في اليوم الذي تنامى إلى أمي خبر مقتل أبي ، لحقتني إلى "الصالح" ( مجموعة من الجرب والشعاب الصغيرة ) تتبع أسرتي... أحضرت لي معها غداء بسيطا ( خبزا فقط) وإدامه قهوة !
كنت حينها ذوادا في اثنتين من الإبل ..!
على غير عادتها وعادة أسرتها فهم لا يظهرون العواطف غالبا ( مع أنهم رائعون وأصيلون) ، رأيتها تحدق في باهتمام مشوب بعاطفة ، ولعلها كانت تتساءل : هل هذا الطفل الذي لا يتعدى الثامنة سيكون سندي، بعد أبيه، في سنين الستينات العجاف، والتي كانت عجافا بالفعل ؟ لا بد أنها كانت تحدث نفسها قائلة وهي تتأمل وتحدق النظر في الطفل أمامها : انه لا يزال صغير جداً.. أما أشقاؤه فأصغر..
سعدت بمقدمها كثيرا في ذلك اليوم، وكانت زيارتها مفاجئة لي ، حيث لا أذكر أنها فعلت ذلك من قبل.. لكنها كثيرا ما فعلت بعد ذلك اليوم .
كنت أتناول الغداء( نسيمها فدرة ) واقتنص النظر إلى وجهها، وهي تجلس على يميني، ولمحت آثار دمع جاف على وجنتيها، كما أفهما وأفسرها الآن ، لكنني لم أدرك حينها أن تلك آثار دمع( نسميها دموع) حينذاك ...
كنت بمفردي في ذلك اليوم، دون رفقاء، خلافا لما جرت عليه العادة...
سألتني هل حدثك أحد بشيء؟ فأجبت بالنفي ... لم يكن يدر بخلدي أنها تقصد هل حدثني أحد بشيء عن مقتل أبي الذي كنت أقتص الطريق قبل غروب كل يوم ، بالقرب من قريتنا ( قرية ال عمران) قبل وصولي إلى بيتنا، لعلي أجد أثر حذاءه الذي لا يشبهه إلا حذاء السيد أحمد، وكثيرا ما اشتبه علي الأثر، في أغلب الأحيان،... قبل معرفتي بأن هناك شبيه لحذاء أبي كان بإمكاني الشعور بالأمل والفرح بشكل كامل، لكن عندما عرفت بالحذاء الشبيه، كنت أقتصد في الفرح، والأمل عند ما أجد الأثر ، ومع ذلك كنت أحث الخطى نحو المنزل، غير أن الخيبات كانت تتكرر كل مساء...
كانت والدتي حامل في أيامها الأخيرة بشقيقتي الصغراء، وكانت الدنيا رمضان...كان عمرها لا يتعدى السادسة والعشرين، كان ذلك في أوائل عام 1964...
ولما حان المساء ، أتى من يخبرها، وتعمم الخبر على الجميع .. وسلم للأمر الجميع .. لكني رفضت التسليم ، وناديت في حضرة جميع الأعزاء والعزيزات : لا تصدقي يا أمي !
ومع إنها سلمت للأمر الواقع ، لكنها قررت إن تشمر عن ساعد الجد وتحملت مسؤولية كبرى ومعقدة في تلك السنين المحزنة، وأثبتت جدارة منقطعة النظير، أعرف كل تفاصيلها ...
لعلي أود القول : إن عيشة ( هكذا ننطقها) بنت عبد الرب من أعظم النساء الصامدات، والمكافحات، مع أنها تبدو أمرأة بسيطة... هي الآن في صحة طبية ، حفظها الله ورعاها..
(2)
إضافة إلى الخبز والقهوة، تذكرت أن أمي أحضرت في ذلك اليوم كمية من اللبن ، الحقين، كافية لفرد واحد، أو قل لطفل واحد، كان بمثابة إدام ... لم تكن القهوة تستخدم بمثابة إدام، ولعلي استخدمت عبارة إدام ، في السابق مجازا، لكن الشاي يستخدم مع الخبز، ويمشي الحال ، بل لعله كان فاكهة ذلك الزمان أيضا ..!
لست اعرف كيف أن أمي أحضرت لي قهوة في ذلك اليوم الإستثنائي، لم يكن الوالدان يشجعان أطفالهما على شرب القهوة ، لكن لعلها تريد أن تعلل نفسها، أو تقول لي : إشرب القهوة ، لقد صرت رجلا، الطفولة خلاص انتهت.. وبالفعل فقد انتهت الطفولة بالنسبة لي منذ ذلك اليوم..! لكن ربما اقترن في شخصي كثير من لوازم الكهل منذ ذلك اليوم وما يترتب عليها من جد ومسؤولية، ولو في أدنى حدودها الطبيعية، ولعلي دون إدعاء حافظت على شيء من بساطة الطفل وربما براءته إلى اليوم ، أقول ربما لكني لا أمعن في الإدعاء، ومعذرة إن بدا الامر يأخذ شكل الادعاء أو طبيعته ... لكنني لا استطيع الحديث عن ، أو الإدعاء بحكمة الشيخ أو العجوز الذي صرته، أو أنني صرت على مقربة منه، فتلك مسألة أخرى ويؤتي الحكمة من يشاء ..
اقترب الليل فاتجهت نحو القرية ، ووصلتها قبل الإفطار، وعندما دخلت بين المنازل البسيطة ، وكنت ملاصقا لإحدى الإبل، إمشي خلفها، نظرت يمينا فإذا بعمي عبد الرحمن يطل من شرفة منزله البسيط كأنه يترصد قدومي،، كان شعره منكوشا ووجهه مسودا كما لم أره من قبل ولا من بعد بتلك الصورة ، كانت نظراته تبدو طائشة في الأفق ، كأنه لا يستطيع تصويبها نحوي، ونظرت يسارا فإذا بعمي أحمد، واقفا مسندا ظهره إلى جدار أحد المنازل ومتجهما يحملق في الأرض، لا ينظر إلي ، أو ربما لا يستطيع النظر إلي.. لكنه بعد حوالي نصف ساعة، لحق بي ليفطر عندنا ويسامرنا في منزلنا البسيط، وصحب معه ، عمتي ، وطفلة صغيرة، وكان الثلاثة إجمالي عائلة عمي أحمد في ذلك الزمن..
لم يكن لأبي أخوة من أبيه وبالتالي ليس لي أعماما ولا عمات من جهة الأب، وإنما عمين وفيين من جهة الأم، وليس لأبي كذلك أعماما، لكن من ذكرت وغيرهم ممن لم أذكر هنا كانوا بمثابة أعمام حقيقين رائعين بدون أدنى مبالغة ..
أحضر عمي وعمتي، فطورهم معهم وزيادة، وكان عمي أحمد يتبسم كلما وقع عليه نظري، لكنه ينظر إلى الأرض باستمرار وكأنه يخفي شيئا ما عني...كنت في تلك اللحظات أمرح قليلا وأشعر بقدر من السعادة ، ولم اتنبه كيف كانت تتعامل أمي مع الموقف، لعلها كانت مرحبة بالضيوف، وواجمة في نفس الوقت، كانت كثيرا ما تخرج من الديوان ( مجلس صغير) مرة تصلي وتطيل في الصلاة، واخرى تذهب إلى الديمة ( المطبخ مجازا) متعللة بتحضير أو إحضار شيء ما ، ربما كانت تدخل في نوبات من البكاء، بعيدا عن أطفالها وبعيدا عن أعين الآخرين قبل أن تسمع وتتيقن ..
كان الزمن رمضان كما قلت من قبل، لكن لا يوجد مسجد في قرية ال عمران حينها ولا في وادي منخر بأكمله، كان علي عوض يؤذن في رمضان من على سطح منزله، وفي غير رمضان لا نسمع أذانا أبدا... بعد نحو ساعتين من أذان المغرب، سمعت طرق الباب الخارجي، فاتجهت سريعا نحوه لأفتح ، فإذا بجدتي قوية الإيمان والشكيمة، وردة بنت حسين، والدة أمي، ومعها محمد أحمد عياش أحد أقرباءنا الطيبين، وكان يرعى الغنم حينها، وقد ذهب لأحضارها من منزلها في قرية المحمول التي تبعد عن قرية ال عمران حوالي أثنين كيلو متر..
اتجهت جدتي نحو الديوان، فيما بدا محمد مذعورا وبائسا، وشاحبا، ولست أدري كيف بدا لي عجوزا في تلك الليلة على ضوء التريك الذي سلطته على وجهه في الظلام ، وهو لم يتجاوز الخامسة والعشرين ..
عاد محمد أدراجه على وجه السرعة ، من الباب ، فلم يدخل ولم ينظر إلي أو يكلمني... بعد نحو عشرين عاما ، عند ما كان مريضا، يجري عملية لاستئصال الدرن في المستشفى المركزي في الدمام ، في منتصف الثمانينات، رأيته يتذكر ويبكي، وقد يقول من يعرف محمد، محمد يبكي ؟! غريبة.. !
انتظرت جدتي طويلا بعض الشيء لحضور أمي، وتم إرسالي مرارا لا بلاغها بقدوم جدتي، و تجيبني : الآن ( حلا بلهجتنا )، وهي تدير ظهرها لي وهي جالسة على ( المجلسة، أو المجسة)، يفصل بينها وبين جدار الديمة( المطبخ) صعد النار ( هكذا نسميه) وكأنها تعد شيئا، أو تطبخ شيئا ، لكنها لا تفعل شيء ...
كان عليها في الأخير أن تلبي، على أية حال ، فلما دخلت الديوان تساءلت وهي لا تزال واقفة ، ما الذي جاء بكم جميعا في هذه الليلة ؟ ما الذي تريدون أن تخبروني به ؟ هل حصل مكروه لأ حمد؟ فأجابت جدتي لا لا ، بس أحمد مريض! لكن با يشفيه الله.. فأجابت أمي : إريد الحقيقة .؟ فقالت جدتي لأمي اجلسي يا بنتي ، فجلست أمي إلى جانب جدتي ،وتساءلت أمي من جديد ؟ فأجابت جدتي : أحمد أصيب...
في تلك اللحظات ، كنت واقفا، وكأني أردت أسكات جدتي وتصحيح معلوماتها : أنت لا تعرفين الحقيقة يا جدة، أبي لم يصب.. لقد كذبوا عليك مثل ما فعل معي (أول من أمس) "الرعيان" في المرهية( ملتقى أملاك ورعيان من قرى مختلفة )..
وبعد تساؤلات في جو شديد الخصوصية والتوتر، قالت جدتي : تعزمي الصبر- أي شدي حيلك- أحمد إنتهى..
إحتدمت مواجهة من نوع ما، من جديد، بيني وبين جدتي، فقلت لقد كذب الرعيان على خالي عبد الله مثل ما فعلوا معي ، فأخبرك وصدقتينه..وها إنت تخبرينا الآن بما قال لك ... كان عليك ألا تصدقي..
لا تصدقي يا أمه.. كل هذا كذب..
قالت أمي مخاطبة الجميع : لقد أحسست منذ الصباح أن شيئا ما قد حدث ، لقد سمعت امراءة تقول : ربما أن شيئا ما قد حدث للذين في القبلة، هكذا كانت تسمى صنعاء وما حولها وربما بقية شمال اليمن سوى البيضاء في ذلك الزمن، لكن ليتكم ( قالت) لم تأتوا لإزعاج الأطفال وإخافتهم...
استطيع القول : لقد تعزمت عيشه الصبر وشدت حيلها، كما أوصتها أمها وزيادة ..
ولعلي صرفت النظر عن تفاصيل إضافية في السطور الأخيرة .. من جديد .. لاعتبارات آنية...
قد إرجع للحديث عما تبقى من تلك الليلة واليوم التالي، حسب الظروف ..!
ملاحظة : أود الإيضاح باني لا أرغب رواية قصة تثير الحزن هنا، بقدر ما تتضمن عبرا محفزة.. هي كانت في وقتها مؤلمة من غير شك، ولكن لعلها تحولت مع الزمن إلى عبر وعزيمة وتصميم .. وقد يستفاد منها في بلد لا تزال التحديات فيه كبيرة ، لكن ليس أمام رجاله ونسائه سوى تحويل التحديات إلى فرص للحياة والكرامة والحب والتسامح والسلام .