آراءأرشيف الرأيالفكر والرأي

ماذا حققت المقاومة العراقية؟(2)

كل الظلام الذي في الدنيا لا يستطيع أن يخفي ضوء شمعة (مثل)

أنبعاث الرابطة القومية وتهاوي نظرية (الفسيفساء العالمي)

بعد بدء اطول حرب عالمية في التاريخ على العراق، أبتدأت في عام 1991 وما زالت مستمرة حتى الان بلا توقف، قدمت الخطوات التي قامت بها أمريكا في العالم انموذجا خطيرا لسيناريو ارادت تطبيقه على مستوى عالمي،

وهو تفكيك الامم كلها واعادتها إلى مكوناتها السابقة وتركيبتها الخاصة لمرحلة ما قبل الوطنية والامة، باحياء الاثنيات والطوائف والاعراق والعوائل الكبيرة والمصالح الصغيرة والاديان...الخ، وجعل المكونات السابقة للامة اساس الانتماء ومصدر الخيارات السياسية والاقتصادية والعسكرية وليس صلة الامة أو الدولة الوطنية، في علاقاتها وصراعاتها ومصالحها، وشمل ذلك المخطط حتى اوربا الحليف الاول لأمريكا.

انها (نظرية الفسيفساء) التي دعا هنري كيسنجر، منظر كوارث العالم الثالث، لتطبيقها في الوطن العربي من اجل تقسيمه وجعله فسيفساء الوانها متناقضة ومركبة اصطناعيا ويمكن اعادة نثرها في اي وقت كحل وحيد لازمة الصراع العربي - الصهيوني وضمان السيطرة الأمريكية المطلقة على الوطن العربي، لكن هذه النظرية التي طرحت في السبعينيات، وكما اثبتت الوقائع المادية، اتخذت في التسعينيات طابعا عالميا شاملا ولم تعد مقتصرة على الوطن العربي بعد ان بدأت أمريكا بالعمل الجاد لتحقيق (حلم الاجداد) وهو امركة العالم عبر استعماره.

ان تفكك الكتلة الشيوعية وانتهاء عصر التعددية القطبية كان تطورا انقلابيا جذريا فرض اطلاق موجة العولمة وثورة الاتصالات وهي موجة وثورة كان مقررا ان تجر العالم جرا، ورغما عن المشاعر، إلى تفكيك الحدود والحط من شأن مفهوم السيادة تمهيدا لاعادة تشكيل العالم بعد تفكيكه إلى مكوناته السابقة للامة والدولة الوطنية. ولقد جاءت احداث العراق ويوغوسلافيا في التسعينيات لتقدم صورة حقيقية لما تريد أمريكا تنفيذه وهو ان أمريكا تسعى لشرذمة كل الامم، وبلا اي استثناء، من اجل اقامة عالم يتكون من فسيفساء تضم الاف المكونات الصغيرة والملتصفة ببعضها بروابط هشة تفرضها حالات طارئة ولذلك تكون قابلة للانفراط في اي لحظة، انها اكبر عملية اصطناعية في التاريخ البشري لتفكيك الامم والشعوب واعادة تركيبها بطريقة هشة مختلفة عما كانت عليه قبل ذلك.

جاء تسريع عملية العولمة – التي استخدمت كغطاء للامركة - كبلدوزر ضخم وظيفته الاساسية تمهيد الطريق امام مرور الامركة بازالة عقبات الحدود والسيادة واللغة والسايكولوجيا، عن طريق اضعاف الثقافات الاخرى غير الأمريكية واغراقها بالازمات الدورية، وفرض اللغة الانكليزية، بلهجتها الأمريكية وليس البريطانية، واطلاق اعظم موجة، أو للدقة: القيام باخطر انقلاب تكنولوجي في التاريخ، وهو انقلاب أخرتّه أمريكا عمدا لعقود طويلة مع ان اسسه التكنولوجية ونماذجه الصناعية كانت موجودة في مخازن الشركات اثناء الحرب الباردة، أستخدمته – اي الانقلاب - أمريكا لخدمتها مباشرة في فرض نمط حياتها وثقافتها ووعيها الاجتماعي ومحفزات سلوكها، وتمثل ذلك في ثورة المعلوماتية والاتصالات اللاسلكية وحلول علاقات الانترنيت والموبايل السائبة الاطراف، محل علاقات عصر الحرب الباردة المقيدة بحدود صارمة.

إلى جانب ذلك بدأت أمريكا تحفر الاسس التي تقوم عليها هوية كل الامم وتزرع فيها الغاما خطيرة من اجل بلقنة كل العالم، ففي يوغوسلافيا فرضت أمريكا، وبدعم الاوربي واضح، فكرة بلقنة اوربا الشرقية، فتقسمت يوغوسلافيا، بقرار أمريكي نفذه حلف النيتو، على اسس عرقية ودينية واثنية ومحلية حطمت مفهوم الدولة الوطنية الذي قام الاتحاد اليوغوسلافي عليه، وبعد ان كانت اوربا الشرقية تتجه للاندماج تحت ظل الشيوعية مثل توحد اوربا الغربية تحت ظل الراسمالية، تفككت اوربا الشرقية وانطلقت موجة تناثر عرقي - اثني - ديني - مصلحي لم يسبق لها مثيل، فقسمت جيكوسلوفاكيا واعيد تشكيل دول كثيرة من حيث الهوية والدور والانتماء، وبعثت النزعات العنصرية حتى داخل القومية الواحدة المتكونة!

وكان مطلوبا ان تكون البلقنة انموذجا يطبق في العالم كله من ايطاليا، التي استيقظت فيها نزعة انفصال الشمال الغني عن الجنوب الفقير، إلى فرنسا واسبانيا حيث تعززت نشاطات الانفصاليين، وفي روسيا حيث دعمت أمريكا (الجمهوريات الاسلامية) في الاتحاد الروسي من اجل اكمال تقسيم روسيا الاتحادية بعد تقسيم الاتحاد السوفيتي، وتحولت روسيا البيضاء وغيرها من جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق من حليف لروسيا إلى خصم يتربص بها مثلما فعلت جورجيا بتجروءها على لاعتداء على روسيا!

خصوصية الفسيسفاء العربية

وهنا يجب ان نسلط الضوء على توجه أمريكي متعمد ومخطط له يقع في صلب شرذمة الامم والكيانات الكبرى وانزال مرتبتها، وهو تشجيع ودفع كيانات عربية بسيطة وضعيفة وغير مؤهلة للعب ادوار اكبر من حجمها واخطر من قدرتها على تحمل اثارها ونتائجها، مع انها كيانات كانت مهمشة اقليميا ولا تقوم بذاتها بل تعتمد في كل شيء – من اكلها وحمايتها وموظفيها - على دعم القوى الكبرى في الاقليم والعالم، لاسباب تتعلق بحجمها وطبيعتها القبيلية السابقة لعصر الدولة الوطنية وهيمنة التخلف الشامل على نمط حياتها، وكانت هذه الكيانات المجهرية لهذه الاسباب تعرف حجمها وقدرتها فتتطوع للالتحاق تلقائيا بالقوى الاقليمية الكبرى وتعتمد عليها وتحترمها وتدعمها ماليا وتتجنب استفزازها لانها كانت تعرف ان ذلك تصرف خطير وغير حكيم.

في الحياة العربية الحديثة يلاحظ منذ التسعينيات تنفيذ خطة الغاء دور القوى العربية الكبرى والتاريخية والمتقدمة اجتماعيا وحضاريا أو محاولة تهميشها، مثل مصر والعراق وسوريا ودول المغرب العربي، أو الثرية جدا ومارست نفوذها بقوة المال وصارت قطبا اقليميا يصعب تجاهله كالسعودية، ودفع كيانات صغيرة جدا ومحدودة الامكانات البشرية وتفتقر للخبرات الحديثة في مجال ادارة الدولة للحلول محلها في ترتيب امور المنطقة!

ان مثال الاستفزاز الكويتي الخطير للعراق اعتبارا من عام 1988 والتجاوز على حقوقه وحدوده يقدم لنا صورة مقلقة لخطورة هذه الخطة، كما ان مثال تشجيع قطر على تحدي السعودية ومصر يقدم لنا صورة اخرى لا تقل خطورة عما فعلته الكويت مع العراق وادى إلى اندلاع اطول واخطر حرب في تاريخ المنطقة والعالم.

ولئن كان الاستفزاز الكويتي للعراق والتجاوز على حقوقه وكرامته قد ادى لاندلاع تلك الحرب فان عواقب الدعم الأمريكي لقطر في تعاملها مع مصر والسعودية وغيرهما يقدم لنا مثالا حيا وواضحا على وجود خطة أمريكية تقوم على الحط من شأن القوى العربية الكبرى حتى تلك المتحالفة مع أمريكا والمساعدة لها، والمبالغة في رفع شأن كيانات صغيرة جدا ولا تملك مقومات لعب دور خارج حدودها بل انها حتى داخل حدودها عاجزة عن توفير متطلبات حياتها فاستعانت بالعرب والاجانب للقيام بذلك. وهذه العملية الخطيرة ادت إلى رد فعل مصري اولي متوقع جدا وقوي جدا وهو الرد على من قال بان قطر تلعب دورا اهم من دور مصر في المنطقة بان (قطر ليست اكثر من فندق في القاهرة)، وهو تشبيه بلاغي فيه صحة من حيث الحجم، لكن الذي حصل فعلا هو ان الدور المصري انهار بشكل كارثي وسط موقف أمريكي لا يمكن وصفه الا بانه موافق على الحط من شأن مصر عمدا، وهو ايضا نفس الموقف الصهيوني رغم ان النظام في مصر اكثر واهم من قدم تنازلات لأمريكا والكيان الصهيوني، مما يؤكد بان المستهدف هو ليس النظام المصري بل مصر ودورها ووحدتها ومستقبلها. لقد استخدمت قطر قناة الجزيرة، والتي تخطط لها وتوجهها جهة أمريكية بكل تاكيد، لتحطيم صورة مصر (ام الدنيا) وجعلها تبدو مركزا لكل انواع السوء والفشل، وكأن أمريكا تريد ابلاغ شعب مصر برسالة واضحة تقول: تلقوا جزاءكم نمرغ انوفكم في التراب بواسطة دولة تعدونها ليس اكبر من فندق في القاهرة.

اما قطر والسعودية فان الامر مشابه لما حصل مع مصر وبنفس الوقت يختلف في جانب مهم، فالسعودية تختلف عن مصر في كونها الاخ الاكبر في مجلس التعاون الخليجي، وهي كانت تتمتع بثقل خاص تحترمه كل دول الخليج العربي، بما فيها اصغرها قطر، لكن بدء عملية تفتيت الكيانات العربية الكبيرة ادى إلى ان تتشاجر قطر مع السعودية من منطلق يبدو صحيحا وهو انه لا يوجد صغير أو كبير في كيانات الدول حينما يتعلق الامر بالسيادة.

ولكن هل الموضوع موضوع سيادة حقا مع ان قطر ليست سوى ثلاثة قواعد أمريكية اثنان منهما عسكرية وهما الاكبر من بين كل القواعد الأمريكية في العالم، اما الثالثة فهي اخطر من القاعدتين العسكريتين وهي قاعدة قناة الجزيرة التي تستخدمها أمريكا بصورة واضحة لتدمير أو عزل أو شيطنة من تريد، ومع هذه القواعد الثلاثة ووسطها وفي حمايتها تجلس دولة قطر ذات السيادة! اننا ونحن نشير إلى ذلك ليس مقصدنا مهاجمة قطر أو غيرها بل عرض واقع حال ليس اكثر ولا اقل من اجل فهمه أو لمساعدة الاخرين على فهمه، والاهم التنبيه لمخاطر استفزازت دول صغيرة لدول كبيرة وعريقة وعدم تذكرها ان الزمن دوار ولا يتوقف ابدا.

وبحكم ضرورات الحط من شأن الاقطار العربية الكبيرة والتاريخية والمتقدمة والمؤهلة على مختلف الصعد فان الدور القطري الان يبدو اهم من الدورين السعودي والمصري واكثر تأثيرا وتراجعت مصر اقليميا حتى في اطار ما سمي ب عملية (السلام) التي بدأت بها وكان مطلوبا مكافئتها. ان قطر تقوم الان بدور مصطنع واكبر من حجمها واثقل من قدرتها على تحمل اثاره المستقبلية بشكل خاص، وهو دور المطبع الاول مع الكيان الصهيوني خصوصا على مستوى شعبي عام من خلال تسخير قناة الجزيرة لفتح نوافذ اتصالات مباشرة مع الاعلاميين والساسة والقادة الصهاينة هدفه الواضح هو تطبيع التعامل مع الصهاينة وتحويله من عار وخيانة قومية ووطنية إلى امر عادي تأخذ الاجيال الجديدة بتقبله كحقيقة واقعة. ولمن لا يعرف أو لم ينتبه علينا التذكير بقضية جوهرية وهي ان ما يسمى ب(السلام) بين العرب والصهاينة لا تقيمه اساسا الحكومات ولا تستطيع النجاح فيه ما لم تتقبله الجماهير أو كتل كبيرة منها، وحالة مصر بعد اكثر من عقدين من التطبيع الرسمي تثبت استحالة تحقيق التطبيع بدون تقبل شعبي، وهذا بالضبط ما قاله الرئيس الأمريكي جيمي كارتر بعد لحظة من توقيع السادات وبيجن اتفاقيتي كامب ديفيد حيث قال: (الان نوقع اتفاقية سلام الحكومات ولكن الاهم من هذا هو تحقيق سلام الشعوب). قطر البلد الصغير المحدود القدرات البشرية يبدو كأنه (يتبرع) بتصدر اخطر عملية هزت المنطقة وجلبت لها الكوارث واحدة اثرا اخرى، ومنها تحطيم اقوى الانظمة الوطنية العربية وافشال سعيها الكبير لتحقيق التقدم مثل المرحوم عبيدالناصر، والشهيد صدام حسين، ومع ذلك تتصرف قطر وكأنها تملك مؤهلات اكبر من عبدالناصر وصدام حسين وغيرهما من القادة العرب الوطنيين وغير الوطنيين!

بالاضافة لقيامها بوساطات ومبادرات لحل الازمات العربية واستضافة مؤتمرات عربية واقليمية وعالمية لتقرير اتجاهات التطور الاقليمي، كانت الدول العربية الكبرى وذات التراث المعروف كمصر والعراق وسوريا هي من كانت تتولى امرها قبل ان تقرر أمريكا تكليف الاصغر والاقل خبرة والافقر امكانية، على صعيد التأهيل البشري، بهذا العمل الخطير! فهل هذه المبادرات والنشاطات القطرية ثمرة قرار قطري وبلا دعم أو تشجيع أمريكي؟

والاهم ملاحظة ما يلي: ما مغزى التقرب القطري الواضح جدا والملحوظ مع إيران وحزب الله وحماس لدرجة ان بعض من يوصفون ب(مفكرين اسلاميين) عدو قطر من (دول الممانعة) كسوريا مع ان قطر واقعيا محمية أمريكية؟ للاجابة بدقة لابد من التذكير بواقعة معروفة رسميا وهي ان حكومة قطر ارسلت وزير خارجيتها وقتها، وهو الان رئيس الوزراء، إلى بغداد قبل الغزو حاملا رسالة أمريكية تقول بان الحرب قادمة وان قطر لا تستطيع منع أمريكا من استخدام اراضيها في مهاجمة العراق، لذلك اقتضى توضيح موقف قطر.

ما معنى هذا الكلام؟ انه يعني ان قطر التي لا تملك القدرة على السيطرة على اراضيها ولا تملك القدرة ايضا على التدخل في كل موضوع حساس والمساهمة في ادارته الا اذا طلبت أمريكا منها ذلك، خصوصا في ظل وجود رفض عام من الحكومات العربية الكبرى لقيام قطر بدور اكبر من حجمها وخبرتها وقدرتها، وبطريقة تخلق منذ الان عداوات مستحكمة لقطر في اكثر من قطر عربي.

أمريكا في رسالة واضحة تقول للحكام العرب: اني اتعمد تنصيب من تعدونه الاقل شانا وقدرة وتأهيلا زعيما لكم منه تنطلق المبادرات والوساطا ت وباسمه تكتب الاحداث وليس باسم مصر (ام الدنيا) ولا السعودية (بلد الحرمين الشريفين) ولا العراق منبع الحضارة وبوابة العرب القوية في الشرق! النتيجة المطلوبة أمريكيا وصهيونيا هي اضا فة عامل صراع جديد وبالغ الحساسية بين العرب سببه انزال مرتبة ودور من يعد نفسه كبيرا وتصعيد مرتبة من يعرف انه صغير الحجم وفاقد القدرة على القيام بالدور البديل عن القوى التقليدية العربية! ولاجل زرع نزعة الثأر لدى كبار العرب تجاه صغارهم فان أمريكا تتعمد تشجيع الصغير على الاعتداء على الكبير دون مبرر سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة. ولئن كان العراق قد دمر وأحتل بالحرب، وبمشاركة قطرية رسمية واعلامية وعملية رئيسية فيها حيث انطلقت اهم الهجمات التدميرية من قطر، فان الحرب الأمريكية الشاملة على الامة العربية كلها، انظمة وجماهير، تتولى الصهيونية التقليدية ونخب الغرب الاستعماري توجيهها وتحديد مضامينها وطروحاتها وتأمر الاعلام العربي خصوصا الجزيرة بتنفيذها، لاحداث حالة فقدان الهوية وزرع اليأس وتنمية الكيانات المجهرية والنزعات الضيقة التي تضمن تحييد كل طاقات الامة العربية وتحويلها إلى كيان مهدم تصفى املاكه علنا.

مما لاشك فيه ان الهدف المباشر الذي تنفذه قناة الجزيرة، من خلال برامجها المتنوعة المعتمدة على تغطية احادية الجانب تفتقر للحياد والموضوعية ومدروسة بدقة، هو تدمير الرابطة القومية العربية وتسفيهها – مثلا برنامج احمد منصور وظيفته هي شيطنة القومية العربية بطريقة فجة تنز حقدا وكراهية للعروبة وهذا الهدف اي شرذمة وتقسيم الاقطار العربية هو الهدف الاول والاهم للكيان الصهيوني والغرب منذ الخمسينيات وحتى الان - والتركيز على السلبيات وفساد انظمة تحت غطاء حرية الراي، وسحب ذلك على القطر والجماهير العربية وليس النظام فقط، حيث سمعنا ونسمع لاول مرة من الجزيرة شتائم توجه للشعب العربي وليس لانظمته الفاسدة فقط وامتداح الاستعمار والصهيونية بصورة مباشرة.

بل لقد اقدمت الجزيرة على خطوة بالغة الدلالة وهي الترويج للاقليات في الوطن العربي وابراز مواقف الانفصاليين منهم كالبربر دون ان تحترم احدى اهم قواعد الاعلام الحر وهي قاعدة وجود الراي الاخر، انا شخصيا استغربت من فجاجة الجزيرة ووقاحتها حينما قدمت اكثر من برنامج عن البربر تحدث فيه انصار الانفصال عن معاداتهم للعروبة ووصفوا القومية العربية بالعنصرية دون وجود من يرد على هذه الاتهامات، والاغرب هو تكرار هذا الامر! مما يؤكد ان ما تريده الجزيرة هو ترويج انفصال البربر وبقية الاقليات وتقسيم المغرب العربي والعثور بين العرب على من يتعاطف مع الانفصال!

هذا الكلام ليس انشاء أو نقدا عابرا بل هو موثق ببرامج الجزيرة كلها وسيأتي اليوم الذي تسمح فيه الظروف للباحثين الاحرار بان يقدموا الادلة الواضحة على ان قناة الجزيرة هي اخطر بكثير من قاعدتي سيليلة والعيديد في قطر وان وظيفتها الاساسية هي تدمير الاسس التي تقوم عليها الهوية العربية وتشجيع الكيانات المجهرية القزمة والمقزمة.

ان شيطنة الاقطار العربية، خصوصا الكبرى والمتقدمة والتي تملك اكبر مخزون بشري حداثي، وبغض النظر عن نظامها السياسي، مثل مصر والجزائر وتونس وسوريا والعراق وغيرها، أو تلك الي تشكل خزان العروبة ويؤدي المس بهويتها إلى نسف الخزان الاخير للعروبة كاليمن هو عمل ستراتيجي بعيد المدى لم تضع اسسه قطر بل المخابرات الأمريكية واوساط صهيونية اعلامية للجزيرة علاقات مباشرة معها. ومما يجعل هذا الدور الخطير للجزيرة مفضوحا هو انها تهاجم الجميع وتحط من شأن كل العرب باستثناء قطر ونظامها وكانه بلا سلبيات مع ان العالم كله يعرف الطبيعة العائلية شبه الاقطاعية للنظام في قطر! وهذا موقف ينطوي على سذاجة قطرية قاتلة كسذاجة الاعتقاد بان التاريخ انتهى بسيطرة أمريكا، وتكبر هذه المشكلة وتزداد تعقيدا على قطر حين نتذكر بان الكبير الذي اهين وقزم يريد استعادة دوره الطبيعي المفقود وهو يعمل بكل طاقته من اجل ذلك، في حين ان الصغير الذي وضعته أمريكا فوق فرس ابيض لا يريد النزول عنه مهما حصل! وهكذا تنزرع مشاكل جديدة لم تكن موجودة وتظهر عوامل الثأر والتربص بصغير تجاوز قدراته والحق اذى كبيرا بغيره، واحيانا خطيرا جدا يصل حد المشاركة الرئيسية في تدمير دولة وحصول كوارث هائلة لشعبها، كما في حالة العراق الذي كانت قطر المنطلق الاساسي في غزوه وتدميره واكثر من اي طرف اخر شارك في غزو وتدمير العراق عند بدء الحرب. فهل تستطيع قطر تصور المستقبل بدون هذه الخلفية الكارثية؟

هنا يفرض سؤال منطقي نفسه: لماذا تلعب قطر هذا الدور الخطير جدا؟ نعم انها محمية أمريكية وتعمل باوامر أمريكا وتنفذ خطة أمريكية صهيونية واضحة جدا، ولكن ذلك لا ينفي وجود تأثير لعقدة صغير الحجم يريد اطالة قامته بمحاولة تقصير قامة طوال القامة أو تجزئة اجسادهم.

ان الاسئلة المهمة التي علينا تكرار طرحها بلا ملل هي: لماذا لجأت أمريكا لخطة عملقة كيانات عربية بسيطة ومحدودة في كل شيء الا المال مقابل تقزيم وتهميش ومحاولة تقسيم كيانات عربية قوية ومتقدمة وتملك شروط التقدم والنهضة وتفهم روح العصر وتعيش فيه؟ ولماذا تم اقصاء أو تدمير مصادر قوة الدول العربية الكبيرة والمؤهلة لمواصلة الصراع، مثل مصر والعراق وسوريا، بكافة اشكاله وتحويلها إلى معامل تفريخ الازمات والفشل؟ وهل يمكن تشبيه الدور النشط لكيانات خليجية صغيرة كقطر بدور سويسرا والنمسا الفعال في اوربا والعالم مع انهما صغيرتان عدديا مثلا؟

ان تبني تلك السياسة كان خطوة أساسية على طريق منع العرب من تحقيق اي تقدم واعدادهم للتراجع والردة والفشل الشامل عن طريق ازالة أو اضعاف اهم عناصر الاستقرار والديمومة وهو الرابطة الوطنية والثقافة العصرية والتقدم الاجتماعي الذي يسود الدولة والمجتمع، ووجود انماط العمل السياسي والاداري التقليدي الذي تبلور منذ بدات النهضة العربية الحديثة، وهو ما حصل في مصر وبلاد الشام والعراق والمغرب العربي. ان ذلك التقدم والبيئة الحداثية كانا الشرط المسبق لمواصلة عملية الانتقال الذي كان واضحا جدا من عصور التخلف إلى العصر الحديث، وبما ان الكيانات التاريخية العربية التي صنعت الحضارات قديما أو بدأت تتقدم وتكتسب روح العصر وتغادر مرحلة التخلف والارث القبلي الذي ينقض نقضا تاما مفهوم الدولة الحديثة، فان اعادة العرب إلى عصر ما قبل الامة وما قبل العصر الحديث مرهون بتفتيت الدول العربية الكبرى والمستقرة في تقاليدها الاجتماعية والمتمتعة بروح العصر والمتجهة لتحقيق تكافأ مع العالم المتقدم واغراقها بازمات اقتصادية وسياسية وامنية وبالفساد وتتويج ذلك كله بالحاق الهزائم السياسية والعسكرية بها، وهكذا ينقطع المؤهلون من العرب لدخول العصر الحديث وتحرير الامة العربية من التخلف والضعف والامية عن العالم ويصبحون اسرى ازمات مدمرة لابد وان تنتهي بحرقهم ودفعهم للخلف وبحث الجماهير المعذبة عن بديل اخر عنهم.

ما هو البديل المطلوب أمريكيا؟

ما يميز الخليج العربي والجزيرة العربية هو التأثر الشديد ببيئة القبيلة في صورتها الاكثر سلبية التي تعزلها عن العالم المتقدم والخضوع لصراعات حادة بين الشيوخ وافراد الاسرة الواحدة من اجل المال والسلطة، وحينما يستقر الصراع بانتصار شيخ أو اكثر يتحول المال بالنسبة للكثير من الخليجيين إلى (الاله) الحقيقي الذي لا يعبد سواه، خصوصا وان الثقافة البدوية تتناقض مع ثقافة الوطن والامة والهوية القومية، فيصبح الاحتفاظ بالمال هو المحرك الاول وليس الرابطة الوطنية والقومية أو الدينية. ولاكمال محو الخصائص الايجابية في الثقافة البدوية سخرت أمريكا المال الخليجي لصنع مجتمعات بلا هوية وهي اقرب إلى مقرات شركات كبرى حديثة يعمل فيها بشر من كل الاجناس والانغماس في حياة البداوة والقرون الوسطى تحت غطاء عصري صوري. وهكذا حققت أمريكا والغرب والصهيونية اهم هدفين لهما: الهدف الاول حرمان العرب من تسخير ثروتهم للتنمية الحقيقة ولحل مشاكل الناس كالامية والفقر والتخلف وتسخيرها في مشاريع استهلاكية ينعدم فيها المستقبل وتحول الثروات إلى جيوب الاحتكارات الغربية وعوائل محددة. والهدف الثاني تعزيز عملية ازالة الهوية الوطنية والقومية لاقطار الخليج العربي برفع اسوار حدود دول صغيرة تنتمي لعصر ما قبل الامة والوطنية وجعلها انموذجا للتطور في بقية الاقطار العربية.

والتنيجة الطبيعية لكل ذلك هي تفتيت كل الاقطار العربية ومحو هويتها وجعلها انموذجا ناجحا لتحويل امة عريقة لها هوية متجذرة وعمرها الاف السنين إلى محض مدن اسمنت استهلاكية غنية لا تنتمي لهوية، وتشجع على التناثر في الاقطار العربية العريقة اجتماعيا وحضاريا وافساد عمليات التقدم الطبيعية فيها بطبخ عملية تغيير اخلاق وقيم الناس عبر الافساد المنظم والافقار المنظم للطبقات الوسطى، عماد التقدم، وتحويلها إلى طبقة فقيرة مدمرة، ومدمرة بنفس الوقت، كما نراه في برامج وضعتها مراكز البحوث الصهيونية والأمريكية والإيرانية وتبثها عشرات القنوات المتخصصة بنشر العهر علنا والشذوذ الجنسي علنا جنبا إلى جنب مع انشاء قنوات تروج للتطرف الديني والطائفي وتحاول تقديم اسلام مشوه ومدمر للرابطة الوطنية! ولفهم حقيقة اللعبة لابد من الانتباه إلى ان ممول هذه القنوات هو نفسه جهات خليجية وإيرانية حصرا! وكلمة السر هي ان أمريكا فرضت انشائها بمال عربي من اجل افساد المجتمع بصورة مدروسة وزرع عوامل التشرذم باسم الدين تارة وبأسم التحلل الخلقي تارة اخرى.

نأتي الان إلى المثالين السويسري والنمساوي التنمويين الناجحين - ونضيف السويد ايضا – رغم صغرها العددي، وهنا علينا ان لا نهمل ابدا فرقا جوهريا وحاسما بين النمسا وسويسرا وبين دولة مثل قطر، فالنمسا وسويسرا دولتان متقدمتان علميا وتكنولوجيا ومتماسكتان في هويتهما – رغم ان سويسرا متعددة القوميات - ولديهما مجتمع مدني متقدم تحكمه المؤسسات وليس القبيلة أو العائلة، والثروة فيها نتاج جهد وعمل وليس ثمرة هبة من الطبيعة، وهما لهذه الاسباب مؤهلتان للتقدم والابداع والمساهمة في الحضارة الانسانية، اما قطر فان ميزتها الوحيدة هي الثروة وذكاء اميرها الحالي وحداثته الفردية وتطلعاته البعيدة، وماعدا ذلك فانها مجتمع شبه بدوي طفيلي تماما يعيش على ما ينتجه الاخرون ويتمتع بمال الغاز والنفط وفقد فضائل البداوة مع الاحتفاظ بمساوئها، واكتسب مساوئ العصر الحديث دون الحصول على فضائله ومنها العمل المنتج والعقلانية في ادارة المال والدولة، لذلك فهو مجتمع هجين وطارئ ابرزته عملية التغييب المنظم للاقوياء والمتقدمين من العرب.

مركب النقص

لماذا فعلت أمريكا ذلك؟ لماذا ارادت تمزيق كل الامم وكل الدول على اسس طائفية عرقية اثنية سابقة لعصر الامة والوطنية؟ ولماذا اختارت كيانات صغيرة وغير مؤهلة لاداء دور اقليمي بارز على حساب القوى الاقليمية المؤهلة تاريخيا وواقعيا للعب ذلك الدور؟

الجواب مزدوج: بالنسبة للعرب فان التحالف الصهيوني الأمريكي الملتقي مع إيران يريد انهاء الامة العربية بتقسيم اقطارها وتغيير هويتها العربية إلى الابد، واحد اساليب تحقيق ذلك تسليط الصغار غير المؤهلين لاهانة الكبار والحط من شأنهم وهو امر يزيد من نشر الفوضى والازمات ويخلق الغاما جديدة يؤجل تفجيرها إلى وقت مناسب. اما عالميا فاننا يجب ان نتذكر دائما، وكلما فكرنا في الغاز أمريكا، بان سايكولوجيا أمريكا السائدة هي سايكولوجيا عمال شركة كبرى وليست سايكولوجيا امة، وسكانها لا تربطهم ثقافة امة بل ثقافة رفقة طريق تكونت اثناء العمل وبقوة الياته لاغير، لان أمريكا لم تتطور وتصبح امة بعد وانما هي امة في طور النشوء، وبما انها تقود العالم وتريد استعماره واستخدام قدراته لخدمة مشروع امركة القرن الحادي والعشرين اذن يجب اضعاف روابط الامم الاخرى وتحويلها إلى الغام موقوتة تستطيع أمريكا تفجيرها أو التهديد بذلك كلما ترددت حكومة ما في تنفيذ ما تريده أمريكا.

ان قوة الامم تنبع من تماسك سكانها وتماسك هؤلاء ينبع من هويتها القومية التي تمدها بالقوة والجاذبية الطبيعية خصوصا عند الازمات فكيف تستطيع دولة عسكرية – من حيث التنظيم الاجتماعي - كأمريكا ان تحكم امما عريقة متبلورة الهوية وهي بلا هوية سوى هوية الانانية الفردية لفرد يعمل في شركة كبرى؟ ان أمريكا تعمل وفقا لقاعدة معروفة وهي ان اللص حينما يسود يريد تحويل الناس كلهم إلى لصوص، أو على الاقل اجبارهم على قبول سايكولوجيا اللصوصية في اهم مكوناته وهو البراغماتية، لالغاء الحكم القيمي السابق عليهم كلصوص مدانين في اليات تفكيرهم، وطريقة بناء نظام المافيات الأمريكية تقدم لنا صورة واضحة جدا حيث تصبح اخلاق المافيا وليس اخلاق المجمتع هي المحرك المقبول لاعضاءها، وهي حالة تشبه حالة السمسار حينما يصبح حاكما يريد احاطة نفسه بسماسرة مثله ويعمل بكل طاقاته لجعل الاخرين الشرفاء بالاغراء أو بالقوة يتقبلون ثقافة السمسرة والقوادة تدريجيا لاجل ان لا يبقى احد يعيره بكونه سمسارا ويذكره بماض كانت فيه القوادة عارا ما بعده عار، فالكل يجب ان يكون في الهوا سوا. وبما ان أمريكا شركة كبرى بلا روابط قيمية عمالها تتحكم بهم مصلحة فريدة ومتغلبة على ماعداها وهي المصلحة الفردية الانانية وليس مصلحة الامة، وبما ان أمريكا بلا حضارة أو ثقافة حقيقية موحدة فانها تعمل من اجل جعل العالم كله مثلها بلا قيم وبلا حضارة وعبدا للانانيه المطلقة وقابلا الفساد كجزء من الطبيعة البشرية كما تؤكد الفلسفة السائدة في أمريكا.

حينما استخدمنا مصطلح دولة عسكرية لوصف أمريكا، مع انها دولة ديمقراطية، فاننا كنا نشير إلى ظاهرة تنظيم المجتمع الأمريكي بصرامة القانون والدستور القائمين على مفهوم المصلحة الانانية الفردية، في كيان جديد ومصطنع لم يمر بفرن التاريخ الطبيعي ليصهره ويوفر له عنصر الهوية المتجذرة، فاستعيض عن هذه العملية التاريخية (البروسس process) غير المتحققة في أمريكا لحداثتها، بنظام قانوني قوي جدا يضمن مصالح الافراد بصورة عامة ويقنعهم بوجود سلطة فوق الجميع مما يجعلهم ينتمون إلى ذلك المجتمع الحديث جدا والمتناقض جدا في تكويناته الثقافية. ان الجيوش القوية والناجحة هي التي تنجح في توحيد طاقات جنودها من خلال الضبط العسكري والتربية العسكرية حتى لو كان الجنود ينتمون لثقافات متناقضة ومتعددة، وأمريكا قامت على نفس القاعدة العسكرية هذه: مجتمع متناقض الكتل لكنه يوفر عنصر الجذب والاغراء – مجتمع فرص عمل - وتحكمه قوانين صارمة فوق الافراد والكتل.

في دولة هشة، ثقافيا وحضاريا، وقوية، ماديا وتكنولوجيا ودستوريا، كأمريكا وهي تواجه فرصة العمر القصيرة والوحيدة لاستعباد العالم، الهدف الحاسم المطلوب ستراتيجيا وايديولوجيا، هو اعادة تشكيل العالم ليصبح متوافقا مع النمط الأمريكي وخادما له: مجتمعات مفككة، هويتها متناقضة، قاعدة استقرارها مشكوك فيها، النزعة الفردية والكتلوية هي المحرك وليس مصلحة امة شرذمت، وهكذا يصبح العالم مثل أمريكا عبارة عن شركات كبرى وليس امم متماسكة وقوية، واخلاق براغماتية تسّوق كل شيء وتبرر كل شيء بما في ذلك الكوارث والمجازر وابادة الملايين وممارسة الكذب في احقر صوره كما في حالة غزو العراق.

عقدة الخصيان في بلاط النسوان

ملاحظة جوهرية: من يظن ان أمريكا اعتمدت، وتعمدت، عملقة دول صغير ودفعها لاهانة دول كبرى كانت خطوة منفردة واهم فأمريكا هذه المحكومة بحثالات اوربا التي تحدرت من اوغاد العصابات والمضطهدين واللصوص، تحكمها عقدة التاريخ والاخصاء الحضاري، لانها (خرجت من الغابة إلى المدنية دون المرور بالحضارة)، كما قال برناردشو على ما اتذكر، وقتها كان اجداد النخب الأمريكية الحاكمة أو المتحكمة قرودا تتقافز فوق اشجار بريطانيا حين كان العرب يصنعون اعظم حضارة ويفتحون غابات اوربا لادخال نور العلم والحضارة اليها، لذلك لا تهدأ أو ترتاح النخب الأمريكية الا اذا تعمدت تحقير الشعوب العريقة بفرض نمط من الاشخاص الاوغاد واللصوص والساقطين اخلاقيا زعماء على تلك الشعوب قبل واثناء وبعد نهبها أو غزوها، تماما كما يفعل الخصيان في بلاط النسوان وهم يتجولون بين الحسان دون امتلاك الاداة المطلوبة للعبث معهن فيستعيضون للوصول إلى (اللذة) عن الاداة الطبيعية بادوات اصطناعية كريهة مملوءة بالقسوة والحقد. لاتنسوا ان ضباط أمريكا وجنودها، في عشرات معتقلات مثل ابو غريب، كانوا يتلذذون باغتصاب الشيوخ وليس الاطفال والنساء فقط، ولا تنسوا انهم كانوا لا يكتفون بالاغتصابات الشاذة بل كانوا يتوجونها بطقوس سادية عنيفة لا تصدر عن بشر، مثلما فعلو بالشهيدة الطفلة عبير الجنابي وعائلتها، انها عقد حثالات اوربا المجرمين.

هل تذكرون نوعية الزعماء الذين فرضتهم أمريكا على العراق بعد غزوه؟ وهل كان اختيارهم خطأ أو صدفة؟ ان فرض احمد الجلبي وموفق الربيعي ونوري المالكي وابراهيم الجعفري وعدنان الباججي واياد علاوي وجلال الطالباني ومقتدى الصدر وغيرهم، حكاما على العراق، مع انهم اما لصوص اوساقطين اخلاقيا أو اميين وجهلة اوتافهين كذابين، كان عبارة عن اهانة محسوبة ومتعمدة لشعب العراق العظيم اقدمت عليها أمريكا بالتوافق مع إيران، وتقول نحن نفرض عليكم حثالات العراق والمنطقة حكاما عليكم، لاننا نحتقركم ونكرهكم ونود رؤيتكم وقد زلتم من خارطة البشر. هل نظلم هؤلاء؟ كلا فليس من طبيعتنا الشتم وشخصنة الامور السياسية، فهؤلاء وصفتهم مادلين اولبرايت بدقة متناهية قبل الغزو، حينما كانت وزيرة خارجية أمريكا في عهد كلنتون، قائلة: (ان قادة المعارضة العراقية عبارة اشخاص ساقطين اخلاقيا همهم الاول هو التنقل في فنادق خمسة نجوم بحثا عن عاهرات من الدرجة الخامسة وفي اياديهم ساعات رولكس). اما من عينهم حكاما على العراق وهو بول بريمير فقد قدم في كتاب عن ذكرياته في العراق افضل تقويم لهم بوصفهم باسوأ الاوصاف التحقيرية. تذكروا هذه الملاحظة وانتم تقوّمون اهداف أمريكا غير المعلنة ولكن المكتوبة على جبين حثالاتها المفروضين حكاما علينا لتدركوا ان الحرب تنطوي على اساليب سرية تنوش كرامات الشعوب وعقيدتها وليس حريتها وثروتها فقط.

هل نجح هذا المخطط؟

لولا مقاومة العراق التي انطلقت بقوة منذ عام 1991 وصموده ورفضه الاستسلام لأمريكا لكان ممكنا مرور موجة الامركة ونجاحها في استعباد العالم برمته، نتيجة تصور اغلب القوى الدولية والاقليمية بان (العصر الأمريكي) قد حل وان مقاومة أمريكا مغامرة انتحارية يجب تجنبها. ان معركة العراق الطويلة والمشرفة شكلت المصد القوي الذي فقدت أمريكا طاقاته وهي تحاول تحطيمه فانكشفت عيوبها التي كانت تحرص على اخفاءها لابقاء العالم اسير ابتزاز قوتها الاسطورية، وقدمت المقاومة العراقية الدليل على ان أمريكا ليست كما تبدو في الظاهر قوية لاتقهر بل انها تعاني من خلل بنيوي قاتل، اي ازمة شيخوخة نظامها الراسمالي، وهي ازمة تداع وافول لا يمكن عكسها حتى لو امكن تعطيلها أو تخفيف مسارها، والدليل هو انها كبت في العراق وتمرغت في اوحال الهزيمة المريرة فيه وكشفت عيوبا خطيرة، منها أنها ليست امة بل شركة مصالح كبرى، وانها بلا هوية وطنية حقيقية. ومن نتائج غياب الهوية الوطنية وسيادة المصلحة الفردية ظاهرة الضعف القاتل للجندي الأمريكي حتى لو كان قاتلا مأجورا بلا قلب في داخل أمريكا، لان الجندي الأمريكي مصنوع للانهيار النفسي حالما يواجه مقاومة صلبة من ابناء البلد المحتل، وهو ما ريناه في العراق بصورة انموذجية تمثلت في اصابة اكثر من مليون أمريكي خدموا في العراق بامراض وعاهات نفسية خطيرة حولتهم إلى اكوام من العقد البشرية المريضة وغير القابلة للشفاء. ومنها ايضا ان الاقتصاد الأمريكي غير قابل للانفاق إلى ما لانهاية على حرب مكلفة ومدمرة لانه اقتصاد قائم على قوة أمريكا وهيبتها وليس على قيمة نقدها، وهي دوما تحتاج للنهب وليس للعطاء، ولذلك فان أمريكا تقف بعد هزيمتها امام المقاومة العراقية على كف عفريت سيدفعها للتمزق حالما تنتهي الاعتمادية العالمية على الدولار أو اذا اصرت أمريكا على مواصلة سياسات الغزو والحرب.

وهذه الحقائق طرحت سؤالا منطقيا وهو: اذا كان العراق البلد الصغير عدديا والمتوسط الثروة والتقدم العلمي والتكنولوجي قد جر أمريكا إلى حافة الهلاك الحقيقي فهل تعجز دول اغنى واكبر واقوى من العراق، مثل روسيا وفرنسا والصين، عن مواجهة أمريكا واحباط محاولاتها الاعتداء على سيادتها ومصالحها ووحدتها الوطنية؟

بفضل انموذج المقاومة العراقية الباسلة تشجعت الكثير من الدول التي كانت صامتة بل وبعضها واخذ يستعيد قدرته على الاعتراض على ما كان يجري في العالم من تحطيم للدول القومية في العالم وتخل واضح عن الخصوصيات الوطنية والثقافية للامم، والعودة للذات الوطنية وتنمية الخصائص الوطنية والثقافية للامم التي انبطحت نظمها اولا لأمريكا، وصارت تتحدث عن العولمة وكأنها قدر لا يمكن تجنبه.

مثلا: فرنسا وبعد ان انبطحت امام العولمة والتي كانت تتقدم بثقافة أمريكية، واضحة السطحية والتفاهة، غزت الكثير من مناخات فرنسا الوطنية، ومنها انتشار اللغة الانكليزية في فرنسا بعد التسعينيات مع انها واجهت رفضا قويا حتى نهاية الثمانينيات، اخذت تتراجع وتعمل على اعادة الدور الحاسم للغة الفرنسية وتشكلت لجان لتنقية اللغة الفرنسية من الالفاظ الاجنبية – والمقصود بالدرجة الاولى اللغة الانكليزية - وتعزز دور منظمة الدول الفرانكوفونية، وتشجع الرئيس الفرنسي ساركوزي، الذي اعلن انه مع أمريكا ومع اتجاهها الامبراطوري، حينما كانت أمريكا تتقدم وتبدو منتصرة وقبل الاعتراف الأمريكي بالهزيمة في العراق واتخاذها قرارا بالانسحاب، ليقوم بنقد أمريكا بعد هزيمتها ويتقدم اكثر بعد الازمة المالية ليطالب بالتخلي عن الدولار كعملة وحيدة في التعامل الدولي، وهو موقف لم يكن متصورا ان يقدم عليه حتى التيار الديغولي في عز قوته وتألقه!

هل هذا تطور عادي؟ كلا فتلك كانت ضربة ستراتيجية لأمريكا لانها ستحرمها من حالة شاذة سادت عالم المال منذ الغى ريتشارد نيكسون الرئيس الأمريكي (اتفاقية بريتون وودز) في السبعينيات التي كانت تلزم بجعل كل دولار مسنودا بغطاء ذهبي، ودعوة ساكوزي خطرة جدا لانها الخطوة الاساسية في اعادة أمريكا إلى حالة دولة عظمى من بين دول عظمى متعددة. مثال اخر روسيا التي عادت لتنافس أمريكا وتفاوضها وفقا لشروطها، بعد مرحلة انبطاح طويلة بدأت في عهد غورباتشوف اخر زعيم للاتحاد السوفيتي وبدأت تنتهي بوصول بوتين للسلطة، ووصلت الان إلى مرحلة الضغوط المتبادلة خصوصا حول منظومة الصواريخ الأمريكية ونشرها قرب روسيا، من اجل عودة روسيا كقوة عظمى تتقاسم النفوذ مع أمريكا وغيرها في عالم لن يكون فيه اي دور الا للاقوياء.

وروسيا وفرنسا والصين وبقية اوربا، في موقفها الرافض للامركة تنطلق من قاعدة اخرى اهملت في عهد الاستكلاب الأمريكي وهي قاعدة المصلحة القومية التي حلت محل الصراع الايديولوجي بين الراسمالية والشيوعية. نحن اليوم نشهد عصر استيقاظ الهويات القومية في العالم، وعودة الروح اليها، وهو عصر سيضمن تراجع أمريكا ونشوء عالم متعدد الاقطاب، مهما كانت سلبياته فانه اقل ضررا وخطورة من عالم القطب الواحد. وانبعاث عصر الهويات القومية لا يلغي الاتجاهات القارية للتوحد بل هو يعززها لان احترام الهوية الخاصة لكل امة هو المدماك الصلب للتعاون والتوحد القاريين. ليس هذا فقط اذ ان دولا من العالم الثالث خصوصا في أمريكا اللاتينية (الحديقة الخلفية) لأمريكا قد استيقظت على لعلعة رصاص المقاومة العراقية واخذت تتحدى أمريكا علنا وتسقط بالانتخابات النظم العميلة لأمريكا. ان شافيز الرئيس الفنزويلي الشجاع احد هؤلاء القادة الجدد الذين يتحدون أمريكا، وما زالت اذكر صوته الفرح وهو يقول حين كان يغادر بلاده لزيارة العراق قبل الغزو قائلا انني ذاهب لمقابلة صدام. كان صدام الرمز الاعظم والابرز لمقاومة أمريكا بشجاعة في وقت انحنت فيه كل الرؤوس – الكبيرة والصغيرة - امام الثور الأمريكي الهائج.

لنتصور ان أمريكا انتصرت في العراق، لا سامح الله، وفرضت هيمنتها عليه ماذا كان سيحصل؟ من المؤكد ان صورة أمريكا التي لا تقهر ستكون معلقة كسيف الجلاد فوق رؤوس حكام كافة الامم، بالاضافة لامرار اسطورة ان أمريكا تملك طاقات لانهائية وقدرة سوبرمانية على التجدد والتكّيف مع اي حالة ضعف أو تراجع! الان العالم يرى أمريكا دولة غيرطبيعية تعالت صرخات بعض ولاياتها تدعو للانفصال بمجرد التعرض لتهديد نقص النستلة أو عدد ساعات سياقة السيارة فكيف سيكون حالها حينما يذهب المواطن الأمريكي بحثا عن الخبز ولا يجده؟ للعراق ومقاومته الفضل كل الفضل في اعادة الامور إلى الطريق التاريخي الصحيح وهو طريق الامم العريقة والتي تكونت بصورة طبيعية، وليس بقفزات هجرات جماعية لفقراء معدمين تشوهت نفسياتهم واصبحوا مستعدين للتنازل عن اي شيء قيمي من اجل الحصول على المال، أو لصوص تم نفيهم إلى قارة جديدة تخلصا منهم فنقلوا تقاليد اللصوصية اليها وجعلوها اساسا لنمط نفسي مريض حاكم، ومضطهدين دينيا هربوا بحثا عن الحرية فاصبح الشك والتشكيك ميزة نفسية لهم، فالتقى هؤلاء جميعا حول هدف التعايش باي ثمن وترك كل طرف للاخر يعيش وفقا لهواه وهويته الخاصة وتربيته الاجتماعية والنفسية، فنشأت (رفقة) شركة قوية وفعالة ومتقدمة التنظيم. انها ليست امة بل هي شركة كبرى قوية تملك مالا وفيرا لتوظيف الملايين، ولكن كل شركة في العالم الراسمالي لها عمر افتراضي لابد ان تخضع لاحكامه. مقابل تراجع الامركة وانهيار الطابع الاستعجالي للعولمة أنبعث ونهض مفهوم الامة والهوية القومية مجددا ليسود العالم من روسيا إلى فرنسا، ويتحكم في اقامة عولمة جديدة.

بالنسبة لنا نحن العرب كان احد اهم انجازات المقاومة العراقية هو تحرر قوة اساسية في الوطن العربي من اوهام صراع الحضارات والاديان والاعراق وعودتها للوقوف خلف التيار القومي العربي بصفته قارب الانقاذ الوحيد لهذه الامة من مخططات التقسيم والشرذمة، خصوصا منذ عام 2006 بعد ان انكشفت محاولات ذبح المقاومة عن طريق تحويلها إلى حرب طائفية تطفأ نيران الثورة العراقية المسلحة ضد الاحتلال. بفضل المقاومة الوطنية العراقية عدنا لنقطة البداية الصحيحة، بعد فترة اضطراب فكري وايديولوجي اصاب الملايين، وهي نقطة التمسك بالقومية العربية وبالوطنيات القطرية كمرجعية حاسمة للجماهير لا منافس لها، واسقطت تجربة العراق البالغة المرارة الخيار الديني المسيس وادانت الطائفية والعرقية العنصرية بصفتهما سرطان الامة والاداتان الاساسيتان اللتان تستخدمهما أمريكا والصهيونية وإيران لاقامة منطقة على انقاض الامة العربية ليس فيها الا كيانات قزمة ومقزمة لا تملك حتى عوامل البقاء بالاعتماد على الذات.

فقط بفضل الدرس الذي قدمته المقاومة العراقية وهو ان الانتصار على الصهيونية والامبريالية الأمريكية ورفيقة طريقهما إيران لن يتم الا بالتمسك بالنهج العروبي القومي الثابت الذي يحفظ لكل عربي حقوقه الكاملة دون تمييز طائفي أو عرقي.

يتبع

*كاتب وسياسي عراقي
كتبت في نيسان – ابريل 2010

زر الذهاب إلى الأعلى