الطغيان: مجاوزة الحد في الظلم والفساد، والطاغية: كل من تجبر وتكبر وبلغ النهاية في العتو والطغيان قال تعالى: (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى) [طه43]
أما الطاغوت فيدخل فيه رؤساء الضلال وشياطينه الكبار، الجبابرة الحكماء المتحكمون في مصائر العالم، والكبراء المضلون المنظورون لكل ما يفتن الناس عن الحق، الذين يكرهون الناس على اعتناق الباطل، ويزينون لهم السواء والفساد والضلال.
الطاغية المستبد مغرورٌ برأيه، لا يقبل نصحاً ويغضبه النقد، مالكٌ لعرشه، وقائدٌ لجيشه، ورئس لمجلس قضائه الأعلى، فهو الراعي السياسي، والسلطة التنفيذية الروحية والسياسية، والمجلس التشريعي، يحكم الناس بإرادته لا بإرادتهم، يتراءى للناس الذين استخف بهم فأطاعوه أنه حاكم مطلق، وما هو في الحقيقية إلا منفذ لا غير، فهو الجزء الظاهر من اللعبة ، واللاعب الأساسي في الميدان.
أما الطاغوت فمنظر مخطط مبرمج ، يلعب من وراء جُدُرْ، ومن خلف الكواليس، يرسم الخطط ويحدد الأهداف، ويتابع التنفيذ من خلال المتابعة و التوجيه والتقويم..
وفي واقعنا المعاصر، ومع زخم ثورة الشباب العربي، وإزالة الطغاة من الحكام المستبدين والظلمة المفسدين في الأرض، نجدنا قد أنجزنا أسقطنا الطاغية، وحققنا تغيير النظام، لكننا في غمرة ذلك نسينا الطاغوت؟!!
كتب ( د. مايكل شو سودو فسكي ) أستاذ الاقتصاد في جامعة أوتاوا بكندا، والذي تابع زخم أحداث ثورة 25 يناير في مصر بعقلٍ حاضر وبصر ثاقب، فاستنتج أن: الطغاة لا يستبدون، ولكنهم يطيعون أوامر الطاغوت، فالطغاة ليسوا أكثر من دُمى سياسية لا يقررون شيئا، وليسوا أكثر من خادمٍ أمين لصالح الطاغوت!؟ وليسوا سوى دُمى تلعب بها أيادي من يحركها؟!! أو أن شئت قلت: هم كرة يتقاذف بها الأسياد كما يتقاذف الأطفال بكرتهم في أحد الملاعب .
هذا كلامٌ مخيف! فإذا كان حكامنا طغاة ومستبدون مصاصي دماء شعوبهم، شافطي نفطه آكلي خيراته وأسماكه، فمن يا ترى هو ذلك الطاغوت الذي يخدمون مصالحه؟ ويلعب بهم تلك اللعبة القذرة؟ ويتقاذف بهم كما يتقاذف الأطفال بالكرة؟!! ويجعل منهم مجرد دُمى بشرية للأسف الشديد!؟ وقد أغفلت ثورات الشباب المعاصرة دورة كصانع للدمية فلم تسقطه بعد الثورة التي أطاحت بالدمية؟ هل فعلاً وحقاً نسيت الثورة صانعي الدُمى وطاغوتها؟
أكد ( د. مايكل شو سودو فسكي ) أن هتافات الثورة طالبت بإسقاط الطاغية كونه المباشر لفعل الشر، والملامس لمعاناة الجماهير، ونسيت في غمرة ذلك الطاغوت، وما ذلك إلا لأنه يعمل من وراء ستار: لأنه يرى شعوبنا هو وقبيله من حيث لا يرونه، لقد كان محجوباً عن الأنظار فلم يطله التغيير ولم تلتفت إليه الجماهير الغاضبة بعد.
إنَّ قراءة في كتاب: (الاغتيال الاقتصادي للأمم) الصادر عن شركة طباعة (بيريت كولر) الذي يُعدُّ اعترافات مفجعة لقاتل اقتصادي شارك في إنشاء إمبراطورية تسيطر عليها كبرى الشركات، تُرِيَكَ الأسلوب القذر للطاغوت في فرض تبعية بلدان العالم الثالث لسياسيته الاقتصادية.
يتكون الكتاب في ترجمته العربية التي صدرت عن دار الطناني في القاهرة سنة 2008م لمترجميه الكاتبين: مصطفى الطناني، وعاطف معتمد، والكتاب شهادة من مؤلفه (جون بركنز) الذي تمَّ تجنيده أواخر الستينات وهو طالب خبيرا اقتصاديا للاستخبارات الأمريكية ، لكن صحا ضميره فترك وظيفته بعد أحداث 11سبتمبر 2001م، ونذر نفسه لفضح هؤلاء القتلة، بعد أن كان أحد أشهر الخبراء الاقتصاديين في هيئة اقتصادية تابعة للمخابرات الأمريكية (سي. آي. إيه) شركة مين للهندسة والكهرباء والإنشاءات المتعاونة مع شركة بكتل، وممن يتقاضون أجورا فلكية من أجل نهب الدول الفقيرة والنامية.
أصدر كتابه وأهداه إلى الرئيس الأسبق للأكوادور خايمي رولد وس، ولرئيس بنما الأسبق عمر تورَّ يخوس، الذين دبر لكل منهما حادث سقوط طائرة مفتعلة بسبب مقاومتهما الشرسة لأطماع الوحوش الاقتصادية!
يحدد الكاتب دوره في إخضاع الدول النامية والفقيرة لهيمنة النخبة السياسية، حتى بلغت ديونها 2.5 تريليون دولار، وبلغت مصروفات خدمة هذه الديون 375 مليار دولار سنويا عام 2004م، وهو ما يفوق ما تنفقه هذه الدول على التعليم والصحة، ويمثل عشرين ضعف ما تقدمه الدول المتقدمة سنويا من مساعدات خارجية.
يعترف المؤلف أنه نجح هو ورفاقه في دفع الإكوادور نحو الإفلاس حين ارتفع حد الفقر فيها من 50% إلى 70% من السكان، وازدادت نسبة البطالة بينهم من 15% إلى 70%، وبلغت الديون من 240 مليون دولار إلى 16 مليار، فالصفقة مخيفة فمن كل مائة دولار تحصل عليها هذه الدولة من بترولها تحصل الشركات الأمريكية على 75 دولار، والباقي 25 دولار تخصص منها 75% لسداد الديون، فأصبحت تخصص أكثر من نصف ميزانيتها لسداد ديونها، مما دفعها إلى بيع غابات الأمازون الغنية بالبترول لشركات أمريكية.
وبيَّن كيف يُركِّع الطواغيت الدول ذات مصادر الطاقة التي لا تحتاج إلى قروض ويبتزونها، مما جعلهم يسرقون منها تريليونات الدولارات.
أكد ذلك ما أصدرته منظمة (جلوبان ويتنس أو ما تسمى الشاهد العالمي أو الشفافية الدولية: وهي منظمة غير حكومية أُسست عام 1993م بهدف القيام بحملات كشف مصادر الفساد الناتج عن نهب واستغلال المصادر الطبيعية من: نفط وغاز وماس وغابات وكاكاو ) أصدرت هذه المنظمة تقريرا خاصا عام 2009م: كشف تواطؤ البنوك الدولية، ومن أشهرها باركليز ومجموعة سيتي بنك..، مع أنظمة الحكم الفاسدة لنهب ثروات شعوب الدول الفقيرة.. يذكر التقرير أنَّ هذه المصارف الدولية تدعم الفساد في معظم البلدان ذات النظم الهشة والفاسدة، فقد مولت حروب أهلية في سيراليون وليبريا، وإودعت عائدات بلدان لصالح حسابات شخصية كما في حال ابن غينيا بالاستوائية تيودور أو بيانج، مما يضع الاقتصاد العالمي في خطر لصالح رؤساء دول وسياسيين حيث يحصل هؤلاء على ما يكفي لرفع شعوب دول عن حد الفقر..
وقدَّم وصفا مخيفا ومذهلا للرشاوي والجنس، والجريمة والتهديدات، والانتخابات المزورة، والتقارير المالية، وكل وسيلة قذرة لتحقيق التركيع، ومنها نصب المستبدين والمجرمين حكَّاماً على الشعوب ما دام في ذلك لتحقيق أهداف الطواغيت، ومن ذلك تدمير مشروع محمد مصدق رئيس وزراء إيران الفائز في الانتخابات بنزاهة عام 1951م بسبب تأميمه نفط إيران ووضع الشاه بدلا عنه.
وذكر في الكتاب مراحل ألاعيب الطواغيت مع البلد المستهدف والمتمثل في:
1) إقناع البلد بإقامة مشاريع تحت الإشراف الأمريكي.
2) الاستدانة من بنوكها، أو البنوك التابعة لها عالميا.
3) تأمين تلك الديون المطلوبة.
4) دمج اقتصاد ذلك البلد بالمصالح الأمريكية عند تفاقم الديون.
5) وضع البلد بين خيارات أحلاها مر: الإخضاع بالقوة عند المقاومة، أو بإثارة المعارضة كما هو الحال مع (بشافيز)، أو الاغتيال كما في حال الإكوادور، أو الإنقلاب كما في جواتيمالا، أو الغزو كما حدث في العراق..
إن ( د. مايكل شو سودو فسكي ) لا يتركك في حيرة طويلا فهو يضع النقاط على الحروف في رسالته إلى الشعب المصري، والتي أعتبرها رسالة لنا جميعا نحن السالكين طريق التغيير، الراغبين في غدً أفضل، ومستقبل زاهر، تلك الرسالة التي بعنوان: ( الطاغية الحقيقي لم يسقط بعد!) والتي نشرتها [مجلة المجتمع الكويتية العدد: 1946/ 28 ربيع الآخر 1432ه الموافق 2 / 4 / 2011م] فلقد حدد ( د. مايكل شو سودو فسكي ) الطاغوت وجعله رموزه المصالح الأمريكية والغربية : السفارة الأمريكية، وبعثات البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، مفوضية الاتحاد الأوربي.. فذكر أنه: لن تكون هناك سياسة طيبة ومستقلة، أو تغيير سياسي وطني ومستقل وحقيقي، ما لم يكن الطاغوت نصب الأعين، وتتم الإطاحة بسياسته الاقتصادية الدولية..
وبعد فهذه الثورات أما أن نعيش عيش السعداء فنكمل الاستعداد بتغيير ما بالأنفس فإن: (اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ ) [الرعد11 ] أو نموت موت الشهداء ونحن أهلا لذلك، ولا طريق ثالث لنا سوى ذلك... وهذا هو الانتصار الحقيقي للثورات ..