ليس بالأمر السهل الحديث عن حياة رجل قضاء مستقيم ونزيه عاش نصف قرن في هذا الفضاء القضائي عفيف اليد واللسان، ولكن لا مفر من بعض الإشارات الدالة إلى تلك الحياة السخية النادرة في كثير من تفاصيلها، ولابد من أن نعرّج على الفترة الاستثنائية التي خرج فيها القاضي العلامة أحمد محمد الشامي عن محيطه القضائي ليمارس السياسة تحت ضغوط شديدة ومتعددة الاتجاهات، ويبدو أنه لم يكن في إمكانه صدّ تلك الضغوط التي أبعدته عن مجاله الحقيقي الذي وجد فيه نفسه بوصفه واحداً من القضاة المؤهلين علمياً وأخلاقياً، والذين اكتسبوا سمعة لا ينالها في بلادنا وفي مثل ظروفنا سوى أقل القليل ممن يعملون في هذا الحقل الشائك والمليء بالمطبّات التي لا يدركها إلاَّ القاضي اللبيب الذي يجاهد نفسه لكي تبقى دائماً فوق الشبهات، وفي معزل عن شبكة الإغراءات.
ولد القاضي أحمد في قرية المسقاة، أجمل القرى المحيطة بوادي بنا على الإطلاق، وأحفلها بالخضرة والمياه العذبة، وقد سُميت بالمسقاة، لأنها تستقي وتُسقى، وينابيعها التي لا تعرف التوقف عبر كل الفصول تجعلها دائمة النظرة والاخضرار، وقد لفت الأنظار منذ كان طالباً متفوقاً في المدرسة العلمية بصنعاء، وكانت له مع عدد من زملائه العلماء الشبان مواقف يستنكرون من خلالها الركود السياسي والاجتماعي، وكان اهتمامه الواسع بالمناهج المقررة على طلاب المدرسة لا يمنعه من تنوع قراءاته في التاريخ والأدب والفكر السياسي، وكان يكتب الشعر ويقرأه على زملائه ثم يخفيه أو يتخلص منه، وقد وقعت في يدي بالصدفة إحدى قصائده، كان ذلك في أواخر الخمسينيات من القرن المنصرم وأدركت من خلالها أنه شاعر متين اللغة يجيد الأوزان ويطمح إلى أن يكون شعره تعبيراً عن هموم مواطنيه وما كان يعاني منه الشعب في تلك الحقبة الفاصلة بين الماضي والمستقبل.
وأعترف أنني لم أعد أطالع له شعراً فقد اتجه إلى القضاء، وبعض القضاة لا مكان للخيال في حياتهم العملية الواقعية ذات الصلة بحياة المواطنين، وما تفرضه من دقة في التعبير والتزام بلغة القضاء المنطقية التي لا تحتمل سوى المعنى الواحد. وقد كان رحمه الله من القضاة البارزين الذين ساندوا الثورة السبتمبرية عند قيامها وأدركوا أنها كانت ضرورة وطنية للانتقال بالوطن من حال إلى حال، ومن مرحلة إلى مرحلة. وقد أهَّلته نزاهته وإخلاصه لوطنه لتولي وزارة الأوقاف، وإن كان -كما عرفته عن قرب- يكره المناصب ويتهرب من الوقوع في براثنها لاسيما حين تأتي في مراحل انتقالية غير مستقرة، وربما كان أكثر من تولوا الوزارات ابتهاجاً بالفكاك من حبالها والعودة إلى منصبه القضائي رئيساً للاستئناف في مدينة تعز التي حفظت عنه أجمل الذكريات لنزاهته وأمانته وحرصه على أن يكون قاضياً متميزاً في عدله ورصانة أحكامه.
وكان يمكن للقاضي العلامة أحمد محمد الشامي أن يواصل عمله القضائي إلى أن يلقى ربه لولا المؤثرات السياسية التي طرأت على البلاد بعد الوحدة وما رافقها من تعددية حزبية، وما تعرّض له من ضغوط ليؤلف "حزب الحق" وأشهد أنه كان شديد التبرم بهذه المهمة وأنه كان يدرك خطر العمل في مجال السياسة لما تتصف به من مراوغة وأكاذيب ووعود سرابية، وبوصفه قاضياً أمضى السنوات الطوال في حل المنازعات وإصدار الأحكام العادلة والنافذة تهيأ له لفترة قصيرة أن في إمكانه من خلال تجربته القضائية أن يعطي مفهوماً جديداً للعمل السياسي والحزبي إلاّ أنه إدراك البون شاسعاً بينه وبينهما، ذلك لأن السياسة في الوطن العربي، على حد قول بعضهم، نفق مظلم لا يفضي إلى شيء، ويبدو أنه سيبقى كذلك إلى أن يأتي جيل جديد مبرأ من الخصومات والمصالح الشخصية، لهذا فقد أختار القاضي أحمد أن يعتزل السياسة وينضم إلى دائرة الحكماء الذين يسعون إلى جمع الصفوف وإصلاح ذات البين، وتجنيب البلاد عواقب الفتن وما تجر إليه من نتائج لا تتوقف على تأخير حركة التطور والتغيير المتوازن فحسب، وإنما تقود إلى كوارث تعود بالبلاد وأهلها إلى ما قبل التاريخ.
وبالمناسبة فقد كان آخر لقاء جمعني به منذ أقل من أسبوعين لرحيله، فقد زارني إلى مركز الدراسات والبحوث، وأعاد على سمعي نماذج من ذكريات القرية وشخصيات الزمن البريء حين كان الناس ينعمون بالرضا والطمأنينة والاستقرار. ولا أدري إن كان عليّ أن أشير هنا إلى أن علاقة قرابة وثيقة ربطت بيننا فقد كانت والدته ووالدتي ابنتي عمومة، وكان أحرص الناس على التواصل والوفاء بصلة الأرحام، تغمده الله بواسع رحمته ورضوانه، والبقاء لله وحده.
الأستاذ زيد الشامي في كتابه "بيوت الحب":
هو كتابه الرائع، ويصعب على من وصل إلى يده هذا الكتاب، أن يتركه قبل أن يطوي آخر صفحة من صفحاته المائة والخمس والسبعين، ليس لأن الحب بمعناه السامي والرفيع قريب إلى القلب، وإنما لأن الوطن في هذه المرحلة أحوج ما يكون إلى مثل هذه الكتابات التي تخاطب الوجدان وتواجه حالة الجدب التي بدأت تدمر البيوت بعد أن افتقدت المودة والرحمة، وأصبح كل فرد فيها جزيرة منعزلة لا تربطه بأفراد أسرته أو بمجتمعه رابطة المحبة التي هي واحدة من عناوين الإسلام وأساسياته الثابتة. شكراً للأستاذ زيد على دعوته لبيوتنا لكي تشرع أبوابها للحب والرحمة والحنان.
تأملات شعرية :
حين تكون حزيناً
مضطرباً،
تبدو اللغة الفصحى
مثلك واجفةً
مفعمةً بالأحزانْ.
لا شيء جميلٌ فوق الأرض،
نعوشٌ، أضرحةٌ
ووجوهٌ عابسةٌ،
غربانْ.