قبل أكثر من ثلاثين عاما عايشت في جامعة البترول والمعادن، طلابا يمكن اعتبارهم سلفيين، بالمفهوم الذي صار سائدا بعد ذلك، كانوا على مستوى عال من الخلق والجد،يهتمون بالحديث ويربون اللحى ويقصرون الثياب.. ويتحاشون مشاهدة التلفزيون..!! ويبدون كمن لا يكترث بالسياسة وشؤونها..
غير أن الحديث عن الجهاد في أفغانستان كان على أشده حينذاك ..إضافة إلى حرب العراق وإيران،..كنت مرتابا من جهاد أفغانستان وحرب العراق ضد إيران، بالنظر إلى حماس الغرب لتلك الحروب في ذلك الزمان ..
فوجئت ذات يوم بمحمد موسى، وهو الزميل الوحيد من محافظة البيضاء يقول : إنه مسافر للجهاد ..واعترضت، وتساءلت ، والدراسة؟ فأجاب بحزم بما معناه : الجهاد أولى...!
كان طالبا متفوقا في الثانوية وكان ذلك السبب في قبوله في جامعة البترول ، وقد صحبه والده إلى الجامعة أول يوم، وكان بادي السرور، وقد وجد لابنه زميلا من البيضاء التي نادرا ما يلتفت أبناؤها المغتربون للدراسة في ذلك الزمن.. كنت متقدما على محمد بسنة دراسية وأكبر منه بسنوات..
أتى محمد مودعا على عجل .. حاولت أثنيه ولم يستجب..ولم يكن مستغربا حينها أن يذهب مجاهدون شباب مثله لأفغانستان . فالحكومات العربية والغربية كلها كانت تروج لذلك الجهاد وتدعمه ...وكان هدف حكومات الغرب هو ضرب الإتحاد السوفياتي، أما الحكومات العربية فبعضها كان حليفا للغرب.. وبعضها ممالئ للحلفاء العرب والغرب وان كانت تربطه بالسوفيات علاقة طبيعية بدرجة ما ...
أما هدف الشباب فتحرير أرض مسلمة من احتلال الروس الشيوعيين الملحدين، وفقا للفتاوى الدينية، وزخم الإعلام ، غربياً وعربياً ..
انقطعت أخبار محمد عني من لحظة ذلك الوداع السريع الذي بدا فيه حازما وسعيدا وفي عجلة من أمره أيضا..كانت فترة المعرفة به قصيرة جدا..ووسائل التواصل ليست كما هي الآن..
تطور الأمر بعد ذلك وسمعنا عن السلفية الجهادية في الحرب الأهلية الجزائرية التي بدأت بعد حوالي عقد من وداع محمد، ثم شاهد العالم بعد حوالي عقد آخر، من بداية حرب الجزائر، وما أطلق عليه السلفية الجهادية، كارثة 11 سبتمبر2001م ، التي أدانها العالم، وكان محقا، كونها استهدفت أبرياء في الأساس، فيما هلل لها كثيرون عندنا باعتبارها تأتي في سياق المواجهة ضد أميركا، نصيرة إسرائيل...!
لم يكن يدور بخلد أحد أن الجهاد في أفغانستان الذي نسجت حوله أساطير كثيرة "وغزوة مانهاتن المباركة" على حد تعبير أسامة بن لادن، سيسفر عن مآسٍ مريرة وأحداث خطيرة، من نوع مجزرة ميدان السبعين، في 21 مايو 2012م ومذبحة مستشفى العرضي في 5 ديسمبر 2013م..
سمعنا الآن أن الدكتور الظواهري يقوم ببعض المراجعات "الفكرية"... وحسنا ثم حسنا إن فعل ، وإن كانت المراجعات قد تأخرت كثيرا على الرغم من الحاجة الماسة إليها منذ زمن، وعلى الرغم من انتفاء حاجة الأمة إلى فكر من ذلك النوع من حيث المبدأ..!
ويبدو أن قليلين من علماء الدين ،في جزيرة العرب وفي اليمن على وجه الخصوص، يراجعون أفكارهم ومواقفهم وفهمهم للدين العظيم .وغالبا ما يتأثر فهم الأديان بظروف معتنقيها، الاجتماعية والتاريخية، والمعرفية.. الخ..
لم نسمع لعلماء ودعاة كبار، رأيا أو اعتراضا على كل ما يجري ويحدث باسم دين الله الحنيف من عنف وقتل وخراب، بما في ذلك ما جرى ويجري في بلادنا اليمن..سمعنا من البعض مشكورين مواقف محمودة ، لكن هناك من لا يزال محجما، مع أن الحق أبلج، وتضليل الشباب بلغ حدا لا يعقل ولا يحتمل . أما الأضرار التي تتكبدها الأمة واليمن على وجه الخصوص ،فهي بلا حدود..
لم نسمع مراجعات أو رجوعاً إلى الحق لدى من نعلم أنهم بحاجة لذلك وخاصة في محيطنا القريب...مع أن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل كما قال أمير المؤمنين عمر...
كلما يتأمل المرء في ما يمكن تسميته بالتفكير أو الفكر "الجهادي" في الثلاثة العقود الماضية وما أسفر عنه من مآس وكوارث وإساءة إلى دين الله الحنيف، ليس بوسعه إلا أن يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، وهو وحده المستعان على ما يصفون ويفعلون ..
وفي الحقيقة لا بد من التأكيد على الحاجة الماسة إلى المراجعة، بل إلى التراجع، لكل من يعنيه الأمر ويهمه شأن هذه الأمة ..ولا يقتصر الأمر هنا على سلفيي السنة المتطرفين أو أصولييها، بل يشمل متطرفي الشيعة أيضا.. فملة العنف الديني، والقتل تدينا، واحدة..!
ويمكن الإشارة هنا إلى دور وعلاقة سياسات الحكومة الأميركية بكل ما جرى ويجري في منطقتنا منذ عقود..
فقد كان لتلك السياسات إسهام كبير في تأجيج التطرف ومفاقمته بكل أشكاله، ومشاربه اليسارية واليمينية، والقومية والدينية ، ويكفي تذكر ومعرفة طبيعة علاقة أميركا بإسرائيل واحتلال العراق خطأ وظلما، وحكايتها الطويلة في أفغانستان.. وهي الآن تساهم في مفاقمة الحال والمآل من خلال طائرات الدرون التي تقتل الأبرياء. لكن كل ذلك ليس مبررا لأن نفقد عقولنا ونسهم في خراب ديارنا.. تحت أي ذريعة ..