"لا يجتمع سيفان في غمد واحد" هكذا تقول العرب، وهذه هي نفسية العربي الذي يضيق ذرعا بمن يزاحمه على السلطة والزعامة والمال، وشواهد التاريخ السياسي لهذه الأمة تؤكد على ذلك، حتى أن هذا الحال ليجري في إطار الأسرة الحاكمة الواحدة، إخوة، وبنيناً، وحفدة، واليمن ليست بمنأى عن هذا التاريخ وتفاعلاته، أو عن هذه النفسية؛ ولذلك تبدو تلك الحالة من عدم الانسجام بين الرفقاء فيها، أكثر تجليا في أكثر من مشهد جامع لهم، وهم يعبرون بسفينة البلاد في ظروف السلم أو العصف السياسي الذي ينتابها بين الحين والآخر.
ولعلها الذكرى التي تنفع المؤمنين، فلنذكّر، ولنتذكر، ونحن اليوم نُجتذب بقوة من أكثر من طرف، إقليمي ودولي، في سباق محموم بين مصطرعِين على أعلى درجة من حرفية الاصطراع المجرَّب، بكل أشكاله وأدواته، وعن قرب، تنتظر هؤلاء قوى متربصة، تترقب لحظة النهاية التي يتمنون أن تكون فاشلة؛ للانقضاض على الفريسة دون عناء، فتمزقها شر ممزق!!
إن ما يجري اليوم في اليمن، هو ذاته ما جرى في سنيها الخوالي القريبة، ولكن على أفق أوسع، وغايات أكثر وأجد، وأطراف أكثر من أطراف كائنات عديدات الأرجل!! فكم تذكرنا أحداث تلك السنين بالذي يجري الساعة، طرفان، يدّعي كلاهما الفضل على الآخر، لكنه لا يستطيع المضي إلا به، وهذه هي المشكلة الكبرى بالنسبة لكل منهما، ولو كان الحال غير ذلك؛ لما استطالت هذه الأزمة هذه الاستطالة، وبدت كم لو أنها تسير على خطى سنوات ما بعد حركة نوفمبر عام 1967م، أو سنوات ما بعد إعادة وحدة البلاد عام 1990م.
فمن منهما يمضي على الطريق الحق، ومن يملك قوة الفصل، ولحظة إعلان النهاية لمصلحته، إذن؟
تمثل قوة الرئيس هادي مجموعة قوى مركبة، أولها: قوته كرئيس ارتضى به اليمنيون في أحلك ظرف، وبدعم خارجي متعدد، وقد عمل على تعزيزه وضوح رؤيته لدى داعميه والمنتفعين منه، كما أن صفحته لم ينلها من القدح ما نال منافسيه أو الطامحين بموقعه، على اختلافهم؛ سواء أولئك الرفاق الذين تشرئب أعناقهم من خارج الحدود، أو حلفاء الماضي الباقون من حوله ينتظرون ترنحه.
وكرجل عسكري جاء من عدن في ظرف سياسي غير طبيعي؛ أحداث يناير عام 1986م، فإن هذا هو ما يجعله في موقف حرج، متى قرر اختيار المواجهة المسلحة لإعلان النهاية، حتى وإن استحكم بأغلب صنوف القوة التي كانت بيد سلفه، الرئيس صالح، لأن الأطياف السياسية التي لونت البلاد بألوان متعددة؛ تجعله يستمسك بحبل الوحدة التي أعلن في أكثر من موقف، عن تمسكه بها ودفاعه عنها، ولو قدِّر له أن خسر النهاية، وانقسمت البلاد أثلاثا؛ فإن القوى التي كانت تنافسه في صنعاء لن ترضى به حاكما عليها، والقوى التي كانت تعاديه في محافظات الجنوب والشرق لن تقبل به وقد اعترك معها في أكثر من لقاء دامٍ، أبرزها في 13 يناير عام 1986م، ويونيو 1994م.
أما الفريق الآخر؛ وهو الفريق الملتف حول اللواء علي محسن، فإنه يراهن على ما تبقى من القوة العسكرية التي بيده، وعلى القوة القبلية التي كانت دائما هي أداة الحسم في أي صراع سياسي يصطخب في صنعاء، وعلى القوة السياسية التي يمثل توجهها عسكريا، خاصة أقوى الأحزاب فيه، والتي تستند عليه ويستند عليها منذ عقود، غير أن الخصم هذه المرة ليس كالخصوم السابقين، يزاد على ذلك أن الموقف الإقليمي المتذبذب يجعل من قوة هذا الطرف أوفر حظا مع كونه العصا الغليظة التي تقرع رؤوس خصوم الجوار!!
والحقيقة، أنه مهما حاول فريق الرئيس هادي، والفريق الذي يلتف حول اللواء علي محسن، تصوير حالة الخلاف بينهما أنها طبيعية أو منعدمة؛ فذلك هو الاستغباء ذاته، لأن الناس لم يعد يخفى عليهم خافٍ، بل ومن الأهمية بمكان أن يشعروا بما يدور في محيطهم، فهذه الشفافية هي التي تمضي عليها المجتمعات المتقدمة في إدارة شئونها، وما ينبغي عليه أن يكون عليه الحكم الرشيد.
لقد مثلت القرارات الجمهورية التي أصدرها الرئيس هادي مصدر قلق على من لم يعهدوا تلقي الأمر، ومنهم اللواء علي محسن، وابن الرئيس السابق، الذي يبدو اليوم أمام الرئيس هادي كحمل وديع، سواء كانت تلك القرارات باتفاق مسبق يبنهم أو غير ذلك، وقد أدرك الأخيران أن البساط يسحب من تحتهما رويدا رويدا، وتبدى المشهد لكل متابع؛ أن القوة التي كانت بيد الرئيس السابق بدأت تنتقل إلى قبضة الرئيس هادي، وأن بعضا من تلك القوة التي كان اللواء علي محسن يتحكم بها، بدأت في الانصهار في بواتق التكوينات الجديدة التي تضمنتها قرارات هيكلة القوات المسلحة، ولن يغدو اللواء علي محسن، والعميد أحمد علي، سوى قائدين عسكريين يأتمران بأمر وزير الدفاع ورئيس هيئة الأركان العامة، وهما الذين طالما كانا يتلقيان الأمر منهما، دون تململ أو اعتذار!!
كشفت انقلابات الضباط والجنود ضد قادتهم في بعض وحدات القوات المسلحة، كاللواء 314 حماية رئاسية (اللواء الرابع) واللواء 29 ميكا(العمالقة) المتمركز في مناطق حرف سفيان، أن هنالك فعلا وفعلا مضادا، بين فريق الرئيس هادي وفريق اللواء علي محسن، على غرار ما كان يجري في صفوف وحدات الحرس الجمهوري التي تمردت في وجه قرارات الرئيس هادي من قبل، ثم جاءت حروب الشائعات تتسلل في الخفاء من كل طرف، ولعل أقواها وأكثرها حساسية لدى الشعب اليمني، مسألة الوجود العسكري الأمريكي على الأرض اليمنية، بتلك الأعداد الضخمة، وبذلك التسليح المفزع الذي رُوّج له، وفي المناطق التي تثير تساؤلات كثيرة، وعلى أكثر من وجه، وهي: العند، وجزيرة سقطرى، وجزيرة بريم(ميون)، ولم يقف الحد عند ذلك، بل جرى تضخيم أعداد من عينوا في مناصب قيادية عسكرية وأمنية ومدنية، من محافظات الجنوب والشرق، ليبلغ العدد حد الخرافة!!
لكن، وكما يقال:" لا دخان دون نار" فإن أياً مما ذكر يبدو محسوسا لدى الجميع، ولكن ليس على تلك الصفة التي أشيعت، كماً ونوعا، وهو ما يجب أن يدرك عواقبه فريق الرئيس هادي، بل والرئيس هادي نفسه، فالمسألة ليست سباقا، ولكنها ترميم وطن تشقق بمثل هذه السياسة الرعناء التي اتبعت في عهد سلفه، وتحمل وزرها وحده، وإن لم يكن هو مبتدعها الوحيد، وسيكون الرئيس هادي كذلك، إن انزلق في هذا المنزلق الخطر.
كما أن ما يؤسف له، أن يأتي قانون المصالحة الوطنية وتحقيق العدالة الانتقالية على تلك الصيغة التي دفع به إلى مجلس النواب، والتشديد على إقراره بعلاته تلك، ليجعل من الدماء والأرواح التي سقطت سلعة تقابل بالمال، وتعطي النجاة براءة وحصانة متممة لتلك الحصانة التي منحت لهم مسبقا، بل وتجعلهم شركاء في أي عمل سياسي مستقبلي قادم، فأي عدالة وأي مصالحة تلك، وكأن الأمر كما يقال شعبيا: " حُكم بني مطر في سوقهم" !!
ثم لماذا يجري النظر إلى مشاكل الوطن الكبرى بعينٍ واحدة؟ ألم نسمع منذ أقل من أسبوع بتشكيل لجنتين لمعالجة قضايا الأراضي والمواطنين المبعدين من وظائفهم في القوات المسلحة والأمن والأجهزة المدنية من أبناء محافظات الجنوب والشرق؟ لماذا لا يجري إنصاف أقرانهم في محافظات الشمال؟ كإب، والحديدة، وتعز، وغيرها؟
نعم، فهناك الكثير من منتسبي القوات المسلحة والأمن والموظفين المدنيين من أبناء محافظات الشمال الذين كان لهم موقف رافض من حرب 1994م، وكان مصيرهم أسوأ مما لاقاه أقرانهم هناك، بل إن البعض منهم توفي دون أن يعاد إليه راتبه الشهري، ومنهم من غادر الوطن إلى دول الخليج ودول غرب أوروبا، بحثا عن ملجأ آمن يحميه من الملاحقة التعسفية.
إن هذه الانتقائية وهذا التمايز، تضاعف من حالة السخط الشعبي لدى أبناء محافظات الشمال مستقبلا، وهم يرون من أعطوه ثقتهم بتولي شئونهم، يغض عنهم بصره مريبا، ولذلك، فإن على الرئيس هادي مسؤولية جسيمة، تقع مع ما يسعى إليه في مسار واحد، هو "استجماع القوة له، والاهتمام بمن يتولى أمرهم" وهم هذا المجموع كله، لا فئة منه دون أخرى، أما أن ينشغل باستجماع قوته دون الاهتمام برعيته؛ فتلك بداية السقوط، وذلك– والله- ما لا نرجوه له.
*باحث في شئون النزاعات المسلحة