يوم تنشغل الحكومات العربية بالتفاصيل الصغيرة والأحداث العابرة فإنها تفعل ذلك على حساب التحولات التاريخية التي نادراً ما تتيحها أقدار أو تجود بها متغيرات..
ولست اجد فرصاً ثمينة أتاحها تحول تاريخي هائل ووفرتها أسباب ندر ان يكون لها مثيلا كما هو حال الهدر الذي مرت به علاقات اليمن مع المملكة العربية السعودية..
فعلى مدى نصف عقد من الزمن غزلت الاماني المؤجلة وعودها مع حقبة جديدة أثمرتها معاناة طويلة وانفرجت معها عقد الايديولوجيا وحسابات الصراع وألغاز الجغرافيا وارتسمت على ملامح هذه الحقبة بدايات غير مسبوقة يتصدرها عهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود..
ان للتاريخ سياقات ملتبسة يمضيها البشر دولاً وشعوباً تحت تأثير خيارات جدلية من تجارب صراع وتناقض مصالح وتقاطع مفاهيم واشتباك ثقافات لكن التاريخ يتخفف من أحماله على حين غرة متى بلغ الصراع ذروته ووضع استخلاصاته في صورة معادلات تفرض نفسها على الواقع بصرف النظر عن عدالتها أو منطقية منطلقاتها..
من هنا لاحت حقبة الملك عبدالله بالتزامن مع بروز واستقرار عدد من المعادلات ذات الارتباط العضوي بمسار العلاقات اليمنية السعودية..
تحققت الوحدة اليمنية وأزالت حرب 94 هواجس الخوف الذي صاحب مرحلة قيامها ووضعت قيادتا البلدين يدهما على مشكلة الحدود بين البلدين وجرت التسوية بالطريقة المرضية لكليهما.
وعلى نطاق الايديولوجيا فان انحسار المد الماركسي القادم من اليمن وزوال مخاطر التوجه القومي (الايدلوجي) اقترنا مع أحداث سبتمبر التي القت ظلالها على فاعلية التيار الوهابي المتشدد.
هذه التحولات التاريخية مجتمعة أو فرادى التقت مع حقبة الملك عبدالله ذو التوجهات الوطنية والإسلامية والقومية المتحررة من التعصب ورواسب الصراع وعقد الايدلوجيا والمنفتح على العصر كما هو بالنسبة لليمن الأخ الذي لا يضمر غير الحب لا يرنو إلى غير الخير والألفة والتكامل.
بيد ان الناضر في علاقات اليمن مع المملكة لا يملك غير التحسر والوجوم إذ ظلت –هذه العلاقة- بمعزل عن أي عمق استراتيجي ولم تتجاوز قشرة الرضى المتبادل بين قيادتي البلدين وقد يكون في مثل هذا الوصف شيئاً من المبالغة..!
حملني على إثارة هذا الحديث أمران ثالثهما جلل ولا ريب.
فعلى حين كان الشاعر السعودي المبدع محمد زايد الالمعي يشارك مع باقة من الشعراء اليمنيين في صباحية أقامتها وزارة الثقافة على هامش معرض الكتاب كان ثمة عارض مؤسف أثار اشمئزاز معظم النخب اليمنية جراء حالة احتقار عبر عنها احد النافذين الذين يوظفون دعم الأشقاء في اتجاه خلق مشاعر غير ودية تركمها متواليات الأحداث ضد مصادر التمويل..
اما الأمر الآخر فلم يكن ليحدث لولا اشتغال الحكومة اليمنية بتسوية صراعاتها الداخلية بدلاً عن استثمار حقبة الملك الجليل في تطوير علاقات البلدين ووضع قطارها أمام تحول يمس البعد الاستراتيجي من مصالح وعلاقات وتواصل شعبي البلدين..
فعلى اي نطاق يمكن فهم المصلحة المشتركة لحكومتي البلدين من هدر التحولات المتاحة في ظل عهد الملك عبدالله الذي لا نسي له كسرة خبز وضعها في يدي ذات مساء عامر بكرم ضيافته وهي –مذ بضع عشرة عاماً- تجرى في دمي ذكرى امتنان عبقها تواضع ودماثة خلق ملك أحبه شعبه وقائد كان وما يزال موضع أكبار أمته العربية والإسلامية..
ان كثيرين يشاطرونني الرأي بتواضع مستوى علاقات البلدين بل هي تبدو هشة تعترضها عوامل تعرية ومحاولات إيقاع وبؤر استهداف دونك وان تكون تجلياتها الراهنة نقيضاً لكل المعطيات المتاحة في عهد هذا الرجل الكبير ولذلك يكون ضمن الأسئلة الراهنة.
هل تنسجم التحولات التي أسلفنا الإشارة إليها مع مظاهر الاسترقاق التي تكتنف (نظام الكفيل) المتبع في حق العمالة اليمنية.. أليس الملك عبدالله هو كفيل هؤلاء بوصفهم أبنائه وأشقائه وجيرانه والمشمولين بكنفه؟
ذلك موضوع حديثنا القادم..