الوظيفة الرئيسية للحوار الوطني في اليمن من المفروض أن تتمثل في تحقيق الانتقال السياسي من نظام الفساد والمحسوبيات والإدارة السيئة إلى النظام الديمقراطي، الذي يضمن الحقوق والحريات والمواطنة المتساوية، وهذا يعني بالضرورة الانتقال أيضاً إلى النظام الاقتصادي المتطور الذي سوف يعتمد على الموارد الطبيعية والبشرية الوطنية (التي هي متوفرة إلى حد كبير) وخلق الظروف الملائمة للاستثمارات التي ستمكن الشعب اليمني من تحقيق التنمية المطلوبة، دون الاعتماد إلى هذه المستويات على المساعدات والقروض الخارجية، والتي تذهب إلى جيوب الفساد. فاليمن يتمتع بكثير من الخيرات ولكنها بحاجة إلى الاستغلال الأمثل، وهذا سيكون ممكناً في حالة أن وجد مثل هذا النظام.
وللدلالة على أن المشكلة دائماً في الأنظمة السياسية يكفي أن نشير هنا إلى وجود دول تفتقر إلى حد كبير للموارد الطبيعية المحلية ولكنها استطاعت أن تحقق تطور هائل في اقتصادها وأصبحت من ضمن الدول الصناعية الكبرى (اليابان) ودول عانت من التخلف الاقتصادي والسياسي ولكنها استطاعت أن تتجاوز كل الصعاب وتمكنت من تحقيق نهوض اقتصادي كبير دون الاعتماد على المساعدات الخارجية ( دول جنوب شرق آسيا).
انعقاد مؤتمر الحوار الوطني ومشاركة مختلف النخب السياسية التقليدية وغير التقليدية والقبول على الجلوس على طاولة الحوار بداية طيبة ولكن الأهم أن تدرك هذه القوى بمختلف مكوناتها المتناقضة أن الشعب اليمني لا يقبل ولن يقبل بالوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي الراهن، وأن الجميع أصبح بحاجة إلى البديل والأفضل ولهذا من الضروري البحث عن الطرق والوسائل المحددة والصحيحة للوصول إلى تحقيق هذه الغايات.
الاتجاهات الأساسية لعملية الانتقال الديمقراطي في اليمن من حيث الشكل أعتقد أنها واضحة لغالبية القوى المشاركة في الحوار الوطني، وما يتبقى فقط إلا استيعابها والاقتناع بها من حيث المضمون ومن ثم الشروع بالبحث عن الحلول والمعالجات والتسويات للقضايا والأمور المتعلقة بتحقيق بداية السير في هذه الاتجاهات.
لكن المشكلة الأساسية تكمن من ناحية، في النقص في فهم مفردات الديمقراطية والحكم الرشيد، والقصور في استيعاب بعض المفاهيم العلمية والفهم الخاطئ لبعضها خاصة فيما يتعلق ببناء الدول في ظل انعدام رؤية متكاملة وموحده للتنمية لمستقبل اليمن لدى هذه القوى السياسية، ومن ناحية أخرى موقف المشاركين في الحوار من قضايا الفساد، الذي مازال غير واضح حتى الآن. إضافة إلى ذلك عدم مشاركة النسبة المطلوبة لقوى الثورة والتغيير والاكتفاء فقط بالتمثيل الرمزي بعدد بسيط جداً من الأشخاص، وعدم مشاركة جزء من الحراك ومن المعارضة في الخارج وعدم اصدار قانون العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية.
من هذا المنطلق يتوجب على القوى السياسية المشاركة في الحوار الوطني أثناء معالجتها للقضايا المطروحة أن تلتزم بالثوابت الوطنية والدولية المتمثلة بما يلي:
احترام المعايير الدولية لحقوق الانسان، احترام مبادئ الديمقراطية وسيادة القانون، عدم فرض الوصاية على الشعب وعدم الأضرار بالمصالح الوطنية، مع الأخذ بعين الاعتبار أن حل قضايا الفساد يمثل أحد الاتجاهات الرئيسية في العملية الانتقالية ودون حلها يستحيل الحديث عن الديمقراطية وحقوق الانسان والاستقرار في اليمن.
هذه الثوابت تشكل مبادئ عامة للدولة المدنية الحقوقية ( دولة النظام والقانون ) وتتجاوب مع القوانين والاتفاقية الدولية للمبادرة الخليجية وآليتها والقرارات الدولية المنظمة للعملية الانتقالية في اليمن.
فقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان وسيادة القانون قضايا وطنية ودولية ولا يمكن الفصل بينها وتشكل أساسها الدولة المدنية الحقوقية. ومثل هذا الدولة يمكن بنائها في اليمن على أساس فصل الثروة عن السلطة والعمل التجاري عن المناصب الحكومية والمؤسسات العسكرية عن العمل السياسي، منع عمل الأقارب في السلطات العليا والدنيا وتقديم براءة الذمة المالية لمن سيتولى هذه المناصب وتقديم تقارير شفافة ومفصلة كل عام وتولي المناصب بالكفاءة والنزاهة ....الخ . فهذه الأسس ليست فقط كفيلة بإزالة كل الأسباب التي شكلت أساس نظام الفساد والمحسوبيات الإدارة السيئة، وإنما هي أساساً للدولة المدنية الحقوقية التي عبر الشعب عن تطلعاته في بنائها من خلال ثورة فبراير 2011م.
لقد كان سبب انقسام الجيش في اليمن بين مؤيد ومعارض للثورة هو عدم استقلالية المؤسسات العسكرية والأمنية عن السياسة. وعدم استقلالية هذه المؤسسات أضعف من دورها وأحرمها من وظائفها الرئيسية. وقد أستطاع الجيش المنظم إلى الثورة ليس فقط أن يكون سنداً قوياً للثورة والتغيير الديمقراطي وإنما أستطاع أيضاً بموقفه الوطني هذا أن يعيد رد الاعتبار لهذه المؤسسات المهمة في الدولة، وإلى جعل قوى التغيير والديمقراطية أن تفكر بجدية في إعادة بنائها على أسس وطنية ومهنية وفقاً للأسس والمبادئ العسكرية والأمنية الحديثة. والقرارات الرئاسية في أعادة الهيكلة ما هي إلا البداية .
عدم استقلالية المؤسسات الدينية أضعف من دور الإسلام في المجتمع وساهم بطريقة وأخرى بشكل مباشر أو غير مباشر إلى وجود التطرف وتعدد الاتجاهات وحول التنوع المذهبي إلى صراعات، وإصدار فتاوى سياسية بغلاف ديني تبرر فقط تصرفات النخب الحاكمة ولا يهم أن كانت تسيء إلى الإسلام .
الإسلام يجمع بين كثير من الشعوب والقوميات بمختلف العادات والتقاليد واللغات والثقافات وخلق جسور التواصل الحضاري في ما بينها على المستوى العالمي. لكن صراع المذاهب للأسف خلق النزاع والفرقة بين أبناء الشعب الواحد على مستوى الوطن الواحد.
الدولة المدنية بغض النظر عن شكل بنائها الإداري في هذه الحالة وفي جميع الحالات تعتبر أساس ضروري للاستقرار والتنمية في اليمن . واستقرار وأمن اليمن جزء لا يتجزأ من السلام والأمن الدوليين.
ولكي يكون أي قرار سياسي عملياً وصحيحاً وفي هذه المرحلة الدقيقة والمهمة من تاريخ التطور السياسي في اليمن يجب أن يكون موضوعياً يقوم على أساس احترام حقوق الانسان وعلى أبعاد اقتصادية واجتماعية عادلة تتجاوب مع مصالح الشعب اليمني وتطلعاته. ولكي ترتقي القرارات السياسية إلى هذا المستوى يجب أن تعتمد على دراسات علمية وليس قراءات حزبية ذيقة ورغبات وعواطف شخصية خاطئة.
لهذا سيكون من الأفضل إذا ما عقد مؤتمر علمي لفترة أسبوع واحد فقط يخصص لدراسة الوضع في اليمن لإيجاد المخارج العلمية والعملية بكل حياديه بمشاركة علماء عرب وأجانب، وسيكون كافياً أن خصص لهذا الغرض خمسة بالمئة فقط من ميزانية الحوار، والذي بدوره سيعمل على تخفيض فترة الحوار من ستة أشهر إلى ثلاثة أشهر، واليمن ليست بحاجة إلى الدورات السياسية التعليمية والخطب السياسية الحماسية والإنشائية. وما لم تستطيع النخب السياسية استيعابة خلال خمسين عام لا يمكن أن تستوعبه خلال نصف عام. فالوضع في اليمن لا يتحمل التأجيل ولا التجارب.
ودون أدنى مستوى من الشك الحوار الوطني يضع جميع القوى السياسية أمام محك صعب يفرض عليها الخيار بين البقاء في نفس المستويات المتخلفة التي لا تواكب التطور فيما إذا ظلت حبيسة تفكيراتها الضيقة وعقلياتها المناطقية والقروية أو التفكير السياسي الجديد الذي يتسع بحجم مشاكل الوطن ويرتقي إلى مستوى واقع المتغيرات العالمية والوطنية .
الحوار الوطني يجب أن يخلق حالة من التوازن النسبي بين مصالح جميع القوى السياسية المشاركة في ظل أولوية المصالح الوطنية للشعب اليمني التي تشكل جزءاً لا يتجزأ من مصالح المجتمع الدولي، واعادة بناء العلاقات السياسية فيما بينها على هذا الأساس. بكل تأكيد هذا يعتمد على قدرة هذه القوى في استيعاب جميع المعطيات المحلية والدولية وعلى قدرتها على التكيف والتعاطي مع هذا الواقع بأبعاده الداخلية والخارجية. ولكي تستطيع الوصول إلى هذا المستوى يتوجب عليها بدرجة أساسية أن تعمل على تحقيق التحول الديمقراطي داخل مكوناتها أولاً. وثانياً التخلي عن الفكر الشمولي ورفض الآخرين والاعتراف الفعلي بأولوية المصالح الوطنية أمام المصالح الشخصية.
المشاركين في الحوار الوطني ليسوا منتخبين من قبل الشعب، ومؤتمر الحوار لا يشكل هيئة تشريعية وبالتالي ليس مفوضاً أن يحدد حق تقرير المصير للشعب اليمني، وإنما هو حوار توافقي بين القوى السياسية في أطار المصالحة الوطنية، وقرارته ستكون ملزمة لجميع الأطراف المشاركة، وينبغي أن يشكل الحوار الوطني انتقالاً نوعياً في العلاقة السياسية بين جميع هذه القوى من خلال تحويل الصراع المناطقي والقبلي والقروي إلى تنافس سياسي مدني بالمقاييس الوطنية والعالمية حسب القواعد الديمقراطية. هذا التوافق يجب أن لا يأتي على حساب مصالح الشعب اليمني وتطلعاته.
ويتوجب طرح جميع القضايا العالقة للمناقشة في الحوار الوطني بموضوعية واعتدال وتجنب التطرف لما لهذا الأخير من انعكاسات سلبية وضارة على القضايا نفسها وإفراغها من مضامينها العادلة.
لقد عانى الشعب اليمني من الأنظمة الاستبدادية أثناء التشطير ومن نظام الفساد والمحسوبيات والإدارة السيئة في ظل دولة الوحدة وما زال يعاني اليوم من نظام المحاصصة وغياب دولة القانون ومن التدهور الكبير في الأوضاع المعيشية والأمنية والإنسانية واستمرار الفساد والعبث بالأموال العامة، في وقت يعاني فيه الشعب اليمني من الفقر والعوز. واعتماد الحكومة شبه الكامل على المساعدات الخارجية تصيب المواطن اليمني بالخيبة والإحباط. فالشعب اليمني يتطلع إلى التعاون الدولي والشراكة الاقتصادية المتكافئة مع مختلف البلدان وليس الاتكال الدائم على الشعوب الشقيقة والصديقة.
ثورة فبراير 2011م هي امتداد للحراك السياسي في الجنوب ونتيجة موضوعية ومنطقية للأوضاع المأساوية التي يعيشها الشعب على مستوى الساحة اليمنية، وجاءت لتحقق مالم تستطيع إنجازه ثورتي سبتمبر 1962م وأكتوبر 1963م.
جميع القوى المشاركة في الحوار الوطني ليست مخولة في حل المشاكل التي تتعلق بالقضايا السيادية لإقليم الدولة. فالشعب اليمني لم يمنحها هذا التفويض وليس لها ولن يكون لها هذا الحق. بالتالي شكل البناء الإداري لإقليم الدولة خارج أطار الدولة اللامركزية ذات الصلاحيات الواسعة( مع بعض التحفضيات) ممكن فقط مناقشته في الحوار على أساس تشكيل رأي عام من أجل أعادت النظر فيه بالمستقبل بعد اتاحة الفرصة للدولة المدنية في بسط سيادتها على كامل الإقليم اليمني بفترة انتقالية معقولة تتيح للشعب اليمني أن يعبر عن إرادته الحقيقية بكل حرية دون إي ملابسات ولا تشويش، بعدها يمكن العودة لجميع الخيارات المطروحة بأبعاد ديمقراطية واجتماعية واقتصادية عادلة وتحديد الخيار الأمثل من خلال الاستفتاء العام.
بكل تأكيد الوحدة اليمنية بوضعيتها الحالية لا تجسد مصالح الشعب اليمني لا في الجنوب ولا في الشمال، في نفس الوقت انفصال الجنوب عن الشمال في ظل الأوضاع القائمة سيضر بمصالح الشعب في الجنوب قبل الشمال، وأن كان الوضع في كلتا الحالتين قد يتجاوب مع مصالح فئات وأشخاص بحد ذاتهم ليس إلا. لذا من الضروري على جميع القوى الحريصة على الوحدة اليمنية بمضمونها الديمقراطي والعادل والقوى الحريصة على الشعب في الجنوب (التي ترى الانفصال الخيار العادل لحل قضايا الجنوب) أن تعمل معاً سواءً كانت داخل الحوار الوطني أو خارجه وبدرجة أساسية في ارساء اسس الدولة المدنية الحقوقية واعطائها الفرصة في تحقيق التنمية والنهوض الاقتصادي الضروري لما من شأنه من تعزيز الحريات الفردية وإضعاف الحدود المناطقية وتقوية بنيان المجتمع المدني، والقضاء على مظاهر الفساد والمحسوبيات والإدارة السيئة، وبعدها وضع الخيارات، إما استمرارية الدولة الواحدة، أو الدولة اللامركزية ذات الحكم المحلي كامل الصلاحيات، أو الفدرالية بإقليمين أو الانفصال الكامل عبر آلية الاستفتاء العام. خاصة وأن اليمن يعيش في حالة عملية الانفصال من نظام الفساد والمحسوبيات والإدارة السيئة التي لم تكتمل بعد، ويقف أمام خيارين. إما بناء الدولة المدنية وإما دويلات مناطقية قبلية فاسدة.
لقد كان واحد من الأسباب الرئيسية للتخلف في اليمن هو تخلف القوى السياسية، لهذا من الضروري التخلي عن العقلية القروية والمناطقية والقبلية واستبدالها بالعقلية المدنية، والتخلي عن الصراع السياسي من منطلق المصالح الضيقة والانتقال إلى التنافس السياسي في ظل الأولوية للمصالح الوطنية، لأن هذا سيشكل بداية ضرورية لكي تكون هذه القوى جزءً مهماً من المجتمع الديمقراطي المدني وسيؤهلها بأن تكون ضليعة بتحمل المسؤولية وقادرة على حل مشاكل وقضايا المجتمع.
الإسلام لا يتناقض مع الديمقراطية والمعايير الأساسية الدولية لحقوق الانسان.
مبادئ القوانين في مختلف الأنظمة القانونية لمختلف الدول، والمعايير الدولية لحقوق الإنسان تشترك إلى حد كبير مع القيم الإسلامية. ولقد لعب الإسلام دوراً مهماً حينها في تطوير الأسس القانونية في مختلف الأقسام بما في ذلك القانون الدولي وخاصة القانون الإنساني وحتى الدبلوماسي والقنصلي.
الإسلام يحرم الفساد والمحسوبيات والإدارة السيئة، وجميع الأنظمة القانونية تجرم وتناهض هذه الظواهر السيئة والخطيرة. ويدعو الإسلام للعدالة والمساواة الاجتماعية واحترام حقوق الإنسان وتمثل كل هذه القيم مبادئ أساسية في جميع قوانين الأنظمة الحقوقية في العالم وبدرجة أساسية في القانون الدولي.
الإسلام يتضمن مبادئ مهمة في قضايا الديمقراطية والحكم الرشيد. وابسط دليل على ذلك تعايش الإسلام والمجتمعات المدنية في دول الديمقراطية المتطورة.
واعتناق البعض للإسلام من المواطنين الأصليين لهذه الدول، والنمو المتزايد للإسلام في الدول الغربية يؤكد على تناغم الإسلام والديمقراطية في أمور أساسية كثيرة.
فالدستور اليمني الجديد سيكون من الأفضل إذا تضمن بدرجة اساسية وبالترتيب مايلي
الفصل الأول المبادئ أو الأحكام العامة
الفصل الثاني حريات وحقوق المواطن والانسان
الفصل الثالث الانتخابات والاستفتاء العام
وبعدها تأتي الفصول الأخرى التي تحدد صلاحية البرلمان ورئيس الدولة والحكومة والنيابة والقضاء والعدل والبناء الإداري للدولة ومكوناته ..... الخ.
والفصل ما قبل الأخير التعديلات الدستورية وأخيراً الأحكام الانتقالية.
في الفصل الأول ينبغي فيه إضافة إلى تحديد هوية الدولة ومكانة حقوق الإنسان وأسس نظام الدولة القانوني والسياسي، التأكيد على أن الإسلام المصدر الأساسي للتشريع ويشكل فيه القرآن الكريم المرجع الأساسي. وأن المبادئ العامة للقانون الدولي والاتفاقيات المصادق عليها من قبل الدولة تعتبر جزء لا يتجزأ من القانون اليمني. ...الخ.
وفي الفصل الثاني إدراج جميع الحقوق والحريات الأساسية للمواطن والانسان، حتى يسهل تطبيقها والتعرف على الزاميتها لجميع الجهات. ويفضل أن يتم صياغة مشروع الدستور من قبل علما في القانون الدستوري والقانون الدولي وبمشاركة خبراء في اللغة العربية، وبعدها يتم تسليم نسخ من المشروع لجميع القوى السياسية لعمل أي ملاحظات أو تعديلات.