في ظل الفشل الذريع الذي تبديه الأجهزة الأمنية المختلفة في اليمن وعجزها الواضح عن منع أي جريمة قبل وقوعها، كوظيفة أولية من وظائفها، ومع تصاعد عمليات الاغتيالات السياسية داخل المدن الكبرى للبلاد، ووصول التحقيقات بشأنها إلى طرق مسدودة؛ يحبس المواطن البسيط أنفاسه خوفا من أن يكون ضحية عيار ناري شارد، وتراخٍ أمني ملموس!!
إلى أيام قليلة مضت، غيّبت هذه الاغتيالات عددا كبيرا من رجال القوات المسلحة والأمن، وبرزت ملامحها على بعد مناطقي معلوم، وانتماء سياسي متعمد، وفي انتقاء دقيق لكوادر هامة كانت تُهيأ لأن تكون حاضرة في مشاهد المرحلة القادمة، بما تملكه من أفكار ورؤى خلاقة، في حين كان البعض منها على اطلاع كبير بقضايا أمنية وسياسية خطيرة، يترتب عليها افتضاح جماعة ما؛ فكان قرار القتل هو الاختيار الأخير.
إن المتابع الدقيق لتلك العمليات سيكتشف أن وراءها تنظيم سري على أعلى درجة من الحرفية في التخطيط، والتنظيم، والتدريب، والخبرة، والتسليح، سواء أكان ذلك التنظيم له ارتباطات داخلية أو خارجية، الأمر الذي يذكرنا بالأسلوب الذي ينتهجه جهاز الموساد الإسرائيلي في تعقب وتصفية خصوم إسرائيل، من أي جنسية كانوا، وتحت أي سماء؛ أو على نحو ما يقوم به جهاز المخابرات الإيراني، المعروف ب"السافاك" في عراق ما بعد عام 2003م، وهو تذكير يلقي بنا خارج مسارات التحليلات التي تكبلنا دون الخروج بنتيجة مقنعة تفسر ما يحدث، ومن وراءه؟ وكيف؟
مع حدوث أي واقعة اغتيال جديدة؛ يستحضر المرء الوضع الذي ساد عامي: 1992-1993م، ذلك أن الحالة السياسية والأمنية التي نعيشها اليوم، تبدو كما لو أنها هي تلك الحالة، أو أنها أقرب إلى ذلك، فالأحزاب السياسية، ورجال السلطة، ومعارضوها، هم ذاتهم في كلا الحالتين، مع تفاوت نسبي بسيط، في الترتيب والموضع، وهو- دون شك- استحضار قاصر؛ لأنه توقفَ عند ذلك التاريخ، مثلما توقف عند حواف الظاهرة؛ كظاهرة، كما أنه لم يستحضر حالات أخرى سابقة مشابهة، ابتداء من حركة الخامس من نوفمبر عام 1967م، إلى أوائل الثمانينات، مع تخلي الجبهة الوطنية الديمقراطية عن موقعها كخصم مزعج للنظام القائم في صنعاء.
في وقائع الاغتيالات السياسية التي سادت السنوات الأربعة عشر السابقة لعام 1982م؛ كانت أصابع الاتهام تنصرف بقوة باتجاه عناصر معلومة في الأنظمة التي حكمتها، وباتجاه القوى التقليدية التي سيطرت على جزء كبير من أبعاد المشهد السياسي، وكانت أدوات القسر السلطوي تتنوع بين الاغتيال، والتغييب، أو التغييب مع التصفية الجسدية، ولم يقف الانتقاء على بعد مناطقي بحسب ما كان يشاع، بل تعداه إلى البعد الحزبي والفكري، فكان بكاء الثك إلى يدوي في كل بيت؛ في تعز، وصنعاء، وذمار، وإب، وحجة، وغيرها، وكانت الحالة ذاتها قريبة من هذا التوصيف في محافظات الشرق والجنوب بفاعل واحد معلوم؛ هو النظام القائم، فضلا عن تبادل التصفية الجسدية لرجال النظامين الحاكمين، هنا وهناك.
أما الصراع البارد الذي انطلق بعد عام واحد من تحقيق الوحدة عام 1990م إلى عام 1994م؛ فقد كانت الاتهامات تجري على نحو متبادل بين الطرفين الشريكين في السلطة، ومع بلوغ الأزمة السياسية ذروتها أضاف الطرف القادم من عدن، إلى قائمة الاتهام، القوى التقليدية والدينية التي كانت تمثل بالنسبة له خصما تقليديا خاض معه مواجهات كثيرة داخل مناطق حكمه أو في مناطق الشمال، ومع أن أحداث تلك الفترة كانت محل اتهام متبادل، إلا أن الإعلام السلطوي لم يستطع إقناع الجماهير ببراءة من يدافع عنه؛ إذ كان من الطبيعي أن يسأل المواطن باستنكار: كيف يمكن لجماعة ما، أن تقتل أبنائها، في سبيل الحصول على ورقة ضغط، تجاه خصوم لا يجدي معهم أي شيء؟!
واليوم؛ ومع بلوغ حصيلة تلك الاغتيالات أربعة وسبعين ضابطا وفردا، لا يزال الجدل يمضي على ذلك النحو؛ كل يلقي بالتهمة تجاه خصمه السياسي، ثم يبرئ ساحته من أي اتهام يوجه له، على أن كثرة الأطراف المصطرعة؛ تجعل من مسألة التصديق اليقيني ببراءة أي منها منعدمة، في ظل شيوع أخبار تقحم أطرافا دولية وإقليمية في مضمار ما يجري، وهو ما يجعل من هذا الأمر أكثر تعقيدا، وتحيط به الكثير من علامات الاستفهام!!
وعليه؛ فإنه يستلزم لكل باحث عن الحقيقة أن يسأل السؤال التالي: من هو-يا ترى- المستفيد من ذلك؟ وعلى ضوء هذا السؤال، تنتصب الأطراف التالية، شكّا وظنّا، لا علما وتيقنا، وأولها: عملاء المخابرات الأمريكية، والإسرائيلية، والإيرانية، الذين يجري تجنيدهم في مثل هذه الظروف الصعبة، اقتصاديا وسياسيا، وكما هو الحال في الكثير من الدول التي تعيش ظروف صراعات سياسية ومسلحة، حيث يجري تجنيد أولئك العملاء من أبناء الدولة ذاتها أو من مختلف الجنسيات، في مسعى يرمي إلى تشتيت الجهد الرسمي للحكومات الناشئة، بما يحقق الارتهان لهذه الدول أو حلفائها الإقليميين، دون اعتبار لأي نواحٍ إنسانية تستدعي المثالية والشفقة في التعامل، وهذا من صميم الحقائق السياسية المتعارف عليها، بصرف النظر عن أوجه المساعدات المختلفة التي تقدمها أي من تلك الدول.
إن هذه الاغتيالات، هي من الحساسية بحيث وظفت التوظيف السياسي الفعال، على مدى الخمسة العقود الماضية، لأنها تؤجج مشاعر البغض والتنافر بين فئات المجتمع اليمني، الذي يتكئ على عبء تاريخي متشح بالدماء، يجتره مع كل لحظة فوضى وانكسار، بما يجعل كل فئة فيه، تفسر ما ينالها من غبن أو تهميش أو إقصاء، بمنزع ذلك العبء والإرث الأسود، وهو- دون شك- عبء صنعته القوى السياسية التي اصطرعت على ترابه بالأمس، وتتفانى لذات الغرض اليوم!!
وليس بخافٍ ما تقوم به الولايات المتحدة الأمريكية من أعمال مزدوجة في اليمن، حيث تمد يديها -بصورة علنية أو سرية- لكل الأطراف السياسية المتنازعة؛ لأنها تقرأ النهايات المتوقعة للمشهد اليمني القائم، من حيث تبدأ مصلحة المواطن الأمريكي لا اليمني، وهو ذاته ما تقوم به إيران، فضلا عن أن إيران تتفرد بوصفها أمّاً حنونا لفئة من اليمنيين يقاسمونها المذهب، ويشاركونها لهجة العداء غير الواضح وغير القابل للفهم، تجاه الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل.
ولا غرابة أن نسمع رئيس الجمهورية، عبدربه منصور هادي، وهو يكشف للعالم من أعلى منبر فيه، حجم التدخل الإيراني وأبعاده، والأمر ذاته، ما صرح به -مؤخرا- رئيس أعلى جهاز استخباري يمني، حيث تبين للجميع أن إيران تعمل على إغراق الساحة اليمنية بكل أنواع الأسلحة، وتمد عملاءها بالأموال الكثيرة، وتتبنى إعداد وتدريب حلفائها، بل وتحاول بكل ما أوتيت من قوة الدفع بتحقق انفصال مناطق الجنوب والشرق، تمهيدا لوقوع انفصال لشمال الشمال، سواء تحقق ذلك في الوقت الراهن أو مستقبلا، فمتى تحقق للجنوب انفصاله؛ سيكون ذلك عونا لشمال الشمال لتحقيق الهدف ذاته، وبما يحقق لها -كذلك- موقع نفوذ أخطر، تستطيع من خلاله الاقتراب من خصمها السعودي الذي يحاول كسر شوكتها في البحرين وسوريا ولبنان.
وبالعودة إلى الأطراف المستفيدة من إحداث الفوضى، والتي يجري توجيه أصابع الاتهام إليها؛ فإن ما بقي من فلول النظام السابق ممن لم يلحقوا بقافلة الثورة، هم واحد من أولئك، بل إن البعض ليقول صراحة بتواطئهم مع فصائل من الجماعات الحراكية وجماعات الحوثيين، وإن ذلك يأتي بعد أن خسرت الكثير من مواقعها ومراكز نفوذها السياسي والعسكري، التي كانت تراهن عليها في مواجهة خصومها السياسيين مستقبلا.
فحين كانت حصة المؤتمر الشعبي العام وحلفائه في التشكيل الحكومي الذي جاءت به المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية، حقيبة الدفاع، اعتقد الرئيس السابق أن المؤتمر الشعبي العام هو علي عبدالله صالح، ونسي أن الرئيس الخلف لن يكون راضيا عن هذا الوضع؛ ولذلك وجد صالح نفسه خاسرا، عسكريا وسياسيا، مع فقدانه لهذه الوزارة، وتزعزع هيمنته على حزبه الذي ولد وترعرع على يديه، منذ ما يزيد عن ثلاثة عقود؛ وهو ما قد يكون مبررا لدى من يلقي بالتهمة تجاهه وتجاه من يلتفون حوله، في شأن الاغتيالات التي طالت رجالا كثيرين من منتسبي الجيش، على اعتقاد أنه يمارس الانتقام من بعض رجالها الذين تخلوا عنه.
تشير الدقة المتناهية لتلك العمليات، والأساليب والوسائل التي نفذت بواسطتها، إلى أنها لا تصدر إلا عن جماعات تتبع منهج المنظمات السرية، التي لها من يديرها بمهارة، تمويلا، وتخطيطا، وتدريبا، وتسليحا، وقد عزز من تلك القناعة، أن أغلبها لم يعثر فيها على أي أثر للوصول إلى الجناة، كما أن أغلب من سقطوا جراء تلك العمليات، هم من الأهداف العسكرية المنتقاة، لا العارضة، والتي يقصد باستهدافها مقاصد تفوق الجرائم العادية.
غير أنه يبقى السؤال: هل يمكن أن يكون تنظيم القاعدة بمنأى عند تلك الأحداث؟! والحقيقة أن الناس قد سئموا كيل مثل تلك التهم لهذه الجهة، التي يجري التذرع بها دائما، وإن كان الأمر لا يخلو من واقع، خاصة في بعض تلك الأعمال، التي يكون للضحية دور بارز في تعقب أفراد هذا التنظيم أو سجنهم أو قتالهم، في مختلف المواجهات التي جمعت بين أولئك العسكريين وبين أفراد تنظيم القاعدة، وفي ظل تزايد الضربات الماحقة التي يتلقاها هذا التنظيم، من قبل قوات الجيش الذي لا يخفي تحالفه مع القوات الأمريكية وطائراتها التي تتعقبهم دون طيار، بل إن ما يؤكد هذا التصور أن التحقيقات السابقة قد كشفت ضلوع عناصر من القاعدة في بعض الاغتيالات التي استهدفت عسكريين من مختلف الرتب، خلال الثمانية عشر شهرا الماضية، وأن ذلك يأتي في سياق الفعل ورد الفعل.
إذن، فاليمن في حال يصعب وصفه أو تشخيصه؛ قوى داخلية تحترف صناعة الأزمات، وأيدٍ خارجية تشتغل الظرف، وكلها قد جمعتها المصلحة المشتركة الدنيئة، على حساب المصالح العليا للأمة، فانساقت بشراهة تلهث وراء خسيس المغنم؛ لكن ذلك لن يمر على أعين القوى الوطنية الحقيقية والمخلصة لهذا الوطن ووحدته، والتي لا أخال إلا أنها تستعد لهذا الدور، وأنها ستقف موقف المسئولية، لأنها وحدها من يعي الخطر الذي تساق إليه البلاد.. فمن هي يا ترى؟ ومتى سيكون ذلك النهوض؟!!
*باحث في شئون النزاعات المسلحة