتصدى لهذه الاطروحة الان في ذكرى الغزو الثامنة، نريد التاكيد على ان هدفنا ليس تسليط الضوء على خطأ شخص أو كتلة بل على مرض مزمن اصاب افراد وكتل وحرمها من نعمة البصر والبصيرة حينما يتعلق الامر بشهادة تقر للغير حقهم وحقوقهم، وهو مرض مضر جدا لانه يزرع الشكوك وينشر الفتن، اذا كان من اصيب به وطنيا، في وقت نحن احوج ما نكون فيه للتوحد والتضامن من اجل طرد الاحتلال وليس للانغماس في جدل جنوني يفتقر من يثيره إلى القدر المطلوب من الحكمة والتعقل وبعد النظر في تقرير كيف ومتى يثير الامور الحساسة.

ان الاسئلة والتساؤلات الواجب التعامل معها للرد على هذه الفرية هو التالي: هل يمكن ان تنطلق مقاومة ضد اشرس واكثر النظم الاستعمارية تطورا وقوة وخبرة وامكانات، وهو النظام الاستعماري الأمريكي، وفي بيئة خلو ساحة العالم من اي منافس أو رادع للاستعمار الأمريكي، كما كان الحال في فترة الحرب الباردة، ومع ذلك نجحت المقاومة العراقية في تمريغ انفه في اوحال الفشل والهزيمة واسقطت مشروعه الاكبر لحكم كل العالم بصورة منفردة، وعدت لذلك المقاومة الاسرع في انطلاقتها والاعظم والاكثر تعقيدا والاوسع انتشارا في كل تاريخ المقاومات في العالم ودون اي استثناء، هل يمكن ان تكون هكذا مقاومة بدون اعداد مسبق؟

وهذا السؤال لابد وان يقترن بسؤال جوهري اخر يفرض نفسه من اجل التذكير بطبيعة الصراع ومن يخوضه وبما يفرضه من الزامات والتزامات وطنية واخلاقية وهو: هل المقاومة المسلحة بعد الغزو هي بداية الصراع ام انها تتويج له؟ فأذا كان الجواب انها بداية للصراع فان من يقول بذلك يسقط نفسه في امتحان الصف الخامس الابتدائي لانه يجهل تطور الصراع واسبابه الحقيقية، اما اذا تم الاعتراف بان المقاومة هي تتويج حتمي لصراع طويل بدأ منذ تأميم النفط وكان بالغ التعقيد، خصوصا في المجال الاستخباري، اي تعمد العدو المشترك – أمريكا والكيان الصهيوني وإيران - التضليل والتمويه وزرع الشكوك وعدم السماح للوطنيين بتكوين صورة واضحة للصراع من اجل ابقاءهم متفرقين، فان هذه الحقيقة تفرض احكاما وطنية واخلاقية صارمة تجرد من يقول بعفوية المقاومة من احقادة ومواقفه السابقة ولا تترك له خيار سوى التلاحم والتعاون والتحالف مع من يخوض الصراع الستراتيجي الاعظم منذ عقود مع اقوى استعمار في التاريخ وهو الاستعمار الأمريكي، مدعوما باشرس قوتين اقليميتين واكثرهما حقدا على العرب والهوية العربية وهما الكيان الصهيوني والنزعة الشوفينية الفارسية التي تقبض على السلطة في إيران، فهل حصل هذا؟ هل تناسى من له خلافات ايديولوجية وسياسية مع البعث تلك الخلافات وتحالف مع البعث قبل الغزو وبعده ضد من يفترض انه عدو مشترك لكل الوطنيين؟

دعونا نتناول هذه المسألة الحساسة من خلال تثبيت ملاحظات جوهرية بصيغة اسئلة محددة، مع ضرورة تجنب الانجرار إلى مهاترات يريد البعض جرنا اليها:

1 – بم تميزت المقاومة العراقية؟ هناك اجماع عربي وعالمي على حقيقة فرضت نفسها وهي الانطلاق الفوري للمقاومة العراقية المسلحة بمشاركة الاف المقاتلين العراقيين، ومعهم قاتل حوالي 800 مجاهد عربي تطوعوا قبل الغزو ودربوا من قبل المختصين العراقيين.

هذه الحقيقة تفرض السؤال التالي: هل يمكن عمليا انطلاق الاف المقاتلين في مختلف انحاء العراق لمقاتلة الغزاة بصورة عفوية؟ ان القيمة الخاصة لهذه الحقيقة لا تظهر الا اذا تذكرنا حقيقة اخرى معروفة عالميا وهي ان كل المقاومات الحديثة المعروفة، ودون اي استثناء، قد ابتدأت بانفار قليلي العدد ثم توسعت مع زمن وصل حد عقود من الزمن قبل تحول المقاومة إلى ثورة مسلحة، وهذا ينطبق على الثورة الجزائرية والثورة الفيتنامية والثورة الفلسطينية وغيرها.

لذا لابد من التساؤل المنطقي التالي: لم وكيف حصل ان انطلقت المقاومة العراقية بصورة فورية وبمشاركة الاف المقاتلين لمواجهة قوات الاحتلال في بغداد وغيرها؟ هل نزل هؤلاء المقاتلين من القمر بعد اعدادهم من قبل خبراء قمريين؟ ان التعامل مع هذه التساؤلات والاجابة عليها بعيدا عن الانانية والاحقاد والمواقف السياسية والايديولوجية المسبقة تعد قضية وطنية واخلاقية وحقيقة تفرضها المعايير الموضوعية التي لابد من احترامها والالتزام بها للوصول إلى الموقف الصحيح وطنيا واخلاقيا من جهة، ومن متطلبات عمل الضمير الحي من جهة ثانية.

وحقيقة ان المقاومة كانت شرسة عند دخول بغداد تؤكدها معارك يعرفها كل بغدادي مثل معركة الاعظمية، التي كانت تدور بقيادة الشهيد القائد صدام حسين، في نفس وقت اسقاط التمثال، ومعارك نفق الشرطة والكرخ في الصالحية وغيرها، وهي معارك تم تجاهلها عمدا من قبل اعلام الاحتلال الذي ركز على مناطق ساد فيها هدوء نسبي لاسباب معروفة ليثبت عدم وجود مقاومة. وفي معارك بغداد تلك خصوصا يوم 9 / 4 فقدنا شهداء كثر.

2 – من كان الهدف الرسمي والفعلي لقوات الاحتلال؟ ان طرح هذا السؤال عمل بالغ الاهمية لانها يذكرنا بقضية وطنية واخرى اخلاقية، فوطنيا لا يجوز لوطني مهما كانت خلافاته مع وطني اخر ان ينكل به مع ان ذلك الوطني يتعرض لتنكيل الاحتلال ويقاتل الاحتلال، واخلاقيا، وفي حالة العراق، لا يجوز ان نشارك الاحتلال احد اهم اهدافه وهو اجتثاث البعث عبر انكار فضائله واهمها مقاومته للاحتلال منذ عام 1991.

من المعروف ان البعث، وليس غيره من القوى السياسية الوطنية، بقياداته وكوادره وانصاره كان الهدف الفعلي والرسمي لكل القوى التي شاركت في احتلال العراق، ولذلك كانت ماكنة الاحتلال العسكرية والامنية والسياسية والدعائية تحصد ارواح البعثيين بالمئات أسبوعيا، وتحاول شيطنتهم بنشر الاكاذيب حولهم، وملأت سجون الاحتلال بمئات الالاف من البعثيين منذ اليوم الاول للاحتلال، وهذه الحقيقة تقابلها حقيقة اخرى معروفة ايضا وهي ان الشخصيات والكتل الاخرى غير البعثية المناهضة للاحتلال لم تتعرض لاي هجمات أو قتل أو اعتقالات منظمة، في السنوات الثلاثة االاولى من الاحتلال، لذلك كانت تستطيع التحرك بسهولة، بل ان الاحتلال كان يريد بروز وطنيين ينتقدونه لكنهم ليسوا بعثيين من اجل اثبات انه جاء من اجل نشر الديمقراطية وكان الكثير من مناهضي الاحتلال يتمتعون بحرية نقد الاحتلال دون عقاب، وفي هذا الاطار تم ابراز شخصيات وطنية في الفضائيات وغيرها وهي تهاجم الاحتلال، لكن اي بعثي لم يسمح له بالرد.

ما معنى هذا عمليا؟ هل يؤثر ذلك على مبادرة ودور البعثيين الجهادي في الرد على الغزاة؟ نعم كان نشوء كتل ونخب بعد الاحتلال مبادرة وطنية حقيقية، لكنها ايضا كانت خطوة مطلوبة من قبل الاحتلال، فانشاء كتل وتنظيمات بديلة عن البعث اريد به ملأ الفراغ الذي توقع الكثيرون حصوله نتيجة ضرب واجتثاث البعث، وهي خطوة كان احد اهدافها استقطاب الجماهير العراقية المناهضة للاحتلال من قبل الكتل والشخصيات الوطنية غير البعثية وحرمان البعث من جماهيره وعزله، من جهة، ومنع عقد تحالف بين هذه النخب والبعث لمواجهة الاحتلال سوية من جهة ثانية، وهو تحالف لو قام مبكرا لكان الاحتلال قد تعرض لهزائم اكبر واخطر، وعدم قيام تحالف مع البعثيين من قبل مناهضي الاحتلال يسمح بالتنكيل بهم دون اعتراض الشخصيات والكتل الوطنية، كما انه كان نتاج خطة أمريكية لاستدراج وطنيين للاشتراك في العملية السياسية تحت ظل الاحتلال من جهة ثالثة، ولعل حضور بعض الوطنيين مؤتمر القاهرة للمصالحة في عام 2005 مثال على ذلك، وحضروا رغم اننا نصحنا بعضهم بعدم الحضور.

وبالفعل راينا اجتماعات كثيرة تعقدها عناصر ونخب وطنية بعد الاحتلال علنا ودون اي اعتراض من الاحتلال وتنقل وقائع الكثير منها عبر وسائل الاعلام التي سيطر عليها الاحتلال، وشجع الاحتلال عناصر كانت تعيش في الخارج وتعمل مع ماكان يسمي ب(المعارضة العراقية) على الانضمام لهذه الجهود لتشكيل (بديل وطني عن البعث) من اجل تسهيل احتواء هذه النخب الوطنية، أو على الاقل زرع عناصر مرتبطة استخباريا بالاحتلال فيها وجعلها تعيش حالة قلق وغموض في مواقفها واتجاهاتها. لقد تجنبنا ذكر اسماء نخب أو اشخاص حرصا على ابقاء باب الحوار مع كل الوطنيين مفتوحا من اجل الوحدة، ولكن اذا اعترض احد على هذه المعلومة فلدينا المعلومات الدقيقة والموثقة، بالاسماء والتاريخ والاماكن والصور والتسجيلات وغير ذلك، التي تثبت ما نقول.

وكان التكتيك الأمريكي هذا له هدف بعيد، اتضح الان، وهو ادراك أمريكا بان الكتل الصغيرة والنخب والشخصيات الوطنية غير قادرة على تكوين تيار وطني جماهيري فعال وقوي يواجه الاحتلال ويعرضه لتحديات حقيقية، بل على العكس فان نخبوية هذه الظاهرة تجعل بالامكان ممارسة الضغط عليها من اجل احتواءها لاحقا، أو تصفيتها بسهولة اذا فشلت في احتواءها من خلال استغلال نقطة الضعف القاتلة فيها وهي انها لا تملك قواعد جماهيرية تهدد الاحتلال بها وتجعل عملها مؤثرا. وفي هذا الاطار راينا الاعلام الداعم للاحتلال يستضيف شخصيات وطنية ويسمح لها بمهاجمة الاحتلال في حين غيب البعث والبعثيون عن الاعلام عمدا، في خطوة محسوبة تدعم قرار الاحتلال باجتثاث البعث والايحاء بانتهاءه وزواله من الساحة العراقية! ولذلك كان اسمه يرفق دائما اما بكلمة (السابق) بنفس طريقة وصف الاتحاد السوفيتي السابق، أو (المنحل) أو (المحظور)، وكان طبيعيا، لهذا السبب، ان تلتف الجماهير حول الرموز المناهضة للاحتلال التي تظهر في الاعلام لانها وحدها من تهاجم الاحتلال في الاعلام، وكان طبيعيا ان يكون الهدف المركزي هو الايحاء ب(ضعف البعث وتحلله)!

انظروا الان في العام الثامن للغزو: هل نجحت التشكيلات التي اسست لتكون بديلا عن البعث منذ عام 2003؟ واين وصلت بعد ان نجح البعث في اسقاط مخطط اجتثاثه والغاء دوره وعاد منذ سنوات بصفته القوة المركزية في العراق؟ اننا حينما نطرح هذه التساؤلات لا نريد الغاء دور احد أو التقليل من شأنه مهما كان حجمه، بل نريد تثبيت حقائق ربما تساعد على فهم افضل للوضع العراقي من قبل الجميع بما فيهم نحن البعثيون، تمهيدا لتوحيد الصف الوطني المبني على الوضوح والمصارحة والاحترام.

هنا يجب ان نذكّر بحقيقة معروفة وهي انفراد المقاومة البعثية بميزة لم تشاركها فيها فصائل غير بعثية اسست فيما بعد: البعثيون كانوا يقاتلون الاحتلال وبنفس الوقت يردون هجمات فرق الموت المتعددة، منها التابعة للاحتلال وعملاء إيران والمخابرات الأمريكية الذين كانوا (يصطادون) البعثيين علنا وفي كل المدن في حين ان غير البعثيين كانوا قادرين على التحرك السهل والعمل السهل ومحاولة تأسيس مراكز وطنية بديلة دون وجود من يحاول قتلهم أو سجنهم أو الاعتداء عليهم، بشكل عام. والسؤال المهم هو: هل أثر ذلك على دورهم الجهادي؟ ان الجواب الان وبعد مرور سبعة اعوام على الغزو هو: كلا ونعم، كلا لان البعثيين كانوا المبادر الاول للقتال بعد دخول قوات الغزو للعراق، ابتداء من الجنوب في ام قصر وصولا إلى بغداد. ونعم لان انشغال البعثيين بمواجهة الهجمات الشرسة وتدمير الكثير من منظماتهم الحزبية المدنية والجهادية واسر مئات الالاف منهم واستشهاد عشرات الالاف قد اثر طبعا على مستوى قتالهم بعد شهور من الاحتلال، مقارنة بما كان يمكن ان يصل اليه القتال لو لم يتعرضوا للهجمات البربرية الفاشية الدموية. ان هذه الحقيقة معروفة على نطاق واسع وهي تكفي وحدها لالزام كل وطني عراقي اخلاقيا ووطنيا باحترام دور البعثيين ودعمهم والوقوف إلى جانبهم ومساعدتهم على مواجهة الحملات الاجرامية ضدهم وليس التشكيك بهم وتركهم وحدهم يواجهون اشرس حملة ابادة تعرض لها العراق، بل ان البعض من الوطنيين راح يلفق الاتهامات التي تحط من دور وشأن البعثيين في المقاومة ويردد اقوالا لئيمة تنبض بحقد واضح على البعث!

وعلينا لتقريب الصورة اكثر ان نطرج السؤال التالي: لو كان من ينفي تخطيط البعث وقيادته للمقاومة هو نفسه ضحية تلك الهجمات الشاملة، التي تعرض ومازال يتعرض لها البعث، هل كان سيستطيع اخراج راسه من باب داره؟ للعلم فقط ان احد من قالوا بعفوية المقاومة ترك العراق بعد اول تلويح له بالقتل ولم يعد اليه حتى الان، فاذا كان التلويح بالقتل قد اجبره على ترك العراق كيف اذن يسمح لنفسه بعدم تفهم وضع البعثيين، حتى لو افترضنا لاغراض الجدل فقط انهم لم يقاتلوا نتيجة انشغالهم برد حملات الابادة؟ اليست حماية الذات المقاتلة من الابادة والاسر هي احد اهم واجبات ثوار حرب العصابات والذي يضمن مواصلة الثورة حتى لو حصل تراجع في العمل القتالي بصورة مؤقتة في حرب طويلة ومعقدة كحرب العراق؟

لقد سمعت انا شخصيا مباشرة من احد انصار المقاومة، وهو يقول لي بتشف واضح جدا: (أستاذ صلاح لقد انتهى دور المقاومة البعثية بالقضاء على جيش محمد وهو الفصيل الوحيد الي اسستموه)! هذا المنطق القاصر، بل المريض، في التعامل مع قضايا التحرير والمقاومة مع الاسف هو منطق نساء الحارة اللواتي يبتهجن بطلاق احداهن نكاية بها مع ان الطلاق قد يصيبهن تاليا، وهو منطق لا عقلاني ومحزن جدا يحرك البعض وليس المنطق العقلاني القائم على الشعور بالمسئولية الوطنية والاخلاقية وقبول الاختلاف مع الاخر، والذي يفرض البحث في كيفية دعم كافة الفصائل خصوصا تلك التي تتعرض للضربات المؤذية وحدها أو اكثر من غيرها، كجيش محمد الذي كان اول فصيل قاتل الاحتلال وشكله القائد الشهيد صدام حسين وتشكل من نخبة ممتازة من الضباط والمقاتلين المدنيين البعثيين. ان منطق هؤلاء متخلف وساذج ومتهور لانه يأخذ لحظة واحدة من المشهد وهي الشل المؤقت لجيش محمد ويبني عليها فكرة انتهاء المقاومة التي تقوم بها فصائل بعثية كثيرة غير جيش محمد، لانه منطق يريد اثبات فكرة عاطفية سلبية حبيبة على قلب هذا البعض وهي ان البعث قد انتهى! وهنا يجب ان اقول وانا اعرف ما اقول ان البعث يقاتل منذ بدء الغزو وحتى الان، ويقدم شهداء في اسبوع واحد، وفي منطقة واحدة فقط من العراق، اكثر من المجموع الكلي لكل هذه الكتل السياسية والدينية والفصائل غير البعثية في كل العراق، واستطيع تقديم الادلة المادية على صحة هذه المعلومة.

3 – ماذا جرى منذ بدء الغزو؟ هل حصلت مقاومة شعبية اضافة للمقاومة العسكرية النظامية؟ وهل حصلت عمليات استشهادية؟ من قام بها؟ لقد قدم العراق اسما لمدينة صغيرة كانت مجهولة حتى للكثير من العراقيين لكنها اشتهرت لانها كانت اول صدمة للاحتلال وهي المقاومة الباسلة لمدينة (ام قصر) في جنوب العراق والتي نجحت، رغم امكاناتها المحدودة، في مواصلة منع الغزاة من دخولها لثلاثة اسابيع بفضل التكامل الرائع بين عمل الجيش والمقاومة الشعبية المسلحة. هل يذكر من يريد تجريد البعثيين من فضائلهم هذه الحقيقة؟ وهل من قاوم في ام قصر بعيد عن الحزب ام انهم ابناء البعث؟

اما الاستشهاد والعمليات الاستشهادية فقد دشنها البعثيون وليس العناصر الاسلاموية، كما يدعي البعض، خصوصا النساء البعثيات ولدينا الشهيدة البعثية وداد الدليمي والشهيدة البعثية نوشة الشمري اللتان كانتا اول استشهاديتين تفجران نفسيهما في قوات الاحتلال وتلحقان بها خسائر فادحة. وفي قاطع الفرات الاوسط للعمليات العسكرية، وبتاريخ 29 مارس/آذار 2003 م اثناء القتال مع الغزاة قام المقاتل علي جعفر موسى حمادي النعماني بتفجير نفسه في اول عملية فدائية قتل بها (11) ضابط وجندي أمريكي، بعد ان قاد سيارته واقتحم بها نقطة تفتيش أمريكية ما بين مدينتي (النجف وكربلاء) وفجر نفسه فيها. وكان الشهيد البطل قد تطوع فدائياً ليفتح أبواب المقاومة الشعبية الباسلة، وقد منحه الرئيس الشهيد صدام حسين بعد تنفيذ العملية البطولية وسام الرافدين من الدرجة الاولى.

كما ان لدينا قادة الحزب وكوادره الذين استشهدوا وهم يقاومون الاحتلال ببسالة، مثل الرفيق نايف شنداخ عضو قيادة قطر العراق للحزب والذي كان يقاتل الاحتلال في النجف ويقود المقاومة هناك، والذي استشهد وهو يقاوم تقدم قوات الاحتلال. وهذه الحقائق تقدم الدليل القاطع ليس فقط على وجود مقاومة شعبية باسلة بل أيضا على انها بدأت في جنوب العراق وبقيادة البعثيين، كما وضحنا بعكس الادعاءات غير الصحيحة عن تأييد ابناء الجنوب للاحتلال.

وعلينا هنا ان نذكّر بحقيقتين بارزتين:

الحقيقة الاولى: لقد اختارت القيادة العسكرية الأمريكية التقدم نحو بغداد عبر الطريق الصحراوي خارج المدن لتجنب المقاومة الشرسة للقوات المسلحة العراقية والقوات الشعبية المتمركزة في المدن أو عند حافاتها، وتلك حقيقة معروفة مكنت القوات المحتلة من تجنب التعرض للخسائر الكبيرة جدا، ولكنها حينما كانت تضطر لدخول مدينة كانت تواجه مقاومة باسلة وضارية ومكلفة من قبل ابناء الشعب خصوصا من فدائيي صدام ومنظمات الحزب المسلحة.

الحقيقة الثانية: في منتصف عملية التقدم نحو بغداد اصدر دونالد رامزفيلد وزير الحرب الأمريكي امرا بايقاف القتال والتقدم ليومين وذلك لضراوة المقاومة التي تبديها القوات المسلحة والقوات الشعبية وقال بانه سيعيد النظر في الستراتيجية العسكرية الأمريكية التي فشلت في شل المقاومة العراقية قبل مواصلة التقدم نحو بغداد، فهل يوحي هذا الامر المعروف بشيء أو فكرة غير ان المقاومة العراقية بشقيها العسكري النظامي والشعبي كانت فاعلة جدا ومؤثرة جدا؟

4 – مم تكونت فصائل المقاومة فيما بعد؟ اذا تركنا الفصائل البعثية التي عملت تحت اسماء غير بعثية، تنفيذا لاوامر القيادة لتجنب كشف مقاتليها على اعتبار ان البعثيين عناصر معروفة حكمت العراق لمدة 35 عاما مما يجعل العمل باسماء بعثية عاملا مساعدا على اعتقالها أو قتلها بمجرد اجراء جرد باسماء البعثيين في كل منطقة، نقول اذا تركنا الفصائل البعثية وتعاملنا مع الفصائل غير البعثية التي نشأت بعد اشهر أو سنوات من غزو بغداد، ماذا نجد؟. يقينا ودون ادنى شك فان الفصائل غير البعثية تشكلت من كوادر البعث العسكرية والمدنية، خصوصا ضباط المخابرات الوطنية العراقية الذين انتشروا تنفيذا لاوامر الحزب في كل مكان وشكلوا، أو ساعدوا على تشكيل فصائل مقاتلة بحكم خبرتهم العسكرية والاستخبارية والتدريب الذي تلقوه قبل الغزو على حرب العصابات أو صنع الاسلحة والمتفجرات وتصليح الاسلحة.

اليوم نقولها بكل صراحة: لا يوجد فصيل واحد يقاتل الاحتلال الا وللبعثيين دور اساسي في تشكيله أو دعمه وتمكينه من امتلاك الخبرة العسكرية أو الاستخبارية، واليوم نقولها بكل صراحة أيضا بان الاوامر قد صدرت قبل الغزو وتم التاكيد عليها بعد الغزو بعدم اصدار بيانات عسكرية من قبل الفصائل أو المقاتلين البعثيين والسماح بقيام فصائل غير بعثية بنسبها إلى نفسها والسبب هو ان البعثيين كانوا لا يريدون جلب الانتباه اليهم وابقاء انفسهم بعيدا عن اعين مخابرات الاحتلا ل بقدر الامكان، من جهة ولتشجيع الفصائل الاخرى على الارتقاء بعملها الجهادي عن طريق نسب عمليات كبيرة ومهمة لها مما يجعلها مضطرة لقيام بعمليات اخرى بنفسها كي تحافظ على السمعة الي اكتسبتها من جهة اخرى.

والمثال على ذلك معركة الفلوجة الاولى، فقد تجنب البعث وانصاره الاعلان عن حقيقة اصبحت معروفة وهي ان من قاد تلك المعركة بصورة اساسية كان البعث بضباطه وكوادره المدنية واصدقائه غير البعثيين، ومع ذلك ترك الاعلام يتصور ان من قادها رجال دين عرفوا على نطاق واسع مع ان القتال كان يقوم به قادة وضباط بعثيون واصدقائهم، مثل جيش رجال الطريقة النقشبندية، وهو تنظيم صوفي عد بحق من اعظم فصائل الثورة العراقية المسلحة واكبرها، والذي بث يوم 9 / 4 من هذا العام فيلما وثائقيا طوله حوال الساعة عبر قناة الراي، يثبت بان معركة الفلوجة كانت بالاساس بقيادة العسكريين البعثيين وكوادر الحزب المخابراتية واصدقاء البعث ومن بايع قيادة البعث باسم الله والوطن، وقدم الفيلم الادلة على ذلك، وقال ممثل جيش رجال الطريقة النقشبندية بانه يعلن هذه الحقائق الان بعد سنوات من عدم اصدار اي بيان حول عمليات الجيش.

اما الكادر الاساس العسكري والمخابراتي والسياسي المجرب الذي قاد أو ساعد على مواصلة عمل الفصائل غير البعثية فكان بعثيا أو درب على يد البعثيين. ان الناس تطرح اسئلة منطقية لابد منها: من هم هؤلاء الذين تقدموا بالمئات وبالالاف فور حصول الاحتلال لمقاتلته؟ ما هي هويتهم السياسية؟ من اعدهم ودربهم ورباهم؟ وهل يمكن لمن لم يدرب مسبقا تدريبا عاليا ان يتقن فنون القتال الباسل والرائع الذي تميزت به المقاومة العراقية؟ هل يمكن صناعة اسلحة ومتفجرات وادوات حربية متطورة، كالتي تعطل منظومات الحرب الالكترونية لدى الأمريكيين بدون اعداد علمي مسبق؟ ومن اعد هؤلاء علميا وتكنولوجيا وعسكريا؟ هل قامت جهة غير عراقية بذلك؟ ام ان جهات عراقية هي التي تولت التدريب والاعداد؟ اليسوا من كوادر البعث والقوات المسلحة وضباط المخابرات وعلماء العراق وهيئة التصنيع العسكري الذين اعدهم البعث وأهلهم لتلك الواجبات؟ وهل يمكن لغير البعثي أو النصير للبعثيين ان يعد نفسه لمواجهة الغزو ويتدرب على السلاح مع ان ذلك مستحيل في ظروف العراق قبل الغزو؟ كيف حصل الاسلامويون الذين يقاتلون الان أو قاتلوا فيما سبق على الخبرة العسكرية مع انهم كانوا غير قادرين قبل الغزو على الحصول عليها الا اذا التحقوا بحملات التدريب التي قام بها البعث؟

5 – من اين حصلت المقاومة على ملايين قطع السلاح التي استخدمتها في مقاتلة العدو فور احتلاله بغداد؟ نعم حصل البعض على السلاح من مخازن الجيش التي نهبت بعد دخول قوات الاحتلال لبغداد، ولكن هذه الكميات كانت محدودة مقارنة بما توفر للمقاومة من سلاح وعتاد وبكميات ضخمة قدمت قبل الغزو وبعده، مازالت موجودة حتى الان بعد مرور سبع سنوات، فمن اين جاء السلاح بكمياته الضخمة هذه؟

لقد قام البعث بتوزيع ملايين قطع السلاح قبل الغزو فاصبح في كل بيت عراقي اكثر من قطعة سلاح وبطبيعة الحال اصبحت العائلة العراقية بكافة افرادها غالبا تعرف كيفية استخدام السلاح، اما بعد الغزو فقد تولى الرئيس الشهيد صدام حسين بنفسه عملية توزيع السلاح والمال، بواسطة الرفاق الذين رافقوه، وهم احياء يرزقون ويقومون يتوثيق كل ما حصل للتاريخ والحقيقة، على اوسع نطاق ممكن وامر الضباط والكوادر الحزبية بتشجيع شيوخ العشائر ورجال الدين والعناصر الوطنية المستقلة على تشكيل مجموعات مقاتلة، أو مساعدة كل من يريد القتال وتنظيم صفوفه ومنحه الخبرة العسكرية والاستخبارية. لقد كان الرئيس الشهيد يتجول في القرى والمدن ويجتمع مع الشيوخ ورجال الدين وكل من لديه الرغبة في مقاتلة الاحتلال، وامر مساعديه بايصال المال والسلاح لمن يريد القتال.

6 – كيف يمكن لمواطن مدني لم يخدم في الجيش ان يقاتل ويستخدم السلاح؟ اليس تلك الحقيقة دليل حاسم على انه درب قبل الغزو؟ ومن دربه؟ ولم دربه؟ ان من بين اعظم انجازات البعث نشر ثقافة المقاومة الشعبية وعسكرة العراق وشعب العراق وعدم الاكتفاء بوجود القوات المسلحة النظامية في الدفاع عن العراق وحماية شعبه من اي عدوان خارجي محتمل والسبب هو اختلال توازن القوى بين العراق ومن تصدى لنهجه القومي التقدمي التحرري، خصوصا في مجالي دعم القضية الفلسطينية والاصرار على ابقاء النفط ثروة عراقية تخدم شعب العراق وتساهم في حل مشاكل الفقر والامية وغيرها.

ان نشر ثقافة المقاومة وعسكرة الدولة والمجتمع في العراق كانا من اهم متطلبات التصدي الناجح والفعال للتحديات الخارجية المتعددة المصادر، وهما المقدمة الحتمية المطلوبة لخوض حرب العصابات في حالة حصول غزو أو تعرض القوات المسلحة لضغوط ضخمة تجعلها في حاجة ماسة لقوة دعم كبيرة داخل العراق كي تتفرغ لمواجه تحديات الحدود. ان السؤال الواجب طرحه هو التالي: من قام بنشر ثقافة المقاومة وعسكر الدولة والمجتمع كرد على وجود تحديات ضخمة؟ ولماذا؟ هل كانت خطوة عفوية غير محسوبة؟ ام انها كانت خطوة وفرت للعراق فرصة اللجوء لخيار ستراتيجي فعال في حالة تحول خيار الحرب الكلاسيكية إلى خيار خاسر؟ ان ما حصل بعد الغزو يقدم الجواب الحاسم والدقيق حيث ان نشر ثقافة المقاومة وعسكرة الدولة والمجتمع خلال حكم البعث كانتا من اهم عناصر انطلاق مقاومة فورية واسعة النطاق غير مسبوقة لا عدديا ولا نوعيا بعد حصول الغزو وتراجع دور القوات المسلحة في اطار حرب نظامية غير متكافئة.

ان عظمة وفرادة المقاومة العراقية تكمنان في انها نتاج اعداد دولة وطنية كانت قوة اقليمية عظمى، بكل ما كان لديها من خبرات بشرية وعسكرية وتكنولوجية وموارد مالية، لذلك لم تنطلق فورا باعداد ضخمة فقط بل انها أيضا كانت مبنية على قدرات واسعة جعلتها تتحمل ظاهرة عدم دعمها من الخارج، كما كان حال كل حركات التحرر التي تمتعت بدعم خارجي فعال كان احد اهم اسباب انتصارها. لقد وصفت الثورة العراقية المسلحة بانها الثورة اليتيمة الوحيدة في العصر الحديث على الاقل، ووصفت المقاومة العراقية بنفس الوصف، وهذا الوصف بحد ذاته يقدم لنا الدليل الحاسم على انه لولا ثقافة المقاومة وعسكرة الدولة والمجتمع لما استطاع العراق ان يواجه الغزو برد فوري وفعال وواسع النطاق شكل الصدمة القاتلة لاحلام الغزاة وعامل الاسقاط المباشر لتطلعاتهم اللاحقة باكمال خطة الغزو، بالانتقال من العراق إلى غزو سوريا وغيرها في عملية تعاقب لخطوات الغزو كانت قد رسمت بتفاؤل كبير وقناعة أمريكية تامة بان غزو المنطقة، انطلاقا من غزو ناجح للعراق، سيمكن أمريكا من فرض هيمنتها التامة على مصادر الطاقة الاساسية وذلك هو الشرط المسبق الذي كان يجب توفره من اجل ان تستخدم أمريكا النفط كسلاح جبار لا يرد ولا يصد لابتزاز العالم كله.

لم تؤدي عسكرة الدولة والمجتمع ونشر ثقافة المقاومة إلى هزيمة أمريكا فقط بل انها كانت مفتاح تحرير العالم برمته من غزاة هم الاكثر وحشية ولصوصية في كل التاريخ الانساني بعد ان غطست أمريكا في رمال العراق الحارقة، فهل كان ذلك ثمرة عمل عفوي؟

إلى الماء يسعى من يغص بلقمة فإلى اين يسعى من يغص بالماء؟

مثل

صلاح المختار

7 – هل ما حصل من صراع مسلح منذ عام 1991 كان محض حرب نظامية؟ ام انه اقترن باعداد الشعب للقتال مع الاحتلال المتوقع؟ وهل حصل قتال بين مدنيين مدربين وقوات اجنبية منذ عام 1991؟ وهل كان وجود قوات شعبية مسلحة بالملايين احد اهم عوامل التردد الأمريكي في الغزو منذ عام 1991؟ ولماذا اوقف بوش الاب الحرب في عام 1991 من جانب واحد؟ ماذا قال في السي ان ان عام 1994 عن سبب ايقافه لاطلاق النار؟

حينما فرضت الولايات المتحدة الأمريكية الحرب على العراق في عام 1991 كان واضحا، حتى لاقل الناس وعيا في السياسة والحروب، بان ما يواجهه العراق كان حربا شاملة. ما معنى الحرب الشاملة؟ ما رايناه وواجهناه هو التالي:

أ – بعد حرب تسمى حربا عالية الحدة (high intensity war) بدات يوم 17 / 1 / 1991 وانتهت يوم 28 / 2 / 1991 بوقف اطلاق النار من جانب واحد، هو الجانب الذي بادر بشن الحرب وهو أمريكا، تغير شكل الحرب ولم تتوقف كما ظن بعض قليلي الخبرة بالحرب وبمعنى ستراتيجة الحرب، اذ تم بعد وقف اطلاق النار تبني حربا مو نوع اخر وهي الحرب المنخفضة الحدة (low intensity war). ولئن كانت الحرب العالية الحدة ساخنة جدا تستخدم فيها كل اساليب الحرب الحديثة فان الحرب المنخفضة الحدة هي عبارة عن عمليات محدودة هدفها استنزاف العدو، وهو هنا العراق، واعداده للانهيار أو الهزيمة ببطء بالقيام بعمليات محدودة ولكن مستمرة هدفها تدمير مصادر قوته العسكرية والاقتصادية، واضعافه نفسيا وكشفه امنيا تمهيدا لاستئناف الحرب العالية الحدة بعد اكتمال شروط شن حرب ناجحة عليه. وتضمنت تلك الحرب فرض مناطق حظر الطيران وتحرك القوات العراقية ومناطق الطول والعرض، والتي كان واضحا انها تستهدف الاعداد لتقسيم العراق، وقصف الدفاعات العراقية ومهاجمة المنشأت الاقتصادية لتدمير موارد الدولة والمجتمع وعدم السماح بحصول استقرار امني واجتماعي...الخ.

ب – حصار شامل تضمن حتى الدواء والغذاء مع انهما لا يخضعان لاي حصار، والسبب هو الرغبة في تفتيت المجتمع وتحريض الراي العام ضد نظامه الوطني بجعل الجوع والعوز والمرض يسحقان الاطفال والنساء والشيوخ، وتعمد اعادة العراق إلى مرحلة سابقة تم القضاء على امراضها مثل الفقر والمرض والفساد الاجتماعي والامية وغير ذلك.

ج – شن هجمات شاملة تنتمي للحرب العالية الحدة بين فترة واخرى من اجل تكريس ظاهرة عدم الاستقرار وحرمان العراق من القدرة على اعادة البناء العسكري والاقتصادي والامني، وجس نبض طبيعة وحجم ونوعية الرد العراقي على محاولة القيام بغزو ناجح. وتقع ضمن هذا الاطار العدوانات التي سميت (بعدوانات الرجعة). وفي هذه العدوانات كان الشعب مستعدا للمواجهة وكانت الجماهير المسلحة تنتشر في كل العراق لحمايته من تقدم القوات التي كانت تحتشد على حدوده الجنوبية بشكل خاص.

وقد ثبت بان أمريكا كانت تريد معرفة مدى استعداد العراق شعبا وقوات مسلحة للرد على غزو محتمل، وكان الاستنتاج الأمريكي الرئيسي في الفترة بين عام 1991 و2003 هو ان النظام مازال قويا ليس بفضل قدرة القوات المسلحة النظامية على المواجهة فقط بل ايضا، واساسا، لوجود قوات شعبية ضخمة مسلحة ومدربة وقادرة على خوض حرب عصابات عند غزو العراق، وكانت التجربة التي اقلقت أمريكا هي نتيجة عملية (ثعلب الصحراء) التي شنتها أمريكا في عام 1998 واستمرت حوالي اربعة ايام واستهدفت تدمير مراكز القوات المسلحة والسيطرة والقيادة تحقيق انهيار في معنويات الشعب من اجل دفع قوات ضخمة كانت متمركزة في الكويت والسعودية لدخول العراق وغزوه، ورغم شراسة العملية وقدرتها التدميرية الهائلة الا انها فشلت لوجود استعداد قتالي عالي وقوي عسكريا وشعبيا. فماذا حصل؟

توصلت ادارة بيل كلنتون إلى قناعة اعلنت عنها رسميا تقول ان غزو العراق الناجح مستحيل من دون التعاون مع إيران لان الانطلاق الرئيسي للغزو لابد وان يبدأ من الجنوب، وبدون شل أو اضعاف الدعم الشعبي للنظام الوطني في الجنوب فان غزو العراق مستحيل، كما اثبت تجربة ثعلب الصحراء الفاشلة، والتي وصفتها مصادر ايطالية خير وصف بالقول ان (الثعلب الأمريكي ضاع في صحراء العراق)، وبما ان إيران تملك داعمين لها في جنوب العراق فان التعاون معها امر حتمي لغزو العراق بنجاح. اذن كان وجود مئات الالاف من المدنيين المقاتلين، خصوصا في جنوب العراق، احد اهم اسباب تأخر غزو العراق كثيرا وتردد أمريكا طويلا في تنفيذه وجاء خيار التعاون مع إيران لتأكيد ان الجماهير المسلحة كانت احد اهم اسباب التعاون مع إيران من اجل اضعاف هذه الجماهير وشقها طائفيا وبغير ذلك من الوسائل.

د – كانت هناك كتل شعبية مسلحة ومدربة وصلت اعدادها إلى الملايين، ومنها كان جيش القدس الذي ضم أكثر من ستة ملايين عراقي، وكانت تجربة شن العداون الثلاثيني في عام 1991 قد اكدت مشاركة الاف المدنيين في كافة انحاء العراق وفي الكويت، التي كانت في قبضة العراق وقتها، في رد العدوان والقتال ضده. وفي اطار هذه الحقيقة فوجأ العالم بقرار جورج بوش الاب بايقاف اطلاق النار من جانب واحد مع انه شخصيا قبل ذلك بأقل من يوم اكد رفض ايقاف اطلاق النار، خصوصا حينما اقترح الاتحاد السوفيتي على لسان رئيسه غورباتشوف ذلك، ولكن فجاة وبدون مقدمات اعلن بوش وقف اطلاق النار في قمة معركة دبابات في جنوب العراق وصفتها الوكالات وقتها بانها اكبر معركة دبابات في التاريخ.

ولم يقدم الجواب الأمريكي الواضح والصحيح على السؤال الذي طرح وقتها وهو لماذا اوقفت أمريكا اطلاق النار مع ان قواتها دخلت العراق وشرعت بالاشتباك مع الحرس الجمهوري وكان نخبة القوات المسلحة العراقية، في اطار اعلان رسمي بان الهدف كان (التخلص من صدام حسين)؟ وعلينا من اجل معرفة الاطار الاوسع لما جرى ويجري، وهو اطار تتعمد أمريكا وغيرها التعتيم عليه، ان نتذكر بان الموقف الرسمي لأمريكا ومن كان معها كان وقتها يقول بان الهدف من الحرب هو اجبار العراق على الخروج من الكويت فقط وليس غزو العراق، ولكن خرج العراق من الكويت ومع ذلك اصرت أمريكا على دخول مئات الدبابات إلى جنوب العراق من السعودية اولا ثم من الكويت وتكثيف عمليات القصف الجوي والصاروخي للعراق، فقامت قوات الحرس الجمهوري الباسلة بالتصدي الناجح والعظيم لها. وهنا لابد من طرح سؤال محوري يفضي تجاهله إلى تغييب احد اهم دوافع الحرب: لم اصر بوش الاب على مواصلة الحرب ضد العراق ورفض المقترحات السوفيتية، وقبلها رفض مقترح الرئيس الفرنسي ميتران، ودفع قواته لدخول جنوب العراق بعد اكمال الانسحاب العراقي من الكويت مع ان الموقف الرسمي كان يقوم على اخراج القوات العراقية من الكويت وليس غزو العراق؟

وهنا وللتاريخ يجب ان اكشف لاول مرة بعد مرور 19 عاما بانني كنت شخصيا قد نقلت رسالة رسمية من الرئيس الفرنسي ميتران وبناء على طلبه، للرئيس الشهيد صدام حسين حول كيفية حل مشكلة الكويت وازمة المنطقة كلها ووافق الرئيس الشهيد عليها واوصلت الرد إلى الرئيس الفرنسي.

ويجب ان نكون واضحين اكثر من اجل ان يفهم الراي العام حقيقة ما جرى في موضوع الكويت، وهي حقيقة تناقض ماروج من معلومات، بالتأكيد على ان مبادرة ميتران، التي قدمت للعراق قبل ايام من بدء الحرب، كانت تقوم على تطبيق قرارات الامم المتحدة الخاصة بالكويت وفلسطين بشكل متزامن، وهي تتضمن الانسحاب العراقي من الكويت مقابل تطبيق قرارات الامم المتحدة الخاصة بفلسطين، وهو ما اسماه العراق (مبدا الترابط بين حل مشكلة الكويت وحل مشكلة فلسطين)، ووافق العراق عليها، لكن أمريكا افشلتها مع ان وزير خارجية فرنسا كان يستعد للسفر إلى بغداد لاجل ذلك، وكنت قد ابلغت رسميا من قبل المستشار الرئيسي لميتران بان الوزير سيغادر غدا إلى بغداد. اما مبادرة غورباتشوف فقد طرحت اثناء الايام الاخيرة للعدوان بعد زيارة المجاهد الكبير، وعميد اسرى العراق طارق عزيز حفظه الله، إلى موسكو وتبليغه للرئيس الروسي بان العراق مستعد للانسحاب من الكويت فقام غورباتشوف بطرح مبادرة تدعو لوقف اطلاق النار والدخول في مفاوضات مباشرة من اجل حل القضايا التي ادت للحرب، لكن بوش قال وقتها لغورباتشوف (مبادرتكم جاءت متأخر والحرب هي الوسيلة الوحيدة لحل مشكلة العراق المزمنة لذلك لن نوقف الحرب)، اما العراق فلم ينتظر موافقة أمريكا على مبادرة غورباتشوف فقد بدأ بالانسحاب من الكويت واكمله قبل اكمال دخول قوات الحلف الأمريكي للكويت، وهي حقيقة معروفة جرى طمرها وتصوير الامر وكأن أمريكا اخرجت العراق بالقوة من الكويت.

في عام 1994 وبعد ان خرج بوش من الرئاسة اجرت شبكة السي ان ان مقابلة معه سالته فيها (لم اوقفت الحرب ولم تكمل عملية التخلص من صدام حسين الذي عاد لخق المشاكل لنا)؟ فقال بانه اوقف اطلاق النار لانه اراد حماية (اولادنا من خطة وضعها صدام حسين لجرنا إلى حرب مدن داخل العراق). ماذا حصل أنذاك؟

تشير وقائع تلك المعركة التاريخية في جنوب العراق إلى وقوع القوات الأمريكية في فخ مميت للحرس الجمهوري وان مئات الدبابات والمدفعية الأمريكية ومئات الطائرات خصوصا الهليوكوبتر كانت تتعرض لنيران كثيفة جدا من قوات الحرس الجمهوري البطلة، بعد ان انغرزت في الرمال في جو ماطر جدا تتخلله عواصف رملية ورعدية ضخمة جعلها عاجزة عن القتال أو الطيران، وزاد الامر خطورة بالنسبة للقوات الأمريكية حينما حل الليل وصار عليها خوض الحرب ليلا وهي حرب اتقنها الحرس الجموري وخاضها مرارا ولم تكن القوات الأمريكية مستعدة لها بعد، في هذا الوضع الرهيب كانت صرخات قادة القوات الأمريكية وهي تتصل بقيادتها في أمريكا تسمع بوضوح وتسجل من قبل الاستخبارات العسكرية العراقية، وكانت الاصوات تحذر من وقوع اغلب تلك القوات في الاسر وتطلب وقف اطلاق النار فورا وبلا اي تأخير.

ان هذ الحقيقة تشكل احد اهم دافعين لوقف القتال من جانب واحد، اما الدافع الاضطراري الاخر المهم جدا فهو ما قاله بوش للسي ان ان، وهو تجنب الوقوع في فخ عراقي اخر اكثر قتلا من الهزيمة في معركة الجنوب النظامية وهو فخ جر القوات الأمريكية إلى معارك مدن وحرب عصابات اكد بوش ان الرئيس الشهيد صدام حسين قد اعد لها وجعلها فخا لاصطياد (اولاد أمريكا) فيها وتجريدهم من تفوقهم العسكري المطلق وجعل الحرب حرب ارادات يملك العراقيون فيها التفوق المطلق والتام دون ادنى شك. وهذا الجواب الذي قدمه بوش اكد ما نقول واثبت ان الدور الفعال للجماهير المسلحة في العراق وقدرتها على ردع الغزاة أو على الاقل جعلهم يترددون كثيرا قبل الاقدام على الغزو أو العدوان المسلح الواسع النطاق كان عاملا حاسما في وقف اطلاق النار من جانب واحد.

وهنا يجب ان اتوقف قليلا لاشير إلى تفاهة وحقارة القصص التي روجت حول هزيمة الجيش العراقي وعدم قيامه بالقتال لانها قصص تتناقض حتى مع الروايات الرسمية الأمريكي والبريطانية والفرنسية ومع ماورد في كتب وكتابات أمريكية واوربية صدرت فيما بعد حول حقيقة المعارك التي جرت داخل الكويت أو داخل العراق بين العراق وجيوش 28 دولة وامكانات 33 دولة وقفت كلها ضد العراق، ومنها قوى عظمى وكبرى مثل أمريكا وبريطانيا وفرنسا، تلك المعارك التي كانت مفخرة للقوات المسلحة العراقية رغم التفوق الهائل للتحالف الاستعماري الذي شن الحرب على العراق في كافة المجالات الا مجال المعنويات حيث كانت القوات العراقية تمتلك معنويات من يقاتل دفاعا عن الوطن والهوية القومية والشرف والدين والكرامة.

8 – ماذا قال تقرير احدى لجان التفتيش اثناء الحصار بعد زيارته لاحد المعسكرات العراقية؟ الم يبدي استغرابه لقيام الجيش النظامي في ذلك المعسكر بتدريب الضباط والجنود على زرع العبوات الناسفة وطريقة تصنيهعا من مواد محلية متوفرة في السوق؟ نعم لقد وردت تلك الملاحظة في تقرير احدى لجان التفتيش وكان ذلك مؤشرا إلى حقيقة تطبيق قرار مركزي بتحويل قسم من الجيش النظامي للعمل وفقا لستراتيجية حرب العصابات. والسؤال هنا هو: مامعنى هذه الحقيقة قدر تعلق الامر بمن يقول بعفوية انطلاق المقاومة العراقية؟ الا تؤكد بان الاتجاه الرسمي كان اعداد الشعب والقوات المسلحة لحرب شعبية طويلة؟

9 – لم تم تشكيل (فدائيواصدام) ودربوا تدريبا عاليا على حرب العصابات؟ وماذا فعل هذا التنظيم بعد بدء الغزو؟ تشير كل الاعترافات الأمريكية العسكرية المتوفرة إلى ان (فدائيوا صدام) قد شكلوا عقبة خطيرة امام تقدم قوات الغزو نتيجة تصديهم البطولي لقوات الغزو في كل مكان. اما بعد الغزو فان (فدائيوا صدام) كانوا القوة الرئيسية الاولى التي قاتلت الغزاة في كل المدن التي دخلت فيها قوات غزو وفي بغداد بشكل خاص.

10 – لم انشأ جيش القدس ودرب أكثر من ستة ملايين عراقي على قتال المدن؟ هل كان ذلك لاعدادهم للقتال في فلسطين؟ من الواضح الان بان تشكيل جيش القدس كان هدفه العملي الحقيقي هو اعداد ملايين العراقيين لحرب المدن والعصابات، فبعد ان تيقنت القيادة الوطنية العراقية من ان الغزو قادم لا محالة وان المسألة هي مسالة وقت وفرصة مناسبة تقرر تدريب المزيد من العراقيين خصوصا غير البعثيين، من اجل امتلاك مخزن أحتياطي ضخم جدا للقدرات القتالية يصبح بعد الغزو مصدرا للمقاتلين فورا، بحيث لن تكون هناك حاجة لصدور اوامر بذلك، اذ يكفي ان يكون هناك ملايين دربوا على السلاح ليبادر جزء منهم على الاقل للقتال ضد الغزو فور حصوله، وهذا ماحصل بالفعل حيث ان الاف المدربين انخرطوا في فصائل تشكلت بعد الغزو بمبادرة من بعثيين ومستقلين، بل ان الالاف قاموا، كافراد بلا تنظيم، باعمال مسلحة ضد الغزو نتيجة امتلاكهم للسلاح واعدادهم لخوض الحرب بشكل مسبق.

والان يجب ان نتخيل لو ان هذا الاعداد الملاييني للعراقيين على القتال وتمليكهم السلاح لم يحصل هل كانت المقاومة العراقية ستنطلق فورا حصول الغزو؟ ام انها ستكون مضطرة لانتظار سنوات، وعلى الارجح عقود من الزمن، من اجل تدريب المتطوعين على حرب العصابات والبحث عن سلاح يستخدم فيها واموال لتغطية نفقاتها الكبيرة؟ باعداد الملايين للقتال وبتمليكم السلاح وبتوفير ملايين الدولارات لتغطية تكاليف الحرب التحررية اختصر البعث طريق التحرير وازال عقبات خطيرة امام واجب البدء باسرع وقت في مقاتلة الغزاة. وهذه الحقيقة لا تظهر قيمتها الكاملة الا اذا تذكرنا حقيقة اخرى محزنة وهي ان المقاومة العراقية هي المقاومة اليتيمة الوحيدة والتي لا داعم عربي أو اجنبي لها ماليا أو سياسيا أو اعلاميا، وهي حقيقة كانت ستجعل من انطلاقها عمل شبه مستحيل أو على الاقل بالغ التعقيد.

نتمنى من اصحاب الضمائر الحية تذكر ذلك.

11 – لم انشأ الشهيد القائد صدام حسين التنظيم السري للحزب في عام 1999؟ هنا نكشف احدى اهم الحقائق التي بقيت في حالة تشبه السر وهي قرار قيادة الحزب في عام 1999 انشاء تنظيم حزبي بعثي مواز للتنظيم الحزبي الرسمي القائم ويضم افضل المناضلين المجربين، عقائديا ونضاليا واخلاقيا، وعزله عن التنظيم الحزبي الرسمي، الذي اضعفته العناصر غير العقائدية التي تسللت اليه بحكم وجود البعث في السلطة وما في ذلك من اغراءات، وجعله سريا جدا والاعتماد عليه في مواجهة التحديات القادمة. لقد تم تشكيل تنظيم حزبي سري مواز للتنظيم الرسمي للحزب، لكنه مكون من نخب ممتازة وعقائدية ودربت على القتال في المدن وعلى تصنيع المتفجرات واصلاح الاسلحة وحماية المواطنين من الحرب الحديثة، ويضم نخب من افضل كوادر الحزب المدنية وضباط الجيش والمخابرات الوطنية المتخصصة بحروب المخابرات – لان حرب العصابات بدون جهاز مخابرات متطور وكفوء مغامرة طفولية - والتمويه والتسلل داخل صفوف الاخرين...الخ.

لماذا اعد هذا التنظيم؟ ولماذا في عام 1999 بالذات؟ ان صعود نفوذ (المحافظون الجدد) الواضح في ذلك العام، حيث اصدروا دراسة اطلقوا عليها تسمية موحية جدا وهي (القرن الأمريكي) وقدموها لبيل كلنتون الرئيس الأمريكي وقتها من اجل العمل بها، وهم يتبنون مشروعا رسميا لاستثمار الفرصة السانحة بعد انهيار الشيوعية للسيطرة على العالم، ومن اهم الخطوات التمهيدية لذلك هي خطوة غزو العراق بعد مواصلة أمريكا وحلفاؤها عملية فرض الحصار والاضعاف التدريجي للعراق وقواته المسلحة، ان هذا التوجه الستراتيجي الأمريكي اقنع القيادة الوطنية العراقية بان الامر لابد ان ينتهي بحرب اخطر هدفها غزو العراق هذه المرة وليس فقط تدمير بناه التحتية والفوقية، لذلك لابد من تشكيل تنظيم حزبي مقاتل وعقائدي ويتمتع بخصال راقية تمثل الاصولية البعثية خير تمثيل وتبعد العناصر الانتهازية التي تسللت اليه، من اجل الاستعداد لمقاومة الغزاة داخل العراق هذه المرة.

12 – لم وزع الرئيس الشهيد صدام حسين اموالا ضخمة على كوادر الحزب والدولة وشيوخ عشائر وشخصيات عراقية قبل الغزو وطلب منهم استخدامها عند حصول الطوارئ لمقاومة العدو؟ لقد وزعت ملايين الدولارات وقتها وكانت تكفي لتمويل المقاومة لعشرة اعوام على الاقل، وقد ساعدت هذه الاموال على البدء بعمل مسلح فور حصول الغزو. ونشير ايضا إلى ان الرئيس الشهيد وزع اموالا بعد الغزو مباشرة وسماها (امانات)، ولكن بعض من استلم امانة خان الامانة وتصرف بالمال العام المخصص للمقاومة، وهذا البعض اسوأ من الخونة والجواسيس الذين جاءوا مع الاحتلال، وسيتعرض للحساب العسير في يوم ما خصوصا وان اسماءهم موجودة ومحفوظة لدى جهات معنية بالامر ولن يفلت منهم احد على الاطلاق.

13 – لم الزم الحزب كوادره وكوادر الدولة، بما في ذلك اعضاء القيادتين القومية والقطرية للحزب والوزراء، بالتدرب على السلاح وحرب المدن؟ لقد كانت تلك الخطوة، التي نقل تطبيقها التلفزيون العراقي، اشارة رمزية وذات دلالات مهمة ابرزها ان على الجميع الاستعداد لغزو قادم. ومما له دلالة وايحاء واضحين اقدام الرئيس الشهيد صدام حسين على قول كلام لا يفهم منه الا ان الغزو قادم وان الحرب ستقع في المدن والاحياء العراقية، فقد قال الشهيد في احد احاديثه الذي نقل عبر التلفزيون ما معناه: لو تطلب الامر فسوف نقاتل في الشوارع بالمسدسات الشخصية، هذا التلميح كان عبارة عن رسالة موحية تقول بان الغزو واحتلال بغداد امر محتمل ويجب الاستعداد للقتال في المدن المحتلة حتى بالمسدسات الشخصية.

14 – لم صدرت الاوامر بعد ايقاف اطلاق النار بفترة في الحرب التي بدأت في عام 1991 للتصنيع العسكري بالاعتماد على الذات في تصنيع وتطوير وتصليح الاسلحة وصنع الالغام والقاذفات المضادة للدروع والطائرات؟ أليس لان القيادة قد تيقنت من ان الغزو قادم وان العراق سيتعرض لنقص حاد جدا وخطير جدا في الاسلحة والمعدات الحربية لذلك يجب تحقيق اعتماد شبه كامل على الذات في توفير السلاح واصلاحه وتصنيعه؟ ما نراه الان وما رايناه في سنوات المجد والفخار السابقة من عمر المقاومة هو ان خبراء العراق كانوا مقاتلين من طراز خاص تولوا مسئولية تطوير الاسلحة وتوفيرها للمقاتلين واختراع اساليب علمية وتكنولوجية لتعطيل اسلحة العدو وما لديه من مخترعات علمية وتكنولوجية الكترونية متطورة اراد اسخدامها لايذاء أو شل المقاومة. ويمكن القول بسهولة بان المقاومة العراقية امتلكت ميزة خاصة بها وهي انها المقاومة الوحيدة في العالم التي طورت اسلحتها بنفسها وصنعت اسلحتها بنفسها واخترعت ادوات شل بعض اسلحة العدو بنفسها، من اجل ان تستمر رغم يتمها المعروف.

والسؤال الذي يفرض الضمير الحي طرحه هو: من اعد هؤلاء العلماء ومنحهم الخبرات الخاصة بحرب العصابات وغيرها؟ اليس النظام الوطني الذي خرج 300 الف حامل شهادة ماجستير ودكتوراه ومن بينهم اكثر من 40 الف عالم في العلوم الصرفة؟

15 – كيف ينظر إلى مقاومة القوات المسلحة بين عامي 1991 و2003؟ اليست تلك مقاومة على نطاق رسمي؟ الا يشكل عزل المقاومة التي قامت بها القوات المسلحة والشعب العراقي بين عامي 1991 و2003 عن المجرى العام للمقاومة العراقية نوعا من انواع السذاجة السياسية، اذا افترضنا الوطنية وحسن النية فيمن يقول ذلك، وعدم الفهم لطبيعة الحرب واشكالها وانماط تطورها خصوصا تعدد اشكال الحرب؟ وماذا يعني اهمال هذا النوع من المقاومة مع انه تمهيد طبيعي للانتقال إلى المقاومة الشعبية المسلحة بعد عجز القوات المسلحة عن مواصلة الحرب بواسطة الحرب النظامية؟

16 – هل ينكر من يعرف الحقيقة ويحترمها دور الدولة العراقية والنظام السياسي في المقاومة قبل وبعد الغزو؟ اليست المقاومة العراقية نتاج أعداد وجهود دولة وطنية نزلت تحت الارض وحولت قواتها المسلحة واجهزة امنها ومخابراتها وكوادر الحزب ومن تطوع من المواطنين إلى عناصر مقاومة شعبية؟ اليس قيام الدولة الوطنية باعداد المستلزمات الاساسية للمقاومة مفخرة عراقية فريدة في تاريخ المقاومات في العالم لم نشهد لها مثيل؟ وهل بالامكان عزل هذه الحقيقة عن انطلاق مقاومة هائلة وضخمة بصورة فورية وعدم المرور بمراحل تطور المقاومة التقليدية من عمل محدود جدا إلى عمل واسع النطاق بعد سنوات أو عقود؟

17 – هل بالامكان انكار ان القوات المسلحة العراقية قد تحققت فيها نقلة نوعية وكمية بعد وصول البعث للسلطة مما مكنها من التحول إلى الحاضنة الرئيسية المقتدرة والكفوءة للمقاومة بكافة فصائلها بعد الغزو من اجل تحييد عوامل التفوق المعادي في المجالات المادية المتعددة؟ لقد كان الجيش العراقي عبارة عن سبع فرق حينما وصل البعث للسلطة في عام 1968، وكان تسليحها بسيطا ولا يكفى للردع الخارجي الفعال، لكن البعث انشأ سبعين فرقة عسكرية بدل السبعة، ودربها افضل تدريب واحدثه، وزودها باحدث الاسلحة ووفر لها خبرات قتالية انفردت بها القوات العراقية عن سائر الجيوش العربية والاقليمية، ربما باستثناء الجيش الصهيوني الذي يتميز بامتلاكه خبرات متطورة، وصار (جيش المليون) مقاتل فخرا للعراق والامة العربية بفضل خطة شاملة، وضعها البعث فور استلامه للحكم، لتطوير القوات المسلحة والارتقاء بها إلى مستوى التحديات الوطنية والقومية المتعددة المصادر اقليميا ودوليا.

والسؤالان المطلوب طرحهما هما: هل هذا الدور التاريخي في تطوير القوات المسلحة الذي قام به البعث معزول عن تحولها الفوري إلى فصائل مقاومة للاحتلال بكل خبراتها ونوعيتها وعددها؟ ولو بقي الجيش العراقي سبع فرق بتسلح بسيط وبدون معرفة علمية وخبرات تكنولوجية متطورة، كما كان الجيش عند استلام البعث للسلطة، هل كان بامكان الجيش بتلك الوضعية ان يتحول إلى (الحاضنة الرئيسية) لمقاومة تقاتل اعظم واخطر قوة استعمارية في التاريخ كله؟

18 – بعد الاحتلال ونتيجة للضربات القاسية التي تعرض لها البعث، قيادات وقواعد، ونتيجة لاستخدام منظومات اسلحة أمريكية حديثة وغير معروفة ادت إلى التعجيل باحتلال بغداد واسقاط النظام، حصلت فوضى تنظيمية طبيعية في القوات المسلحة والتنظيمات الحزبية والاجتماعية، كالعشائر وابناء الشعب، لذلك اضطر القائد الشهيد صدام حسين إلى التجوال شخصيا في المحافظات العراقية من اجل اعادة بناء وربط منظمات الحزب وشيوخ العشائر والقوات المسلحة والاجهزة الامنية والاستخبارية وبناء هيكل تنظيمي جديد لمواصلة الثورة المسلحة وتصعيدها.

في تلك الفترة لم يسمع احد بعد باسماء الكثير من غير البعثيين الذين شرعوا بممارسة المقاومة المسلحة أو دعموها، لان البعث كان مازال يقود المقاومة وكانت التنظيمات العسكرية التي انشأها البعث تقاتل ببسالة تحت اسماء غير بعثية تنفيذا لاوامر القيادة بانتشار البعثيين في كل فصيل ينشا أو المبادرة بانشاء فصائل وفقا لسياسة اللامركزية ووجود صلاحيات مفتوحة للكوادر. كما تم التوجيه بتجنب استخدام اسماء خاصة معروفة أو حزبية لان الحرب حرب تحرير وطني من جهة، ولان البعث مستهدف ومكشوف العناصر من الناحية الامنية من جهة ثانية، لذلك كان يجب عدم اعطاء الفرصة للعدو الغازي لمعرفة من يقوم بالمقاومة من خلال بروز اسماء مرتبطة بالبعث أو بعثية الطابع. لقد كان مناضلوا البعث معروفين على نطاق واسع جدا لان البعث حكم العراق 35 عاما واصبحت عناصره وشخصياته معروفة، واذا ارتبطت المقاومة رسميا باسماء بعثية فان متابعة البعثيين اسهل من متابعة غير البعثيين أو البعثيين العاملين تحت اسماء غير بعثية، ولذلك راينا فصائل كثيرة تتشكل على يد البعثيين أو يتم اعدادهم عسكريا على يد بعثيين أو يمولون من قبل بعثيين. ان اكثر من 80 % من كوادر الفصائل المختلفة هم بعثيون سواء من القوات المسلحة أو المخابرات الوطنية أو الكوادر المدنية البعثية.

19– الان وبعد مرور سبعة اعوام وبعد استقرار الوضع الجهادي في العراق، ماذا نرى؟ كيف يبدو المشهد العسكري والسياسي في العراق؟ من هي القوة الرئيسية شعبيا وعسكريا؟ دون ادنى شك ان البعث هو الان القوة الاساسية عسكريا وشعبيا في العراق، وهو الوحيد من بين فصائل المقاومة الذي يمتلك تنظيمات شعبية في كل قرية ومدينة وحي عراقي من اقصى الشمال الكردي إلى نهاية جنوب العراق، كما ان البعث، الان وفي العام الثامن للغزو وبعد فقد اكثر من 120 الف شهيد مجاهد، هو التنظيم الجماهيري الوحيد الذي يمثل كل العراقيين بلا تمييز، ففيه العربي والكردي والتركماني وفيه المسلم والمسيحي والصابئي واليزيدي، وفيه الشيعي والسني...الخ، وكل هؤلاء بعثيون بحكم المواطنة العراقية المتساوية واختيارهم الحر الانتماء للبعث، الذي لم يعد في السلطة ليقال انه يجبر الناس على الانتماء اليه بل اصبح الانتماء للبعث قرين الموت والتصفيات الجسدية، لذلك فانه انتماء جهادي مسنود بالمبادئ الوطنية العراقية التي تسمح لغير العربي بالاصل بانتماء اليه لانه حزب العراق الوطني الجماهيري الوحيد والذي لا يعد العروبة عرقا بل انتماءا حضاريا اختياريا، من جهة، ومسنود أيضا بالقومية العربية التي تشكل اكثر من 85 % من شعب العراق، من جهة ثانية. ما معنى هذه الحقيقة المعاشة؟

في الفترة الاولى لاستهداف البعث من قبل الاحتلال وبشراسة وقسوة عرفت على انها الاشد في تاريخ العراق العام، نشأت فصائل غير بعثية وتضخمت في فترة انشغال البعث في اعادة تنظيم صفوفه وتعويض كوادره الذين تعرضوا للابادة بالالاف واسر منهم عشرات الالاف وتعرض للمطاردة الالاف، وقيامه بنفس الوقت بالعمل الجهادي المطلوب، فاصبح منطقيا حصول الفصائل غير البعثية على دعم جماهيري متوقع لان الشعب يهمه من يقاوم بغض النظر عن تسميته، لكن تلك الفصائل عادت لحجمها الطبيعي كنخب لا قواعد شعبية منظمة تدعمها، بعد ان اكمل البعث اعادة تنطيماته ووسع نطاق عمله الجهادي من جهة، وبعد ان توضحت صورة محزنة ومقلقة لبعض العناصر والفصائل المقاومة وهي انها مصابة بمرض الطائفية الذي تغلب في حالات كثيرة على الانتماء الوطني والمصلحة الوطنية ووصل هذا المرض حد تكفير نصف شعب العراق وهم الشيعة العرب، وهي حالة لن تؤدي الا إلى تقسيم العراق اذا سادت لا سامح الله، من جهة ثانية.

من هنا فان الجماهير العراقية بغالبيتها الساحقة اعادت اكتشاف البعث في مجرى العمل الجهادي ومحاولات تقسيم العراق، واختارت مجددا البعث طليعة مقدامة ومؤهلة لتمثيل كل العراق وكل العراقيين وبلا استثناء احد، ولمواصلة مقاومة وطنية الطابع مسلحة وسياسية لا تسمح باي تمييز طائفي أو عرقي، تحت اي واجهة أو تبرير، وتعد التحرير التام والكامل وغير المشروط هو هدفها الرئيسي الان.

لقد تمكن البعث خصوصا منذ عام 2005 من اعادة الامساك بزمام المبادرة السياسي والعسكري في العراق المقاوم، وهو الان وفي العام الثامن للغزو القوة الام والمركزية والثقل المقاوم الرئيسي في العراق الذي لا يمكن بدونه مواصلة مقاومة ناجحة أو الوصول إلى اي حل لكارثة العراق، والسبب، مرة اخرى واخرى، هو ان الفصائل النخبوية ان كانت تستطيع مقاتلة الاحتلال بمجاميع صغيرة تملكها ولا تملك غيرها فانها عاجزة عن حسم الصراع والامساك بالارض وحل مشكلة السلطة وتلك هي اخطر مرحلة من الصراع.

ماذا نريد نحن البعثيون؟ باختصار: فقط بالتعاون المباشر والكامل بين البعث، بصفته القوة المركزية، وبقية الفصائل والكتل والشخصيات الوطنية يمكن تحقيق الخطوات الضرورية للنصر بدون ردة، أو صراع بين الوطنيين بعد النصر أو ثناء تحقيقه، وهي:

1 - حسم الصراع مع الاحتلال بالقوة المتحدة لجميع القوى. 2 - الامساك بكل الارض العراقية باقتدار وتمكن. 3 - اقامة سلطة وطنية مشتركة يشارك فيها كل من قاتل الاحتلال ودعم المقاومة.

اين يكمن لغم (عفوية المقاومة)؟

بعد تثبيت ملاحظات اساسية تساعد على تفكيك الغام سوء الفهم في حالات معينة، أو الغام سوء النية في حالات اخرى، في فهم ما جرى في العراق لابد من تأكيد افكار محددة لا يمكن القفز من فوقها أو تجاهلها، ونتمنى ان تساعد من اخطأ بطروحاته حول عفوية المقاومة على التراجع عن تلك الطروحات الملغومة، وابرزها ما يلي:

1 – هل الاحتلال وعملاءه هم من ينفذ الاجتثاث فقط؟ ثمة من لا يدرك المعنى الحقيقي لسياسة اجتثاث البعث، ويظن ان من ينفذها هم عملاء الاحتلال واعداء الامة العربية التقليديين فقط، وهذا خطأ كبير لان ثمة من يساهم في تنفيذها من الوطنيين عن جهل، أو نتيجة خلافات سياسية وايديولوجية تغيّب العقل والموضوعية وتدفع لانكار الحقائق أو تشويهها اذا كانت تخدم الطرف الذي نختلف معه، لذلك لابد من تنبيه من لم ينتبه إلى المضامين العملية، والاستخبارية ايضا، لسياسة اجتثاث البعث. واول ما يجب التنبيه اليه هو مسألة غاية في الاهمية والحساسية لابد من حسبانها بدقة، وهي ان الاجتثاث عملة ذات وجهين وكأي عملة لا يمكن لها ان تكون عملة الا اذا كانت بوجهين هما الوجه والقفى، فما هما وجها عملة اجتثاث البعث؟ ان الاجتثاث يحتاج إلى عملية تسبقه وتمهد له وهي الشيطنة، فمن المستحيل ان يقبل أو يحصل الاجتثاث ويجد من يشارك فيه بدون الشيطنة اولا، والشيطنة تعني ببساطة ووضوح تشويه صورة من يجب اجتثاثه عبر مسلسل اكاذيب من جهة، وتزويرات من جهة ثانية، وبواسطة تمويه الحقائق بحيث يؤدي ذلك إلى تجريد هدف الاجتثاث من كل فضيلة يمتلكها ولا تبقى في صورته سوى الاعمال الشريرة والشيطانية، من جهة ثالثة. لذلك لابد من تسليط الضوء على هذه الفكرة الجوهرية بالذات.

كيف تتم شيطنة البعث؟ ان الاجابة على هذا السؤال تضع النقاط على الحروف وذلك يمكّن من قراءتها بصورة صحيحة. ان الشيطنة تقوم على ركيزتين رئيسيتين مندمجتين ببعضهما الركيزة الاولى تلفيق الاكاذيب وتشويه الحقائق من اجل تصوير البعث كأنه شيطان رجيم، فتكرهه الناس وتصبح ما بين مطالب باجتثاث البعث وساكت على تصفيته بكافة الوسائل، والمثل على ذلك ترويج اكاذيب المقابر الجماعية والمظلومية وخرق حقوق الانسان وامتلاك اسلحة الدمار الشامل والولع بالحروب والاعتداء على الجيران...الخ. اما الركيزة الثانية وهي الاهم، فانها العمل بكافة الوسائل على تجريد البعث من اي فضيلة أو انجاز أو عمل جيد رغم انه حزب الانجازات العظيمة بلا منازع. الركيزة الثانية هدفها حرمان الانسان العادي من القدرة على الدفاع عن البعث بترويج كذبة انه لم يقدم شيئا ولم يحقق للناس اي خدمة أو عمل جيد وبقي حزب شعارات فقط وكان السبب في كوارث العراق، ومن ثم فان اجتثاثه ضرورة ولا تشكل جريمة أو اعتداء.

وهنا يجب التنبيه إلى ان هذه الركيزة تحتل المكان الاول في شيطنة البعث، طبقا للمخططات المتلاقية الأمريكية والصهيونية والإيرانية وغيرها، لان تجريد البعث من اي فضيلة لا يسمح بتصفيته دمويا أو سياسيا فقط، دون اعتراض فعال من قبل الراي العام، بل انه ايضا يجعل بعض انصاره، الذين يعرّضون لكم هائل من الاكاذيب يصبح كبرها وعددها ضخما بحيث لا يتسع الوقت لتدقيقها كلها، كما يعرضون للمؤثرات النفسية السلبية التي تربك العقل وتشوشه، فيقعون اسرى مشاعر متضاربة من بينها شعور داخلي بالخطأ أو وجود خلل في موقفهم، وهكذا يصبحون غير قادرين على الدفاع عن حزبهم وانفسهم حتى حينما يعطون فرصة الرد وهي فرص نادرة وضيقة جدا، وهنا تكمن خطورة الشيطنة.

من بين اهم اساليب الركيزة الثانية تكتيك تجريد البعث من فضيلة مقاومة المحتل، أو الاعداد لمقاومته، وتزداد خطورة عملية التجريد هذه حينما يقوم بها عنصر وطني مناهض للاحتلال، لان هجمات واكاذيب عملاء الاحتلال ضعيفة وتافهة ولا يقبلها المواطن العادي، في حين ان الوطني الذي يوجه الاتهامات للبعث يتمتع بصدقية، وبدرجات مختلفة، ولذلك فان المواطن العادي وحتى نصير البعثيين يقع بين نار تصديق الوطني الذي يجرد البعث من فضائلة ومنها دوره في الاعداد للمقاومة وتفجيرها، وبين معرفته ان البعث حزب مقاوم ولديه انجازات كبيرة في هذا المجال. وتزداد خطورة هذا التكتيك في شيطنة البعث حينما يقول هؤلاء بان البعث مسئول اخلاقيا ووطنيا عما حصل للعراق لانه كان حزبا حاكما ولذلك فانه يتحمل مسئولية الاحتلال والتحرير، بكل ما تعنيه هذه المسئولية من معنى واسع وفضفاض ومتناقض التفسير، وهو معنى ينطوي على اتهام مباشر للبعث بانه اما تواطأ مع الغزاة أو انه لم يقم بما يجب لمواجهتهم.

نعم البعث مسئول عن التحرير لانه الحزب الوطني الرئيسي ولانه حكم العراق ايضا، وهنا تكمن الحقيقة، ولكنه ليس مسئولا عن الاحتلال الا اذا كان من يمارس هذا التكتيك ويتهم البعث بتلك التهمة المشينة يريد تبرئة أمريكا وبريطانيا وإيران والكيان الصهيوني من حقيقة ان غزو وتدمير العراق كان الجزء المقوم، اي الجوهري، في مخططات العدو المشترك لتدمير العراق، والتي وضعت منذ تأميم النفط وترسخ الموقف القومي الاصيل تجاه القضية الفلسطينية وبدء عملية النهضة القومية العلمية والتكنولوجية الشاملة. وهذه الحقيقة تجعل مسألة ارتكاب اخطاء من قبل النظام الوطني ليست السبب ولا القضية لان من غزا العراق لاتهمه الاخطاء ولا يعترض على طبيعة النظام السياسي، والدليل انه يدعم انظمة بالغة الرجعية وتمارس اسوأ انواع الديكتاتورية وتتميز بالفساد، بل يريد السيطرة على العراق من اجل نهبه والاستفادة من موقعه الجيوبولوتيكي الخطير. ويترتب على ذلك ان النظام الوطني حتى لو كان نظام ملائكة ولا يخطأ أو يقصر فان الغزو كان مقررا وكان ويجب ان يحصل مادامت هناك مطامع استعمارية. اذن القول بان البعث مسئول عن الاحتلال اتهام يقع مباشرة في خانة الشيطنة المدروسة وتسقيط واضح للبعث بانكار دوره الايجابي والتعتيم على فضائلة الكثيرة واستغلال اخطاء طبيعية وقع بها كأي تنظيم بشري غير معصوم، لتوجيه اتهامات غير صحيحة، فلعل وعسى تختلط الامور على البعض ويصدق تلك الكذبة التي عرف الشعب العراقي بغالبيته الساحقة الهدف الحقيقي المدمر لها بعد الاحتلال.

ومن المفارقات التي لابد من تسليط الضوء عليها الان لانقاذ الوطني الذي يقول بان البعث مسئول عن وقوع الاحتلال، حقيقة ان هذه الفكرة تقع في قلب الدعاية السوداء لكل من أمريكا وبريطانيا والكيان الصهيوني وإيران، ومن يتبع هذه الاطراف، حيث سمعناها الاف المرات تطرح لتبرير دعم الغزو بالقول (ان صدام حسين هو الذي جلب الغزو باخطائه وتقصيره وسياساته الداخلية والخارجية)، ولذلك فاننا فوجئنا حينما كتب وطني نحترمه بتأثير ودفع نعرف من قام به، بان البعث مسئول اخلاقيا ووطنيا عن الاحتلال وعن التحرير!

هل تقع هذه الاطروحة ضمن شروط شيطنة البعث؟ نعم بكل تأكيد وبلا اي غموض لان توجيه الاتهامات الخطيرة للبعث، خصوصا تلك المتعلقة بمن كان السبب في احتلال العراق، يشكل محاولة من شخص وطني لاسقاط البعث بتجريده من فضيلة بذل كل ما يملك من جهد وتضحيات من اجل حماية العراق من الاحتلال، لكنه وقع نتيجة عامل حاسم واساسي وهو التفوق المطلق للعدو المشترك في كافة المجالات باستثناء المعنويات. فهل واجب الوطني الحقيقي الان تشويه صورة البعث مع ان الاحتلال يقوم باشنع عملية تصفيات دموية له بالاضافة لنشر الاكاذيب حوله لتبرير اجتثاثه؟ وهل ثمة وسيلة لتفسيرها بمنطق مقبول غير انها محاولة لعزل البعث عن جماهير الشعب؟ والا يقود ذلك، وبغض النظر عن النوايا، إلى التلاقي مع الاحتلال في موضوع اجتثاث البعث؟

مما لاشك فيه وفي ضوء تجربة الاحتلال التي مضت عليها سبعة اعوام كاملة ودخلنا العام الثامن ان هناك وطنيين كثر يتمنون ازاحة البعث من طريق مطامحهم ومطامعهم السياسية، الشخصية والفئوية، بل يوجد من بينهم من يفضل بقاء الاحتلال على عودة البعث للسلطة! والسبب واضح جدا فالبعث هو القوة الرئيسية في العراق، سياسيا وعسكريا بشكل خاص، والتي لايمكن لاي خيار ان يمر بدون موقف من البعث داعم أو رافض له، فازالة البعث، بالشيطنة القائمة على انكار فضيلة مقاومته كدولة وفضيلة مقاومته للاحتلال كحركة تحرر وطني بعد الاحتلال، ليس سوى تعبير أنموذجي عن نزعة أنانية فردية وفئوية متطرفة للسلطة والتسلط حتى لو ادت إلى الحاق افدح الاضرار بالعراق، مادامت محاولة اقصاء البعث، وان كانت حلم ظهيرة يوم تموزي، لن تفضي الا إلى المزيد من الكوارث لشعبنا وقطرنا ولن تسمح بتحقيق اي استقرار حتى لو ابيد الاف البعثيين ومئات الالاف من ابناء العراق على يد من يفكر باستلام السلطة باي ثمن، والاسوأ والاخطر حتى لو كان الوصول للسلطة بدعم من دول جوار كتركيا أو انظمة عربية يعلم الجميع انها لا تتحرك الا باوامر أمريكية قدر تعلق الامر بموضوع العراق وهو موضوع ستراتيجي وخطير بالنسبة لأمريكا!

2 – وعي قاصر: ويظهر اللغم ايضا في مجال الوعي السياسي، فمن يقول ان المقاومة انطلقت عفوية، واذا تعاملنا مع وطني قال ذلك، لا يؤكد الا حقيقة انه ساذج سياسيا ويفتقر للحد الادنى من الوعي السياسي المطلوب لممارسة العمل السياسي والخبرة، ناهيك عن تزعم تيار أو حركة. فالمقاومة في حالة العراق، لها جذور بعيدة في تاريخ العراق الحديث، فمنذ قيام ثورة 17 – 30 من تموز عما 1968 بدأت خطوات الاعداد للمقاومة، حينما لاحت في الافق ملامح حملات معادية اخذت صورة واضحة جدا بعد تاميم النفط العراق عام 1972. ولمن يجهل أو يتجاهل هذه الحقيقة لابد من التذكير بها: فالنفط العراقي كان ومازل من بين اهم عاملين – الاخر هو موقف البعث من القضية الفلسطينية - في استعمار بريطانيا للعراق ومحاولة أمريكا ورائها بعد طردها منه، ولذلك فان معركة العراق مع الغرب الاستعماري لم تبدأ بدخول العراق للكويت، كما يظن البعض من ناقصي الوعي، بل بدأت بتاميم النفط الذي عد الضربة العراقية الاكثر خطورة للمصالح الغربية الاستعمارية في المنطقة كلها وليس في العراق فقط. وهنا يجب التذكير بأمر كبير الدلالة وهو ان المخابرات الأمريكية قد اسقطت مصدق رئيس الوزراء الإيراني في بداية الخمسينيات من القرن الماضي لانه امم نفط إيران، والسبب هو ان الغرب (بريطانيا ثم أمريكا ومن معها) عد ومازال يعد النفط جزء اساسيا من مكونات الامن القومي لبلدانه، وهو ما ثبتته الستراتيجية الأمريكية رسميا، بعد حرب اكتوبر عام 1973 وما قدمته من دروس في مجال الحرب والنفط، كأحد الاعمدة الثابتة فيها، في مبدأ معروف هو مبدا كارتر Carter Doctrineوالذي يقول بان النفط في الخليج العربي جزء أساسي من مكونات الامن القومي الأمريكي ولذلك فان ايقاف وصوله الينا و إلى حلفاءنا يهدد امننا القومي وامن حلفاءنا وسيواجة بكافة الوسائل ومنها الحرب، سواء جاء التهديد من قوة عظمى أو قوة اقليمية.

بتأميم النفط في عام 1972 بدأت معركة كسر العظم بين العراق بقيادة البعث وبين القوى الاستعمارية الغربية، وكان انشاء قوات التدخل السريع الأمريكية (R.D.F) بعد حرب اكتوبر وقيامها بالتدرب على حرب الصحراء ردا مباشرا على ما تفرضه قيمة النفط الذي تعرض (لتهديد خطير جدا) هو الاخطر منذ مصدق، كما جاء نقل مركز اهتمام أمريكا الستراتيجي من اوربا إلى الخليج العربي في تلك الفترة ردا مباشرا على قيام العراق بمس (قدس اقداس) القوى الاستعمارية وهو النفط، تماما كما يشكل الان موضوع كركوك (قدس اقداس) صهاينة شمال العراق.

واذا اضفنا موقف البعث الرافض للتفريط بفلسطين تحت شعار الحل السلمي والذي اكد للصهيونية العالمية، بكل ما لديها من نفوذ خطير في الغرب وغيره، ان نظام البعث هو الخطر الاكبر والمباشر على خطط الصهيونية وكيانها كما اكدت كل الستراتيجيات الصهيونية منذ نهاية السبعينيات، واخيرا وليس اخرا اذا تذكرنا بان الغرب الاستعماري ومنذ بداية القرن العشرين قد وضع خطوطا حمر على العرب عدم تجاوزها (تقرير لجنة بنرمان) وفي مقدمتها امتلاك التكنولوجيا الحديثة فقام عراق البعث بتحدي ذلك مباشرة، بتوفير الفرص المجانية لـ300 الف عراقي للحصول على شهادتي الماجستير والدكتوراه، على اعتبار ان (جيش العلماء والمهندسين)، اخطر بكثير من اي جيش عسكري قوي قد يمتلكه العرب، لان وجود العلم الحديث وحيازته من قبل العرب وتكوين علماء قادرين على توفير عوامل التقدم والقوة ذاتيا هو المقدمة الطبيعية والشرط الحتمي لتحقيق نهضة عربية حديثة وشاملة، أذا اخذنا كل ذلك بنظر الاعتبار ادركنا ان الغرب والصهيونية ومعهما إيران الشاه وإيران الملالي بعده، قد قرروا اسقاط نظام البعث بكافة لطرق بما في ذلك العمل العسكري.

3 – عسكرة العراق: هذه الحقيقة كانت وراء ما سمي ب (عسكرة العراق)، لانها كانت ضرورة لابد منها لمواجهة معسكر كبير وخطر ومقتدر على كافة المستويات اقوى بكثير من العراق، والعسكرة ترجمت كالاتي: تدريب ملايين العراقيين على قتال المدن وحرب الشوارع، في اطار واجبين، واجب دعم القوات المسلحة في الداخل لمواجهة قوى معادية مرتبطة بعدو خارجي وتخدمه، وواجب خوض حرب عصابات اذا دخلت قوات اجنبية الاراضي العراقية بقصد غزوها. لقد تم تشكيل الجيش الشعبي في السبعينيات ليقوم بهذين الواجبين، وضم الاف العراقيين، وجاءت محاولة خميني غزو العراق لتأكيد وجود مخططات شاملة ومتعددة لغزو العراق واسقاط نظامه، ولتعطي للجيش الشعبي فرصة تاريخية لممارسة دور الداعم للقوات المسلحة من جهة، والمستعد لمقاتلة من يغزو العراق من جهة ثانية. اما في التسعينيات فان الحشد الدولي المعادي للعراق والذي حصل بعد تفجير ازمة الكويت من قبل أمريكا وادواتها العربية ووقوع العدوان الثلاثيني في عام 1991 وفرض حصار شامل مدمر، كان الاكبر منذ الحرب العالمية الثانية، بل انه كان اكبر من حيث عدد الدول المشاركة فيه من معسكر الحلفاء أو من معسكر المحور، ناهيك عن تفوقه في منظومات الاسلحة التي استخدمها ضد العراق في حرب عام 1991 التي دامت 43 يوما، لذلك كان لابد من اعداد الشعب ليتولى بنفسه واجب الدفاع المنظم والذاتي عن العراق – عندما تتحطم ألة الدولة نتيجة تفوق العدو - ولم يكن هناك اي خيار مناسب سوى عسكرة العراق شعبا ودولة.

لقد اكد العدوان الثلاثيني الذي شاركت فيه 43 دولة وقاتلت العراق جيوش 28 دولة منها، الحاجة لتعميق فكرة حرب العصابات وضرورة اعداد الشعب العراقي كله لخوضها مادام الغرب والصهيونية وإيران قد عقدوا العزم على غزو العراق واسقاط نظامها الوطني وتغيير هويته العربية وتقسيمه. من هنا جاء الانجاز التاريخي باعداد حوالي عشرة ملايين عراقي لخوض حرب المدن أو حرب العصابات.

هذه الكتل البشرية الضخمة من المدنيين المدربين على حرب العصابات، وهو عدد من الكتل البشرية لم تشهده اي تجربة تحرر اخرى في العالم الحديث على الاقل، لعبت دورا ممتازا منذ العدوان الثلاثيني في عام 1991 في حماية العراق حيث سمحت للقوات المسلحة بالانتشار في مناطق حدودية أو ستراتيجية خارج المدن بينما امسكت القوات المدنية المسلحة مدن العراق وضمنت الامن والاستقرار فيها خصوصا وان العدو المشترك – أمريكا والكيان الصهيوني وقبلهما إيران - كان لديه عملاء داخل العراق قاموا بعمليات تخريبية لصالح العدو الخارجي.

اذن هل عسكرة العراق شعبا ودولة امر عادي ويمكن اهماله؟ ام انه احد اهم مظاهر الاعداد للمقاومة المسلحة على اعتبار انها مقاومة الشعب المسلح والمدرب على الحرب؟ وهل يمكن انكار ان انطلاق المقاومة السريع والمذهل لتكون ستراتيجية الحرب البديلة حال دخول بغداد واحتلالها، ماكان ممكنا لولا هذا الاعداد الممتاز للشعب وخطة العسكرة؟ هل يدرك من اتهم البعث بعدم الاعداد للمقاومة بالقول انها كانت عفوية، ان اي مقاومة بلا اعداد لا تصبح مقاومة بل مناوشات عابرة؟ واخيرا وليس اخرا هل يوجد من يتجرأ على انكار ان القوات المسلحة العراقية ومن درب من ابناء الشعب، بقرار من قيادة البعث، هم من قاوموا ويقاومون الاحتلال في كافة الفصائل دون اي استثناء، حتى الان؟ ان اهمال هذه الحقيقة يشير إلى ان من انكر الاعداد للمقاومة هو واحد من اثنين اما انه جاهل وقليل الوعي، وفي هذه الحالة لا يحق لهكذا اشخاص ممارسة العمل السياسي، أو انه يعرف لكنه يحرّف وينكر اشباعا لرغبة انانية خطيرة، وفي هذه الحالة نقول بان العراق قد شبع من الانانيين الساعين للسلطة باي ثمن ولا مكان بعد الان لهم في صفوف الوطنيين اذا واصلوا هذا النهج المدمر.

4 – حدود القدرة النظامية: هناك من يحاول استغلال وقائع معينة ومنها غزو العراق، للتشكيك بالبعث نظاما وحزبا وفكرا، مثل القول بان الغزو قد نتج عن تقصير كبير جدا أو حتى عن خيانة كبرى، فهل هذا صحيح وما معنى الغزو والنصر والهزيمة في الحروب؟

حينما وصلت قوات الاحتلال إلى بغداد كانت مراكز المقاومة العسكرية والمدنية قد تعرضت لعمليات تصفية منظمة بالصواريح الذكية وقصف الطائرات وبدون حصول مواجهة مباشرة بين بشر في احيان عديدة، حيث كانت الدبابات العراقية تضرب وتدمر دون رؤية من ضربها، ويكفي هنا ان نذكّر بحقيقة ان بغداد كانت تتعرض يوميا ومنذ بدء الغزو لالف صاروخ كروز فقط ماعدا الصواريخ الاخرى، وكانت هذه الصواريخ تدمر مراكز القيادة والتوجيه والاتصالات والدروع والمدفعية ومقرات الحزب في بغداد وحولها، لذلك فانها حينما وصلت إلى مقتربات بغداد واجهت مقاومة شرسة بما تبقى من دروع ومدفعية ومقاتلين، شاهد العالم بعض صورها بصورة دبابات تحترق وجثث شهداء ملقية على الارض بعد قتال ملحمي دار بين قوات متفوقة بشكل مطلق وقوات لا تملك الحد الادنى من الامكانات العسكرية والتكنولوجية مقارنة بالعدو.

ما معنى هذه الحقيقة؟ انها تعني ان الوصول إلى بغداد قد اقترن بنبش كل شبر من الارض والمؤسسات والمراكز العسكرية والمدنية القيادية بعد ثلاثة اسابيع من القتال الملحمي المشرف للقوات المسلحة. الامر الذي خلق حالة فوضى واضطراب وانقطاع الاتصالات بين ما تبقى من القوات والقيادة، ولذلك شهدت بغداد معارك شرف وبسالة في انحاء منها جرى التعتيم عليها عمدا لتركيز وفرض صورة عدم وجود مقاومة لا عسكرية ولا شعبية، وان الموجود كان فقط اسقاط التمثال في جو هادئ وبلا قتال! وهذا الواقع يفرض سؤالا محددا: هل هذه النتيجة غريبة على الحروب خصوصا بين قوتين بينهما هوة هائلة في مجال التسلح والقوة والتقدم؟ كلا طبعا فهذه النتيجة برزت بين قوى متكافئة في كل شيء، مثلا غزو المانيا النازية للاتحاد السوفيتي وفرنسا ودول اخرى في الحرب العالمية الثانية نتيجة التفوق العسكري الالماني رغم ان تلك الدول كبيرة جدا وقوية جدا، لان الحرب تعتمد نتائجها على عوامل عديدة ومعقدة جدا تتناقض احيانا حتى مع المنطق السليم. وهنا يجب التذكير بان الحرب هي كيمياء وليست رياضيات، فالكيمياء تعتمد نتائج تفاعلاتها على البيئة المحيطة فالحرارة والبرودة وغيرها من العوامل تؤثر في نتيجة الاختبار اما الرياضيات فان نتائجها ثابتة بغض النظر عن البيئة فواحد زائد واحد يساوي اثنين وهذه النتيجة نحصل عليها في جو قارص البرد كروسيا وفي جو حار جدا كالهند.

(ضعف) المقاومة مقارنة بما كان متوقعا في يوم احتلال بغداد، هل هو دليل عدم وجود مقاومة ام انه نتاج نمط من الحروب الجديدة التي تجرد الطرف الاقل قوة، في مجال الحرب الكلاسيكية، من قدراته العسكرية التقليدية بسرعة وفاعلية من خلال الاستخدام الامثل لعوامل التفوق؟ وهل وجود حالة أو لحظة تراجع نتيجة صدمة اختلال موازين القوى مؤشر لانعدام التخطيط للمقاومة ام انه نتاج فقدان التوازن المؤقت؟ وهل لحظة الانتقال من ستراتيجية الحرب النظامية إلى ستراتيجية اخرى مختلفة هي ستراتيجية حرب العصابات، وهو ما حصل في يومي 9 و10 / 4 بعد شل القوات المسلحة النظامية، يخلو من الاضطراب والتراجع والتخفي والانسحاب المنظم من اجل الانتقال إلى الاسلوب القتالي الجديد؟ وماذا تقول تجارب التاريخ الحديث للحروب؟ هل التراجع أو لحظات الصدمة تختصر كل الحدث التاريخي وتحجب الاوجه الاخرى له؟

ان احتلال بغداد كان ذروة ما سمي ب (الصدمة والترويع) وهي نمط من الهجمات يقوم على تحقيق صدمة تشل العدو ولو مؤقتا من اجل استثمار ذلك لتحقيق تقدم فوري وصاعق دون استبعاد امكانية ان يستطيع العدو الذي تعرض للصدمة استعادة رباطة جأشه واستئناف القتال بطريقة اخرى تستوعب وتحتوي أثار الصدمة والترويع وتجبر الاحتلال على خوض نمط اخر من الحرب لا يستطيع الاحتلال خوضه إلى النهاية، وهذا ماحصل بالضبط حين انطلقت المقاومة المسلحة ليس بصفتها حالة مرافقة ومكملة للحرب الكلاسيكية، كما كان الحال في الفترة الاولى من الحرب بين 20 / 3 و 9 / 4، بل بصفتها الستراتيجية الرئيسية المعتمد عليها.

مرة اخرى واخيرة اسمحوا ان اسئل: هل توجد مفاجئات في الحروب تقلب اتجاهاتها المتوقعة؟ نعم في الحرب العالمية الثانية لم تحسم أمريكا الحرب مع اليابان الا باستخدام السلاح الذري الذي اجبر الاخيرة على الاستسلام رغم انها كانت تريد مواصلة الحرب بلا توقف ومهما كان الثمن، وفي حرب اكتوبر فوجأ الكيان الصهيوني بالعبور العظيم والاستخدام الرائع لمضادات الطائرات والدروع فهزم الجيش الصهيوني في البداية، وفي الحرب العالمية الثانية قام هتلر بغزو اغلب الاتحاد السوفيتي...الخ، وفي كل الحالات فان من هزم لم يستسلم بل غير طريقة واسلوب القتال فحقق النصر أو التقدم، فالجيش الصهيوني فتح ثغرة الدفرسوار والغى عظمة نصر العبور، والاتحاد السوفيتي استعاد زمام المبادرة حينما عسكر الاتحاد السوفيتي شعبا ودولة فاصبح القوة الاساسية التي دحرت النازية.

ومن مفارقات الزمن اننا الان نقرأ عسكريين تفتقت عبقريتهم فجأة، بعد ان كانوا صما بكما قبل الغزو لا يتقنون حتى الكتابة باللغة العربية، واخذوا يتحدثون عن معارك العراق من منطلق الادانة أو النقد غير المهني العسكري مع انهم كانوا في الجيش العراقي وكان بامكانهم المشاركة في تعزيز قوة الجيش، وهو نقد يكشف خطأه حتى مدني له تجربة سياسية أو تاريخية، بل المحزن هو ان كتاباتهم تدل على تقصير فاضح في مستواهم العسكري لان مدني مارس للعمل السياسي يعرف اكثر مما يعرفون عن القضايا العسكرية، ونحن هنا لا نرفض النقد والتقويم لان هناك اخطاء قد وقعت بالتاكيد على المستوى العسكري، ولكنها لم تكن هي السبب في نتيجة الحرب على الاطلاق، فلو استمر القتال بصورة افضل وبلا اخطاء لوصلت الحرب لنفس النتيجة حتما كما توقعت القيادة العراقية قبل الحرب بسبب التفوق المطلق للعدو لا غير. ان من يتحدث عن احتلال بغداد بصفتها نتاج تقصير وليس بسبب التفوق عليه ان يتعلم معنى الحرب وان يقرأ تاريخ الحروب والعوامل التي تحرك اتجاهها. ولنتخيل ان من ينتقد الان اداء البعث، مدنيا كان أو عسكريا، اثناء الحرب كان هو في السلطة هل كان سيحقق نتائج افضل؟ بالتاكيد كلا ونحن نعرف ما نقول.

لقد قرر البعث الانتقال من ستراتيجية الحرب النظامية بعد ان دمرت أو شلت اغلب القوات المسلحة وفقدت القدرة على الصمود، إلى ستراتيجية الحرب الشعبية (حرب العصابات، حرب المدن...الخ)، وهكذا انقلبت موازين القوى جذريا فاصبحت قوات الاحتلال تتعرض لتحديات خطيرة اجبرتها على الانتقال من الهجوم الشامل والقوي الساحق والذي بدء يوم 20 / 3 / 2003 وانتهى يوم 10 / 4 /2003 إلى الدفاع اليائس نتيجة انطلاق المقاومة الشعبية المسلحة بصفتها الستراتيجية الرئيسية المعتمدة لمواجهة الغزاة، وراينا النتيجة الباهرة والتاريخية وهي تمريغ انف أمريكا في وحل كالهزيمة وهو ما لم يحصل لها حتى في فيتنام. والفضل كل الفضل لسياسة عسكرة الدولة والشعب، والتي وفرت لمن اراد القتال كل الفرص الحتمية لخوض القتال واهمها الخبرة القتالية السابقة والتدريب على القتال والتزود بالسلاح والمال، والتي لولاها لما حصلت المقاومة الا بعد سنوات قد تكون طويلة. ولو افترضنا ان هناك تقصيرا – وهو افتراض غير صحيح بالتاكيد - فان فضيلة عسكرة الدولة والمجتمع كانت كافية لوحدها لجعل البعث والنظام الوطني قائمين بالواجب التاريخي لان ذلك وفر اعظم الفرض لنشوء اعظم واسرع واخطر مقاومة شعبية في التاريخ.

أذن ليست الهزيمة العسكرية في معركة من معارك الحرب الكبرى هي المعيار للتقويم الاخير بل النتائج النهائية للحرب، ان من يجهل هذه الحقيقة أو يتجاهلها واحد من اثنين اما جاهل هابط الوعي السياسي والستراتيجي، أو حاقد اعمت بصره وبصيرته حقائق الصراع وتعقيداته ومأزقه ومفاجأته. هل يصلح مثل هؤلاء لاصدار احكام عامة حول احداث تاريخية؟

* كاتب وسياسي عراقي
*كتبت الداراسة بين 6 و14 نيسان عام 2010

زر الذهاب إلى الأعلى