أرشيف الرأي

اسكتي يا جراح.. قصيدة الشابي التي بشرت بالربيع العربي

سؤال لا يحتاج إلى اجابة ما الذي يجمع بين المشرق والمغرب العربي سوى سورة العصر وابي القاسم الشابي؟
في رائعته الخالدة " اسكتي يا جراح" يطل علينا -او نطل عليه لا ادري ايهما ابلغ- ابا القاسم الشابي (1909-1934)في حلة جديدة ويكاد يقتلع الماضي بكل تفاصيله واحزانه منهيا فصلا..

قديما في المأساة التي تنبأ بها والتي سادت في ربوع وطننا العربي الكبير من الخمسينات إلى ثورة الربيع العربي .. لقد انهت هذه القصيدة زمان الجنون والمجانيين من الزعماء والطغاة الذين لم يجدوا سوى الشعوب ليجالدوها ويمرروا حياتها، في هذه القصيدة تخيل الشابي وكانه يرى رأي العين انتهاء فصولا من المآسي والخنوع ليطل الصباح الذي حلم به واشرق على روحه اليوم بعد ان خرج حفيده البو عزيزي التونسي وصنع للعرب مستقبلا اخرا بحرقه للطغاة أحياءهم وامواتهم .. فمن تونس اطل الصباح من وراء القرون المظلمة في فجاج الردى والاستبداد والموت الذي حاصر عالمنا العربي في العقود السود ،وفي نفس تلك الفجاج دفن الشابي الالم ودفنا معه الاستبداد والحزن . فمن يسهم اليوم باتخاذ الحياة معزفا للنغم لطمس التاريخ الاسود الذي عشناه والبدء ببناء حياة جديدة .

تعالوا لنتغنى كما يريد الشابي ونحن نعيد بناء وطننا في رحاب هذا العصر الذي نعيشه ونذيب الاسى في جمال الوجود الذي اشرقت شمسه علينا فلتذب قلوبنا ونحن نغني اغنية البناء الجديد ونحن نلحن نشيدنا للزمن الذي اطل علينا مستفيدين فيه من كل مكونات الطبيعة الغناءة من حولنا من ضياء وظلال وشذى وورود وهوى وشباب ومنىمن وحنان .

تعالوا لنشيد مع الشابي معبد الجمال الكبير وهو وطننا بكل تاكيد بكل قوتنا ومكتسبات هذا العصر مستخدمين رؤانا وخيلاتنا الخصبة في البناء ،ولنصل معه في خشوع ونحن نبني فالبناء عبادة وصلاة ،ولنحرق البخور لنطرد الارواح الشريرة التي مازلت تحوم حولنا ولتضأ شموع الفرح .. ومع كل المعاناة في اخماد الظلم والطغيان الا ان سحر الحياة الذي نعيشه ونحن نبني اوطاننا خالدا لا يزول ، فعلام يكثر البعض اللوم والانين والشكوى والبكاء والعويل والصياح والنياح من ظلام يزول وقد زال بالفعل فلا تكثروا البكاء لتأخر البناء فانه يستغرق وقتا اطول .

ثم ياتي الصباح وقد اتى بالفعل وتمر فصول المعاناة كما تمر فصول السنة وياتي الربيع العربي ليجدد لهذه الامة شبابها وعنفوانها وهنأ تتحقق نبوءة الشعر والشاعر وهنا تخلد هذه البيت من القصيدة ولنكتبها بكل ما لدينا من ماء الذهب ولنطرزها على كل قلب عربي "وسوف يأتي رَبِيعْ إن تقضَّى رَبِيعْ "كل ربيع ذهب ولم نستفد منه الا ربيعنا العربي الذي اتى وها نحن نعيشه وقد طوينا اليه السنون والفصول كلها ليعلن هذا الربيع علينا من تونس الخير إلى كل قطر عربي فمن لم يكن فيه ثورة سيكون فيه تاثيرا للربيع برضا أو غصبا عمن يحكمونه .

واطل الربيع العربي من وراء القرون البعيدة فامتنا تنتظره وكل جيل يبشر به.. انه قادم سياتي من وراء الظلام وهدير المياه وسيدعو الجميع لحضوره وياله من دعاء وياله من حضور شارك فيه الكبير والصغير وهز العروش وهز القلوب وهز العالم من حولنا . فالوداع يا هموم ويا احزان ويباكاء ويا سنوات الالم فقد اطل الربيع العربي.. هذه كانت نبوءة الشابي ولم تتحقق في زمانه لكنها تحققت في زماننا.. وكلنا من تونس إلى صنعاء غنينا نشيد الحياة الذي سطره الشابي ايضا بما تبقى من نبض قلبه المتعب والذي مات بسبب اعتلاله فقال :"اذا الشعب يوما اراد الحياة فلابد ان يستجيب القدر" فاستجاب القدر وفي تقديري فان الشابي هو شاعر الربيع العربي دون منازع ومع غيابه الحسي الا انه عاش معنا من لحظة هدم الطغيان إلى ما بعد الهدم من بناء ومازال يردد معنا اسكتي يا جراح..

ومع ابيات القصيدة اترككم لتعيشوا اعذب كلمات واسهل معان الحياة :

أُسْكُتي يا جرَاحْ
أُسْكُتي يا جرَاحْ وأسكني يا شجونْ
ماتَ عهد النُّواحْ وَزَمانُ الجُنُونْ
وَأَطَلَّ الصَّبَاحْ مِنْ وراءِ القُرُونْ
في فِجاجِ الرّدى قد دفنتُ الألَمْ
ونثرتُ الدُّموعْ لرياحِ العَدَمْ
واتّخذتُ الحياة مِعزفاً للنّغمْ
أتغنَّى عليه في رحابِ الزّمانْ
وأذبتُ الأسَى في جمال الوجودْ
ودحوتُ الفؤادْ واحة ً للنّشيدْ
والضِّيا والظِّلالْ والشَّذَى والورودْ
والهوى والشَّبابَّ والمنى والحَنانْ
اسكُني يا جراحْ وأسكُتي يا شجونْ
ماتَ عهدُ النّواحْ وزَمانُ الجنونْ
وَأَطَلَ الصَّباحْ مِنْ وراءِ القُرونْ
في فؤادي الرحيبْ مَعْبِدٌ للجَمَالْ
شيَّدتْه الحياة ْ بالرّؤى ، والخيال
فَتَلَوتُ الصَّلاة في خشوع الظّلالْ...
وَحَرقْتُ البخور... وأضأتُ الشُّموع
إن سِحْرَ الحياة ْ خالدٌ لا يزولْ
فَعَلامَ الشَّكَاة ْ مِنْ ظَلامٍ يَحُولْ
ثمَ يأتي الصبَّاح وتمُرُّ الفصولْ..؟
سوف يأتي رَبِيعْ إن تقضَّى رَبِيعْ
اسكُنِي يا جراحْ وأسكتي يا شجونْ
ماتَ عهدُ النّواح وَزَمانُ الجنونْ
وأطلَّ الصَّباحْ مِن وراءِ القُروُنْ
من وراءِ الظَّلامْ وهديرِ المياهْ
قد دعاني الصَّباحْ وَرَبيعُ الحَيَاهْ
يا لهُ مِنْ دُعاءُ هزّ قلبي صَداهْ
لَمْ يَعُد لي بَقاء فوق هذي البقاعْ
الودَاعَ! الودَاعَ! يا جبالَ الهمومْ
يا هضَبابَ الأسى ! يا فِجَاجَ الجحيمْ
قد جرى زوْرَقِي في الخضمِّ العظيمْ...
ونشرتُ الشراعْ... فالوَداعَ! الوَداعْ

زر الذهاب إلى الأعلى