وعالمنا العربي يمر بتحولات تاريخية هامة تؤسس لمرحلة جديدة في تأريخ أمتنا ، هناك من استوعب حقيقة هذه التحولات وهناك من وقف مذهولاً لا يصدق ما يحدث، وتراه مدافعاً عن حاضر أو شك على السقوط ، لقد شهدت السنوات الأخيرة تصاعداً ملحوظاً في مواجهة حركات المعارضة في الوطن العربي، بل وأصبح وزراء الداخلية العرب يعقدون الاجتماعات العلنية لرسم الخطط لمواجهة تلك الحركات تحت مبرر مكافحة الجريمة والإرهاب، وأصبح الإرهاب على وجه الخصوص عنوان تقمع به الأنظمة معارضيها مستغلة بذلك الحملة العالمية لمحاربة الإرهاب، بل قامت بعض الحكومات بالتلاعب بهذه الورقة والحصول على مساعدات مالية وتدريبية وصفقات من الأسلحة من الدول الكبرى ، وللأسف تبين فيما بعد أن تلك القوات والأسلحة والأموال التي أعدت لما أسمي الإرهاب تعد من أهم أدوات الحكام في مواجهة شعوبهم في المرحلة الراهنة.
لقد أدت القبضة الأمنية على الشعوب العربية إلى عجز المعارضة الرسمية عن تغيير الأوضاع السياسية، مما أدى على انتقال مبادرة التغيير إلى الشعوب، ومثلت قضية محمد البوعزيزي مثالاً صارخاً لتدني الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وقسوة الجهاز الأمني، على الرغم من إيهام العالم بما يتمتع به الشعب التونسي من تنمية عالية وحقوق إنسان وديمقراطية ، إلاَّ أن الأيام كشفت ما غير ذلك حتى أن المؤشرات التنموية التي كانت تقدمها الحكومة التونسية كانت مضللة ولا تعكس طبيعة الأوضاع التي يعيشها الشعب التونسي.
إن الأوضاع في تونس لا تختلف عن كثير من البلدان العربية، بل أن المشهد العربي عموماً لا يختلف عن تونس وبعض الدول أسوأ حالاً منها، إن تلك الأوضاع حتماً ستؤدي إلى حدوث التغيير في مختلف دول الوطن العربي وإن بصور مختلفة لكل دولة حسب ظروفها وبنيتها الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية.
ما يهمنا في هذا الطرح أن نجاح الثورتين التونسية والمصرية ارتبط بتسارع الأحداث، ففي تونس عجز زين العابدين بن علي عن متابعة تطورات الأحداث على الرغم من الخطابات التي كررها في فترة وجيزة، وبعد أن قال في خطابه الشهير(فهمتكم أنا فهمتكم)أدرك أن فهمه تأخر وأن مستشاريه غدروا به، فقرر بعد الفهم الرحيل، فجنب نفسه وشعبه المزيد من الخسائر.
وفي مصر التي كان رئيسها يقول (مصر مش تونس) نفس الحكاية تعرض الرئيس المصري المخلوع للتضليل من المقربين منه ومنهم إبنه جمال مبارك وعلى الرغم من قولته المشهورة أيضاً (أنا أعي ) فقد تأخر قليلاً في حالة الوعي فتحول من رئيس سابق إلى رئيس مخلوع ، ونحن على يقين أن حسني مبارك هو زعيم الحكام العرب وقائدهم ، ولو تركت له الحرية في اتخاذ القرار المناسب لتنازل عن الحكم مبكراً لكنها البطانة الفاسدة وإن كان فيها الولد ، وفي كل الأحوال حتى وأن تأخر الرئيس حسني مبارك قليلاً ، إلاً إنه جنب نفسه وشعبه الكثير من المآس.
إن قبول كلاً من مبارك وبن علي بالأمر الواقع مثل خروجاً سريعاً من الأزمة السياسة وقلل من الكلفة البشرية والاقتصادية التي تحملها كلا من الشعب التونسي والمصري ، لأن الحقيقة أن عجلة التأريخ دارت ولا يمكن رجوعها إلى الخلف ، والحقيقة التي يجب أن يفهمها ويعيها جميع حكام العرب رؤساء وملوك أن متطلبات العصر تستدعي الشراكة الوطنية في الثروة والسلطة والقوة ، كما أن العولمة السياسية ألهمت الشعوب معنى التداول السلمي للسلطة والقبول بالفترة الرئاسية المحددة.
إن المشكلة التي تعاني منها أمتنا وعلى وجه الخصوص حكام ليبيا وسوريا لم يفهموا ولم يعوا، معتقدين أن القوة العسكرية بإمكانها أن تحسم الأمر، وهم لا يدركون أن كل قطرة دم تراق تزيد من عزيمة الشعوب على إسقاط الأنظمة، ويقف الرئيس اليمني علي عبدالله صالح بين هذا وذاك فكلما فهم ووعى جاءته بطانة الشر بآمال وأوهام وتعيده إلى نقطة الصفر ، ولا يستبعد أن يكون جانباً من ذلك الأمل يشمل تفجير الموقف عسكرياً لحل ما يسمية إعلام الحزب الحاكم الأزمة السياسية مع المشترك، لذلك تراه تارة يلين وتارة يشتد وتارة يراوغ على أمل تجاوز هذه المرحلة وعودة الأمور إلى سابق عهدها، وهو بذلك يعيش حالة من الإرباك النفسي ، وصعوبة إدراك الواقع في مختلف محافظات الجمهورية ، ويشبه في ذلك إلى حد كبير حالة حسني مبارك قبل التنحي ، والفارق الوحيد بين الرجلين رهانات صالح على بعض الفرق العسكرية والأمنية والمليشيات التي بدأ تشكليها تحت مسمى لجان حماية الأحياء والحارات ، وكذا جموع المحتشدين أيام الجمع أو في بعض الساحات مثل ميدان التحرير وسط العاصمة صنعاء ، وهذا الميدان بالذات له قصة مع بعض أفراد المؤتمر الشعبي حيث كانوا يرددون بداية المظاهرات أن مبارك سقوط مع سقوط ميدان تحرير القاهرة بيد المتظاهرين ، لذلك بادروا من وقت مبكر للسيطرة على ميدان التحرير حتى لا يجد المعارضين مكاناً لاعتصامهم ، وطبعاً كانت المفاجأة بساحة التغيير التي أعطت للمعتصمين مساحات واسعة لنصب الخيام ، تفوق كثيراً المساحات المتاحة في ميدان التحرير!!!!!
خلاصة الأمر رسالة نوجهها لحكام العرب رؤساء وملوك افهموا وعوا كما فهم ووعى زين العابدين بن على وحسني مبارك ، ولا تأخذكم العزة بالإثم فتغامروا بشعوبكم وأنفسكم كما يفعل الآن القذافي والذي تقدر خسائر شعبه حتى كتابة هذا الموضوع باكثر من (12000) شهيد على يد ما يسمى (كتائب القذافي) ،وهي نسبة كبيرة جداً لشعب يصل عدد سكانه على حوالي خمسة ملايين نسمة ، كذلك الحال في سوريا ومغامرات حزب البعث ، وفيه نجد مدينة درعا المحاصرة نموذجاً ، والتي دفعت أيضاً مئات الشهداء على يد قوات الجيش والأمن ومن يسموا الشبيحة ، والحقيقة مهما حاول القذافي وحزب البعث كبح الثورة والبقاء في الحكم على جماجم شعبيهما لن يفلحا أبداً ، لأن إرادة الشعوب لا تقهر.
وفي يمن الإيمان والحكمة هناك من يحاول جر الوطن إلى النموذجين الليبي أو السوري ، فما الاعتداءات التي طالت المعتصمين سلمياً في صنعاء وأبين وعدن وتعز والحديدة والبيضاء وحضرموت وإب وحجة وغيرها من المحافظات إلاَّ دليل على محاولة جر البلاد إلى مربع العنف ، مع أن ذلك المربع سيزيد الخسائر لكنه لن يحل المشكلة ، بل أن الشعب تحت أي ظرف سيحسم خياراته الوطنية التي تعزز الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية.