من يعرف النظام السوري وظروف ولادته واستمراره ومرتكزات قوته ونقاط ضعفه لا تفاجئه المأساة المفتوحة هناك. لا يشبه هذا النظام أنظمة البلدان التي عصف بها «الربيع العربي». ومن يعرف الرئيس بشار الأسد يعرف انه من غير الوارد أن يقتدي بزين العابدين بن علي أو يسلم بما سلم به حسني مبارك أو أن يسلك الطريق الذي سلكه الرئيس علي عبد الله صالح.
اعتقد حزب البعث على غرار أحزاب كثيرة في تلك المرحلة أن من يأخذ السلطة يأخذها مرة واحدة وإلى الأبد. وليس من ثقافة الحزب خوض منافسات متكافئة مع أحزاب أخرى على ملعب الانتخابات. وفكرة الشراكة صعبة بالنسبة له إلا إذا امسك بكل خيوطها وهي تخسر صفتها في مثل هذه الحال. لا يتعلق الأمر بفكر الحزب وحده. يتعلق أيضاً باستيلاء جنرالات الأمن على مفاصل الحزب، وبشبكة المصالح الحزبية - الأمنية وبالنواة الصلبة الحقيقية للنظام والتي كان محظوراً الكلام فيها أو الإشارة إليها.
على رغم قوافل المنضوين في الحزب ومن مختلف الطوائف لازم النظام خوف غير معلن من أن فئات تنتمي إلى الأكثرية طائفياً تبطن حلم الثأر وتنتظر الفرصة. دفع هذا الشعور النظام إلى مزيد من الاتكاء على القبضة الأمنية كما دفعه إلى اعتبار مواقفه القومية المصدر الأساسي لشرعيته واستمراره وحقه في سحق أي تهديد لهذه الشرعية. ولم تتوافر للنظام فرصة جدية لتطوير نفسه وتوسيع قاعدته إلا في بداية عهد بشار الأسد يوم كان الرئيس قادراً على خوض انتخابات حرة والفوز فيها، لكن بارونات الأمن والحزب سارعوا إلى اغلاق النافذة. منذ تلك الأيام اختار النظام الاتكاء على خيار الممانعة لكن انسحاب قواته من لبنان حرمه من حق القيادة، فانضوى في برنامج إيراني صريح لم تحتمله المعادلة الداخلية. لا بد هنا من الالتفات إلى تاريخين الأول غزو العراق والثاني اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري.
مع هبوب «الربيع العربي» بالتوازي مع تردي العلاقات السنية - الشيعية في الإقليم كان الوقت قد تأخر فعلاً. ثمة من يعتقد انه لم يكن أمام النظام بحكم طبيعته وتحالفاته غير ما فعل. أي اعتبار الاحتجاجات مؤامرة على وجوده وخياره الممانع وأن القصة قصة حياة أو موت. وأن رده الأول يجب أن يكون منع قيام بنغازي سورية أو ميادين تحرير تستضيف المليونيات المعارضة. لهذا سارع إلى استخدام القوة المفرطة لإسقاط الطابع السلمي للاحتجاجات ولاعتقاده أن مواجهة «المجموعات المسلحة» مهما بلغت قوتها تبقى افضل من رؤية ساحات حلب ودمشق تغص بمتظاهرين يهتفون «الشعب يريد إسقاط النظام».
نجح النظام في استدراج المعارضة إلى مواجهة مسلحة تدور على شفير حرب أهلية. عززت هذه المواجهة تماسك النواة الصلبة التي يستند إليها وقطعت الطريق باكراً على خيارات نقل السلطة أو البحث في صيغ لا تترك مكاناً للرئيس في الحل. نجح النظام أيضاً في إظهار أن المواجهة هي قصة حياة أو موت لمحور بمجمله. في هذا السياق يمكن فهم سخاء إيران في دعم النظام وانتقالها خصوصاً بعد اغتيال خلية الأزمة في 18 تموز(يوليو) الماضي إلى موقع الشريك في يوميات المواجهة السورية وكأنها تعتبر بقاء النظام السوري قصة حياة أو موت. وهكذا أيضاً يمكن فهم رحلة الطائرة الإيرانية من دون طيار التي أرسلها «حزب الله» إلى الأجواء الإسرائيلية والتي أرفق السيد حسن نصرالله تبني رحلتها بكلام يعمق انخراط الحزب في النزاع السوري وكأنه يعلن أن ما يجري في سورية هو قصة حياة أو موت.
إنها قصة حياة أو موت للنظام وحلفائه وللمعارضة من دون أن تكون المعركة بمثل هذه الحدة لحلفائها. وفي غياب تفاهم أميركي - روسي لا يبدو قريباً أو تفاهم أميركي - إيراني لا يبدو محتملاً أو تدخل اطلسي ساحق لا يبدو وارداً حالياً سيموت كثيرون وستختفي بلدات وربما مدن وستسقط «براميل» كثيرة.