قُبيل كل تشكيلةٍ حكومية، كثيراً ما يتردد مصطلح (التكنوقراط) ويلوكه السياسيون والإعلاميون بصورة مستمرة... ولكن الكثير من العامة وربما القليل من الخاصة قد لا يفهم معنى مصطلح التكنوقراطية وحكومة التكنوقراط، لذلك سنحاول في هذه السطور إزالة بعض الغموض الذي يحيط به.
على أية حال تفيد المراجع العلمية أن جذور هذا المصطلح السياسي الإداري تعود إلى الحضارة اليونانية، وهو يشير ببساطة، ودون الدخول في عملية اشتقاق المفردات، إلى الأشخاص المتخصصين أو الخبراء في أي مجال من مجالات الحياة.. أي أن التكنوقراطيين هم الأفراد الذين يمتلكون قدراً عالياً من التأهيل المتخصص في مجال معين ولديهم مستوى معين من الخبرة فيه والإلمام الدقيق بتفاصيل شئونه وشجونه، ومن ثم فهم اقدر من غيرهم على إعطاء استشارة أو رأي سديد في أي مسألة من مسائلة أو اتخاذ قرار رشيد في أي جانب من جوانبه.
وبشأن بداية استخدام هذا المصطلح على مستوى الأعمال والحكومات فتشير المراجع العلمية إلى أن البداية كانت في أوروبا إبان الثورة الصناعية التي بدأت بوادرها منذ القرن السادس عشر وتجلت بشكل واسع خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، منطلقة من انجلترا لتنتشر في بقية دول أوروبا.. غير أن هناك من يرى أن حركة التكنوقراطية بدأت عام 1932م في الولايات المتحدة، وهذه الحركة تتضمن فئة المتخصصين في ميادين الهندسة والعمارة والاقتصاد وغيرها من العلوم والذين يميلون إلى دراسة وقياس الظواهر الاجتماعية، ثم استخلاص قوانين ومباديء محددة للفهم والتنبؤ والسيطرة عليها، وذلك من منطلق أن المشكلات والظواهر الاجتماعية أضحت على درجة كبيرة من التشابك والتعقيد وأصبح من الصعوبة بمكان على السياسيين أن يسبرون أغوارها ويتحكمون بزمامها، ومن ثم كان لا بد أن تترك قضايا الدولة ذات الطابع الاقتصادي والهندسي والقانوني والفني للشخصيات الخبيرة والضليعة فيها.
وإذا كان لا بد من عقد مقارنة سريعة بين الرجل السياسي والرجل التكنوقراطي؛ فيمكن القول أن الأول يهتم بالأيدلوجيات ويتشربها ويستخدم منهج التجربة والخطأ وأحيانا الدهاء والحيلة (الميكافيللية) لتحقيق الأهداف المرغوبة، بينما التكنوقراطي لا يعير الجوانب الأيدلوجية أهمية كبيرة، بقدر اهتمامه بالأساليب العلمية التي تساعد على التعامل مع الواقع بطريقة منظمة بغية الوصول إلى نتائج جيدة .. وهو أيضاً لا يستمد قوته من فئة أو حزب أو قبيلة بذاتها في المنصب مثلما هو الحال لدى السياسي، إنما يستمدها غالباً من سلطة المعرفة ومن الخبرة الفنية التي يمتلكها.. كذلك الرجل السياسي يهمه بدرجة أساسية تحقيق الهدف (الفعالية) بأي وسيلة وبأي قدر من الموارد أو التكاليف، بينما يسعى التكنوقراطي لتحقيق ذلك بأقل قدر ممكن من الموارد والجهود والوقت (الكفاءة) وبجودة عالية ايضاً.. والسياسي يحاول أن يكون مرناً إلى درجة كبيرة مع أصحاب المصالح والقوى المؤثرة في المجتمع، بينما البيروقراطي لا يقدم من المرونة إلا ما يمكنه من تسيير العمل وتحقيق الأهداف العامة.. وإذا كان السياسي يجيد مهارة التلاعب بالألفاظ وتزيين المنجزات وتزييف الحقائق وبيع الأوهام للناس، فان التكنوقراطي يجيد مهارة الحديث بلغة الأرقام والحقائق ويشدد على المعيارية والاعتماد على مؤشرات الأداء، بل ويشعر أن عدم تحقيق مستوى مرضي من النتائج يجعل بقاءه في منصبه غير شرعي من الناحية الأخلاقية والمهنية، بينما يظل السياسي متشبثاً في المنصب ويمارس لعبة خداع النفس وخداع الآخرين حتى آخر لحظة من مشواره، والسياسي يحاول أن يغير جلده عبر كل المراحل مع بقاء نفس الجوهر، في حين أن التكنوقراطي حتى وان قذفت به أمواج السياسة إلى الشاطي يظل سلعة مطلوبة في أي وقت... وأخيراً يبدو أن السياسة والتكنوقراطية تخضع لقانون القيم المتنافسة، فمن الصعب جداً أن يجمع الفرد بين القيمتين (السياسة - التكنوقراطية)، وأي تمدد لواحدة منهما يكون على حساب الأخرى، فالتكنوقراطي قد يبلل قدميه في مستنقع السياسة، وبما يمكنه من التعامل مع من حوله، ولكنه يصعب عليه أن ينغمس فيه كليةً، فهو عندما يرى أن السياسة يمكن أن تبتلعه وتفسد عليه قيمه العلمية والمهنية فانه سرعان ما ينسحب منها ليعود أدراجه. وعلى مستوى اليمن هناك نماذج لشخصيات تكنوقراطية متميزة مارست العمل بطهارة وإخلاص في الجهاز الحكومي، ولكن حالما تكشف لها أن الجانب السياسي الزائف كاد أن يلتهم المساحة المتاحة لعملها سارعت إلى الانسحاب وتقديم الاستقالة أو إعلان مواقف شجاعة على الملأ ومنهم على سبيل المثال: د. فرج بن غانم، المهندس فيصل بن شملان، د. سيف العسلي أ. نبيل الفقيه، المحامي عبد السلام كرمان، أ. عبد الجبار سعد وغيرهم.
وفي هذا السياق أرى وربما يتفق الكثيرون معي على أن هذا العصر هو عصر الكفاءات المتخصصة وأصحاب المهارات الفنية والتقنية العالية ولا بد من تمكينهم لعدة أسباب منها
:
1. ارتفاع مستويات النمو السكاني على مستوى كل بلد وعلى مستوى العالم بشكل عام، مما ولد عددا من المشكلات بل والمعضلات المعقدة التي لا يستطيع توليد الحلول والمعالجات الناجعة لها إلا الأفراد المتخصصون (التكنوقراط) في شتى مناحي الحياة.
2. أن مستوى وعي المواطنين وطموحاتهم ومطالبهم من الحكومات قد ارتفع بشكل ملحوظ، وما كان يحقق رضاهم ويشبع رغباتهم من السلع والخدمات بالأمس لم يعد مجديا اليوم، لذلك لا بد من حكومات تكنوقراطية فعالة، أي على حد قول احد علماء الادارة حكومات كفؤة ومستجيبة وصديقة للمواطن.
3. أن تمكين المتخصصين (التكنوقراط) من ممارسة الحكم وإدارة أمور المجتمع يساعد على اتخاذ قرارات رشيدة تحد من هدر وتبديد الموارد المتاحة وتقلل الجهد والوقت المطلوب لانجاز أي عمل.
4. أن الحكومات كمنظمات كبرى تعمل أساسا في عالم دائم التغير، وبالتالي لن يستطيع إدارة عملية التغيير والتكيف مع تلك المتغيرات سوى القيادات المتخصصة ذات الرؤية الشمولية والنظرة الاستشرافية والحس المهني والمالكة لناصية العلوم الحديثة والقادرة على الإلمام العميق بما يدور في العالم من تحولات وتأثير ذلك على الأوضاع الداخلية للبلد، أي بعبارة أخرى هي القيادات القادرة على التفكير عالمياً والتنفيذ محلياً.
وقد يقول قائل أن الحقائب الوزارية في بعض الدول الغربية تسند أحياناً إلى شخصيات ليست متخصصة في نفس نشاط الوزارة.. وهنا يمكن الرد .. إن مثل تلك الدول توافر لها مع مرور الزمن أنظمة إدارية تقف على قاعدة صلبة من البناء المؤسسي، ويصبح الرجل الأول في الوزارة مجرد رمز أو حلقة وصل وتنسيق بين الوزارة ورئاسة الوزراء، أي أن وظيفته الأساسية إدارة العلاقة مع البيئة الخارجية وبالتالي رسم السياسات والتوجهات والاستراتيجيات العامة في ضوء ما يعتمل في البيئة المحيطة، بينما يترك العمل التنفيذي ليؤدى في المستويات الوسطى والدنيا من خلال أفراد متخصصين ولجان فنية وفرق عمل ذات تأهيل عالي وعلى قدر كبير من التمكين والثقة وحرية التصرف.
أما الوضع في المنظمات العامة في الوطن العربي عموماً واليمن على وجه التحديد فهو جدُّ مختلف؛ لأن منظماتنا تفتقر لتقاليد وقواعد وضوابط العمل المؤسسي الراسخ ويُختزل عمل المؤسسة أو الوزارة في شخص الرجل الأول، ويصبح هو مصدر المنح والمنع ولا يتوانى عن التدخل في كل صغيرة وكبيرة تتعلق بالعمل، بل وينتقل جزء من العمل ليؤدى في منزله وهناك يتزاحم المراجعون عند بابه، وفي (مقيله) تصنع وتصدر القرارات الخطيرة.. لذلك أرى ضرورة أن يوضع الشخص المتخصص في الوزارة التي تتناسب ومؤهلاته العلمية والعملية حتى يتمكن من وضع الوزارة على الطريق السليم وضبط إيقاع نشاطاتها وفق معايير ومحددات واضحة والحفاظ على قيم وأخلاقيات المهنة وتحصين الوزارة من تدخلات أصحاب المصالح ومن المؤثرات والاختراقات الاجتماعية السلبية.
ولأننا نحن العرب امة شاعرة تعشق المفردات الرنانة، فنجد أن مصطلح كهذا (حكومة التكنوقراط) مثير للخيال بطبيعته، ويبدو أن السياسيين والحزبيين قد فطنوا لذلك ويحاولون توظيفه بدهاء لمداعبة مخيلة البسطاء بإيهامهم أن حكومة التكنوقراط القادمة ستكون حكومة غير عادية وذات قدرة فائقة أو عصا سحرية لحل أي مشكلة أو معضلة مهما كانت مستعصية. ولكن واقع الحال يشير إلى أن هذا المبدأ التنظيمي الجميل يتم التحايل عليه، فقد يُجند السياسيون فعلاً نخبة جيدة من المتخصصين (التكنوقراطيين) قبيل تشكيل أي حكومة ولكن للأسف يوضع كل واحد منهم في الخانة التي لا تتواءم مع إمكانياته وميوله العملية، بينما يفترض أن يعين الشخص المتخصص في المضمار المناسب حتى يستطيع أن يجول ويصول فيه بمهاراته ومعارفه وإبداعاته، وهذا ربما ما لاحظناه في الحكومة الجديدة برئاسة محمد باسندوه الذي هو نفسه لم أجد له أي مؤهل علمي في سيرته الشخصية المنشورة، مما يضطرني للقول بعدم صلة الرجل بمجتمع التكنوقراط، مع احترامنا له كشخصية نظيفة نسبياً وذات تاريخ سياسي عريق، وكذلك مع تقديرنا للظرف الوطني الذي جعله الخيار الأفضل لقيادة الحكومة الجديدة، هذا وسوف نتناول الطابع التكنوقراطي للحكومة الجديدة تفصيلا في السطور التالية.
إن الإتيان بالشخصية الخبيرة والجدير والمتمرسة ووضعها في المكان غير المناسب لقدراتها ومواصفاتها العلمية والمهنية يعد بلا شك محاولة واضحة لإحباطها وتدمير كل قدراتها ثم الحكم على أدائها بالفشل الذريع. وهذا ما نبه إليه (بيرك) Kenneth Burke أحد علماء الادارة البارزين في قاعدته الشهيرة: (يصبح الأفراد غير مناسبين لكونهم مناسبين في أماكن غير مناسبة). وتبسيطاً لهذه المقولة.. أي قد نحكم على الناس بأنهم فاشلين لأنهم مؤهلين ولكن تم وضعهم خطأ في مناصب غير مناسبة لمؤهلاتهم وقدراتهم.
أن منطق التكنوقراطية على مستوى الحكومات والمنظمات يقتضي أن تسند وزارة الصحة لطبيب أو متخصص في الادارة الصحية ووزارة التربية والتعليم لرجل تربوي ووزارة الخدمة المدنية لخبير في إدارة الموارد البشرية ووزارة الزراعة لمهندس زراعي أو خبير في الاقتصاد الزراعي ووزارة المالية لمتخصص في المحاسبة أو الادارة المالية وهكذا ينسحب الأمر على بقية الوزارات.
أعتقد أن زمن حكومات العسكر قد ولى، وعما قريب ستزول فكرة توزير المتحزبين والسياسيين سيما الذين لا يمتلكون أي مهارات فنية وتقنية حديثة.. فلكل زمان فلسفته واشتراطاته ومتطلباته وبالتالي قياداته ورجالاته. ويبدو لي أننا في اليمن قد تأخرنا كثيراً عن تمكين أهل الاختصاص والخبرة، واستفرد بالأمر غير أهله، وظل الوزراء العسكر والمتحزبين يديرون قضايا ومشكلات المجتمع بالاجتهاد ومنهج المحاولة والخطأ بعيداً عن العلم والمنطق وأساليب الادارة الحديثة والتخطيط الاستراتيجي، لذلك ليس من المستغرب أن ندفع اليوم ثمن تلك السياسات والقرارات والممارسات الخاطئة.
وهاهو الخطأ يتكرر اليوم بصورة اخرى مع الحكومة الجديدة في اليمن ؛ فبرغم اختيار مجموعة من الوزراء الذين ربما يكون اغلبهم أكفاء وذوي أيادٍ نظيفة غير أن تعيينهم في تلك الحقائب الوزارية قد لا يتوافق مع إمكانياتهم العلمية والعملية ومن ثم تنطبق عليهم تماما قاعدة (بيرك). فمثلا صخر الوجيه كمهندس حربي (وزارة المالية) والذي اتفق مع الأخ نبيل الصوفي فيما ذهب إليه من أن الرجل قد ظلم بوضعه في هذه الوزارة؛ بل وأرى أن الوزارة قد ظلمت بوضعه على قمة الهرم فيها، كذلك د. احمد بن دغر الذي يحمل دكتوراه في التاريخ (وزارة الاتصالات) لا ادري كيف سيتعامل مع منظمة ذات طبيعة تكنولوجية بالغة التعقيد، كذلك د. محمد السعدي دكتوراه في التربية (وزارة التخطيط والتعاون الدولي) الذي كنت أتمنى أن يحل في وزارة التربية والتعليم لكونه متخصص في مجال التربية ولديه خبرة كافية عنها نتيجة العمل لعدة سنوات كنائب للوزير بدلاً عن د. الأشول الذي توحي سيرته الذاتية بضحالة خبرته العملية، ما قد يؤدي إلى إغراقه وفشله في وزارة متضخمة تنظيمياً ووظيفياً كوزارة التربية والتعليم، وأيضا الكاتب الرائع والحصيف أ. احمد العمراني حامل مؤهل الإدارة الصناعية (وزارة الإعلام) كم كنت أتمنى أن يكون في وزارة الصناعة بحكم تخصصه بدلاً من السيد سعد الدين بن طالب حامل الدبلوم الصحي، وهكذا بقية الوزارات حيث تم وضع التكنوقراط في غير أماكنهم (وزارة الخارجية - طبيب) و(وزارة المياه- علم النفس) و(وزارة الكهرباء – قانون) و(وزارة الثروة السمكية- هندسة كهربائية). ولكن مع كل ذلك الشذوذ التنظيمي الصارخ فان مما يشرح الصدر أن مبدأ الكفاءة التكنوقراطية قد وجد طريقه نوعا ما إلى بعض الوزارات وهي وزارات (الداخلية- الشئون القانونية– التعليم العالي- العدل- الأشغال العامة- الدفاع).
إن مشكلة الادارة في اليمن أن الكثير بما في ذلك جزء كبير من النخبة مازالوا يعدون الادارة فن ولكنه فن يقوم على (الفهلوة) و(الدحبشة) و(الهنجمة) أو إبراز (العين الحمراء) أحيانا، والاستقواء ب(شلة) متعجرفة على أساس حزبي أو مناطقي أو نحو ذلك.. تنتشر في كل أرجاء المؤسسة لتسقط الأخبار ونشر الشائعات وتمرير القرارات النفعية.
السادة الوزراء .. إن الادارة كما يصفها احد ابرز علماء الادارة تتمثل في (عملية اتخاذ قرارات)، وعملية صنع القرارات والسياسات العامة هي أخطر وظيفة، ولا بد أن تمر بعدة مراحل من التحليل والتمحيص والمفاضلة والحسابات الدقيقة، التي تمارس فيها عدة أساليب وتكنيكات علمية سواء في وضع البدائل أو في جمع البيانات والمعلومات عن كل بديل والمفاضلة الدقيقة فيما بين البدائل من ناحية تكلفة كل بديل والعوائد المتوقعة منه، والاهم من كل ذلك الرجوع إلى الفئة المستهدفة بالقرار لمعرفة رؤيتها للمشكلة ورأيها في الحلول المطروحة والتنبؤ بالآثار المحتملة المباشرة وغير المباشرة للقرار أو السياسة المراد إصدارها.
• جامعة الملك سعود- الرياض