السلام عليك يا جنوب..
السلام عليك من محب لم يتخيل أنه ذات يوم سوف يحتاج إلى يمين يثبت بها أنه يحبك..
السلام عليك من قلب فؤاده كل اليمن، ومزاجه جنوب، ورياحه جنوب، وأشواقه دائمة الهبوب.
لي فقط، عتب بسيط قد لا يصل إلى مسمعك المرهف في هذا الظرف الذي عزّ فيه السماع، وتسيد فيه الاندفاع، وتعالت الضوضاء فلا صوت يصل.. إنما قد يصل الهمس الصادق الحريص النابع من القلب إلى القلب. وقلبك لن يخطئ أشواقي، ولن يرمي زهوري في التراب..
يا جنوب: أنت من علمنا كيف نحب اليمن، أنت من درسنا أبجد الوطنية، أنت من ناولنا قلماً ودفترا.. وآوانا يوم كنا خائفين بلا سند ولا نصير..
أنت من علمنا كيف نشعر بالآخرين، وكيف نراعي شعورهم، وكيف نمشي على الأرض هوناً، وكيف نبتسم ونزرع البسمة في وجوه الآخرين.. ومنك تعلم الشرفاء الإيثار والتواضع، والذوق والشجاعة، ونكران الذات..
أعطيتنا قلماً ودفترا، وقيثاراً ولحناً، ومسجداً وصحيفة، وبطلاً وقضية.. وبحراً نفرّ عبره إلى حيث تنتهي بنا السفن.
كل الأحرار بدأوا من الجنوب، وكل أساتذة النضال تتلمذوا على يد الجنوب، ومن كلية بلقيس، والإمام البيحاني، والشيخ الحكيمي، وحنبلة، ولطفي جعفر أمان، وعشال، وباكثير، وبامطرف، وباذيب... تثقف المثقفون، وصنعوا لهذا الوطن فكراً تبلور في ظله شماله والجنوب، وسرعان ما اتحد وجداناً قبل أن يتوحد نظام حكم.
من أين بدأ الزبيري إلا من عدن، وإلى أين فر إلا إلى عدن، ومن أين غرد أيوب إلا من عدن، وفي أي مكان تنفس "الفضول" إلا في عدن، ومن أين بدأ هايل سعيد إلا من عدن.. وكذلك أغلب أساتذة الحركة الوطنية الإسلامية واليسارية والقومية. فلوْلبَ هذا الرعيل الأصيل الذي تتلمذ هاهناك، هديلاً وطنياً ساق اليمنيين زرافاتٍ ووحدانا إلى يوم استعادة الوحدة الذي سالت فيه الدموع، وتعبد طريقه بجماجم أنقى وأصدق الرجال.
هذه الاستعادة التي صنعها الفكر والحنين، أُهينت على مائدة السياسة، في هذا الزمن "القِرش"، الذي لا قيمة فيه إلا للقرش المودوع في قبضة سمك القرش.
تنكر الساسة للوجدان ودفعت المبادئ الثمن.. وترنّح اليمن.
لم يواصل ساسة الوحدة ما بدأه ذلك الجيل، وتأطر المفكر في إبط السياسي، ولم يرسموا هدفاً عظيماً وبرنامجاً كبيراً لهذا اليمن الذي استعاد وحدته.. فحلت الأنانية محل الإيثار، وحلت القرية محل الوطن، وحل الحزب محل الحكومة، وحلت القبيلة محل الدولة، وحل المذهب محل الدين، وحلت السلالة محل الشعب.. إلى أن وجد الشعب نفسه وسط فراغ فكري مخيف لا يعرف فيه كيف يبلور رؤاه، ولا حول ماذا يلتفّ، وفي سبيل ماذا يضحّي.
الفقير يملاًه الهلع، والغني يملأه الهلع.. وصار الجميع يتسوّل القانون من القائمين على القانون، ويستجدي النظام من ساسة النظام الذين يديرون أمورهم بمنطق الفوضى والعبث.
وحينما استبد اليأس خرجنا قبل أن نضع الخطة.. وثرنا قبل أن نعمل حساب المكائد.. فكان خروجنا وبالاً علينا؛ تفرقنا، وهان على بعضنا لمز بعض.. وهذا أسوأ ما في الأمر.
يا جنوب: أنت من علمنا احترام القانون، ومعركتنا اليوم هي معركة استعادة القانون من أنياب الفوضى، والقانون أصلاً وضع لينتصف الضعيف لنفسه، أما القوي فليس بحاجة لمن ينصفه.. فلماذا إذن ينحرف مسار المعركة، ويخطئ الجمع المقهور تحديد الغريم؟
يا جنوب، ألست أنت من علمنا كل قيمة نبيلة نناشدك بها اليوم، ونرجوك أن تتحلى بها وأنت أصلا أستاذها.. فليت شعري، ما الذي جعلنا أعداءً لمبادئنا، وما الذي قد يرغمنا على بيع مستقبلنا لماضينا؟ لا شيء.. لا شيء يرغمنا يا جنوب. يا أبانا الحنون في الأمس، وابننا الذي يحتاج الحنان اليوم، ورجلنا الذي نأمل أن يحمينا يوم غد.
يا جنوب، أنت من علمنا رجولة النصح.. ولهذا خذها مني نصيحة مبرأة من كل هوى رخيص، مفادها: أن الذين استهانوا بنا هم بوجه أولى، خدعوا أنفسهم، وهم يدفعون اليوم، وغداً، ثمن الاستهانة.. وفي كلا الحالين لم يخسر الجنوب أي شيء.. إذ لا يخسر الجنوب إلا في حال واحدة فقط: حينما يصبح عدواً لمبادئه.. وحربا ضارية ضد أسرار تميزه ونقاط تفوقه.
ولعلي أتفهم أنه ليس سهلاً أن تقتنع فجأة أنك أخطأت في حق محبيك، واحتشدت منقلبا على كل أسرار تميزك.. كما أنه لم يعد يهم، أن نتلمس اليوم كيف تم ذلك.
يا جنوب، لا تكفي الشجاعة والصدق في معركة رد الاعتبار.. لابد من الفطنة، والمبالاة، ولابد، لابد من إرسال مآقينا إلى مشارف الغد، كي تشاهد واقع التبعات ثم تعود مستدركة أخطاء اليوم..
يا جنوب، ما كان يمكن الحيلولة دون انتقال عدوى خروجك العظيم إلى الشمال الهادر، إلا بجعلك تكره الشمال.. ولهذا طاشت نبالُك حينما قل نُبلُك، وانحصر نطاقُك حينما ساء نُطقُك..
ولكي لا نخسر كل شيء.. ينبغي لهذا الهمس أن يصل إلى شغاف كل فارس لبيب.. والحر يعرف نبرة الحر، والفارس لا تخطئه الفراسة..
ما فات شيء بعد.