يقع جامع الصالح ضمن الحرم الأمني لدار الرئاسة، كما أن منارات الجامع تطل على مجمع الدار ومرافقه. وبحكم هذا الوضع؛ فإن الضرورات الأمنية تستلزم أن يكون الجامع وجميع ملحقاته تابعة بشكل حصري للحرس الرئاسي التابع للرئيس هادي، أو أي رئيس أخر يخلفه. فأمن الرئيس – أي رئيس - هو من أساسيات الأمن القومي للدولة.
هذه الحقيقية غير قابلة للجدل أو المساومة، وهو ما يعني ضرورة قيام الرئيس صالح بإخلاء المسجد من الحراسة التابعة له، وتسليمها للحرس الرئاسي؛ فلا حجة هنا للرئيس صالح برفض ذلك تحت ذريعة أنه هو من قام ببناء الجامع، وأن مؤسسة الصالح التابعة له هي من تشرف عليه؛ فهذه الحجة مرفوضة للأسباب الأمنية التي ذكرناها؛ فالجامع لا يقع في قرية بيت الأحمر (قرية الرئيس صالح) أو أي منطقة أخرى، يمكن للرئيس صالح أن يشرف ويسيطر عليه دون مشاكل.
من هنا؛ فإن مطالبة الحرس الرئاسي بالسيطرة على الجامع عمل مشروع ولا يحتمل التأجيل والمساومة. ولكون الأمر يحمل هذا القدر من الشرعية والوضوح؛ فقد كان من الأجدر بالرئيس هادي أن تقتصر مطالبته بالسيطرة على الجامع تحت حجة الضرورات الأمنية فقط. وكان من الممكن أن تتم هذه المطالبة بهدوء ودون جلبة وضجة لا داعي لها، في حال قبل الرئيس صالح بالتسليم الطوعي والسلس للجامع، أو اتخاذ الإجراءات القانونية الصارمة ضد الرئيس صالح في حال رفض القيام بذلك. وكل هذه الأمور يجب أن تتم بشفافية، وضمن الأطر والمؤسسات القانونية والشرعية (وزارة الأوقاف، النيابة العامة، القضاء).
سردنا للحقائق السابقة أتى كرد فعل للملابسات التي رافقت، ولا تزال ترافق، عملية تسليم الجامع، فقد لوحظ أن تلك العملية قد أثيرت حولها الكثير من الإدعاءات. فقد قيل أن الجامع يُستخدم، أو اُستخدم لتنفيذ مخططات تخريبية، وأن هناك مجاميع مسلحة، وقناصة، وأسلحة نوعية مخبأة في الجامع.
ورغم أننا لا نستطيع أن ننفي، أو نؤكد هذه الإدعاءات؛ فإن الرئاسة مُلزمة في حال أصرت على سرد هذه الحجج أن تُقدم براهين عليها، وأن تُشكل لجنة من عدد متنوع من القوى السياسية، والقضاء، وبرفقة وسائل الإعلام لزيارة الجامع وملحقاته.
وهي في حال قامت بهذا الإجراء؛ فإنها تُنفي عن نفسها تهمة التهويل والفبركة وخلق قصص لا داعي لها، وفي الوقت نفسه تدين الرئيس صالح وتضعف موقفه، إذا ما ثبت صدق هذه الادعاءات. وفي حال لم يقم الرئيس هادي بهذا الإجراء، وأستمر فريقه بترويجها على شكل تسريبات، أو تصريحات مجهولة المصدر، فإن عملية تسليم الجامع ستخرج عن إطارها الشرعي، وتحول الرئيس السابق إلى ضحية، وتفقد الرئيس هادي مصداقيته.
يعتقد الحكام ذوي النزعات التسلطية أن احتكامهم للأطر الشرعية والقانونية اهانة في حقهم، وانتقاص من مقامهم السامي. كما أنهم يرون في ذلك الاحتكام، وكأنه دليل على ضعف وعجز وجبن. في المقابل يحتكم الحكام الواثقين من أنفسهم ومن شرعيتهم، في كل صغيرة وكبيرة للقانون؛ وهذا التصرف يعزز من شرعيتهم ويقوي من سلطاتهم. وفي حادثة الجامع التي نحن بصددها، يمكن للرئيس هادي، وفقا للقانون النافذ، أن يرسل الرئيس السابق صالح إلى السجن؛ في حال رفض تسليم الجامع لحراسة الرئيس هادي.
من مصلحة التسوية السياسية، والاستقرار في اليمن؛ تقصيص أجنحة الرئيس صالح وإضعافه، وحتى إخراجه الكامل من العملية السياسية؛ فلا يمكن أن تستقيم الأمور في ظل وجود رئيس بصلاحيات ناقصة، ورئيس سابق يزاحم هذا الرئيس في سلطاته، وربما خلق العراقيل أمام ممارساته لهذه السلطة، أو حتى مزاحمته على مكانته البروتوكولية. فالدولة الطبيعية لا تحتمل هذا الوضع تحت أي حجة أو ذريعة، فحتى في الدول الديمقراطية فإن الرؤساء السابقين، خاصة في الفترات اللاحقة لتركهم المنصب، يتوارون عن الأضواء، ولا يخوضون في الشأن العام. وينطبق هذا السلوك على الملوك الذين يتنازلون عن الحكم لأبنائهم بشكل طوعي.
غير أن تقصيص أجنحة الرئيس صالح ينبغي لها أن تتم بأكبر قدر من الحكمة والذكاء، فالرئيس السابق لازال له نفوذ كبير داخل مؤسسات الدولة، كما أنه لازال يملك الأنصار والمعجبين.
والحكمة السياسية تتطلب من الرئيس هادي أن يقوم بهذه العملية عبر الأطر الشرعية والقانونية، حتى يمنحها الشرعية والتأييد الشعبي، إلى جانب الابتعاد عن الرغبة في الإذلال، وتصفية حسابات شخصية، والانتقام لإهانات مخزونة في الذاكرة، فأعمال من هذا القبيل ليس فقط غير أخلاقية، ولكنها تهدد الاستقرار والتسوية السياسية، وتخلق التعاطف مع الرئيس السابق، حتى من قبل خصومه؛ فالثقافة اليمنية في مجملها تستهجن عملية إذلال الأعداء، وتحديدا أصحاب المراتب العليا. كما أن ليس من مصلحة الرئيس هادي الدخول في معركة مفتوحة مع الرئيس صالح، وبالأخص في الأوقات الحالية.
يطالب البعض بأن يزال أسم صالح من الجامع، ومع أن هذا الأمر يحمل الكثير من الوجاهة بالنظر إلى أن الجامع بُني لأغراض دنيوية وسلطوية، ولم يكن ناتج عن ورع أو تقوى مشهودا بها للرئيس السابق. إلا أن هذه المطالب ليس لها من أهمية سياسية تذكر، ومن ثم فلا داعي لتغيير أسم الجامع، وافتعال مشكلة لا حاجة لها.
فعلي عبدالله صالح كان جزء من تاريخ اليمن بخيره وشره، والمسجد هو جزء من هذا التاريخ الذي لا يمكن تغييره أو شطبه لمجرد تغيير أسم الجامع أو غيرها من التسميات.
أن التزام الرئيس هادي بالإجراءات الشرعية والقانونية في قضية الجامع أو أي قضية أخرى تعزز من سلطته، وتضعف من نفوذ الرئيس السابق وتعري مواقفه، أما أعمال البلطجة، وفبركة القصص فإنها تفقد العمل شرعيته، وترفع من رصيد الرئيس صالح وتحوله إلى ضحية، وربما بطل في نظر البعض.