في دورات العنف المنظمة التي تقوم بها الجماعات الدينية، على اختلاف أيدولوجياتها، فإن أخطر ما تقوم به هذه الجماعات، علاوة على إزهاق الأرواح، إيجاد الأرضية الأخلاقية لاستهداف الآخر، عبر خطاب إعلامي يتبنى فكرة التطهير، خياراً إنسانياً ووطنياً. وفي ظل غياب الدولة، كما في اليمن، وغياب "جهاز الأمن القومي" الذي لا ينشط إلا للتنكيل باليمنيين، تصبح أهمية خاصة لتحليل هذه الرسائل وقراءة ردود فعل اليمنيين، كونها استقراء لحالة اللامبالاة الجمعية في تلقي أخبار الانفجارات والاغتيالات.
هكذا، ومنذ أسبوعين، يردد اليمنيون خبر قيام أعضاء تنظيم القاعدة في مدينة رداع، المدينة اليمنية الواقعة تحت قبضة القاعدة، بصلاة الغائب على 100 حزام ناسف، وتوزيعها على مناطق الجمهورية. ولم يمضِ وقت على ترديد الخبر، حتى تم اختباره في انفجار المركز الثقافي في مدينة إب في ديسمبر/كانون الأول الماضي الذي استهدف المحتفلين بالمولد النبوي، وذهب ضحيته 33 قتيلاً، وانفجار آخر في مركز للحوثيين في ذمار، وقتل فيه خمسة أشخاص، واستهداف كلية الشرطة ومقتل 40 شاباً من طلاب الشرطة في مطلع يناير/كانون الثاني الجاري.
في هذا السياق المأساوي، يبدو عام 2015 في اليمن دورة استثنائية من العنف المتصاعد بقيادة تنظيم القاعدة، العنف الموجه، كما في حوادث سابقة، ضد الجيش اليمني وضد الحوثيين، وبغطاء طائفي. وفي حين تستقطب القاعدة عناصر جديدة، بذريعة مواجهة المد الشيعي المسلح، يستفيد الحوثيون، بدورهم، من تنامي قوة القاعدة للشرعنة أمنياً، لوجودهم قوة دينية مقاومة مسلحة، ما يجعل اليمنيين يعيشون بين طرفي كماشة القوى الدينية الأصولية المتصارعة على أرضية الوطن، وعلى تمثيل الحق الالهي.
ليست الحالة الدينية، بحد ذاتها، طارئة على الواقع اليمني، فهي موجودة منذ سنوات طويلة، ومتجذرة اجتماعياً في مناطق عديدة، مستفيدة من انشغال القوى السياسية في صراعاتها الخاصة. إلا أن عام 2014 كان مرحلة تحول كبيرة في بنية هذه القوى ووظيفتها، حيث جرى خلاله التأصيل لها وتكريس وجودها حالة سياسية تتسيد المشهد الوطني، مترافقاً مع التسويق علناً، لارهابها بدوافع عديدة، خصوصاً أن عام 2014 كان، أيضاً، مفصلياً لسقوط هيبة الدولة وضرب وجودها في العمق، المتمثل في سقوط مؤسساتها، وسقوط هيبة الجيش اليمني، وانحساره إلى مجرد عصا في يد القوى السياسية المسيطرة. كما كان أيضاً عام تجريف القوى المدنية والأحزاب السياسية، واستقطابها طائفياً وسياسياً لصالح الجماعات الدينية، أو تدجينها (كما هو حاصل حالياً) للوقوف موقف المتفرج مما يجري. ويساهم هذا الخلل في التوازن المدني، بشكل أو بآخر، في تنامي العنف وبروز القوى الدينية قوة مسيطرة في الشارع اليمني، قادرة على فرض أجندتها السياسية بالاحتكام لقوة السلاح، ما يؤهل العام الجديد لأن يكون بامتياز عام صراع القوى الدينية، عام الأحزمة الناسفة والسيارات المفخخة والاغتيالات السياسية، وصلاة الغائب على جمهور اليمنيين.
الأغرب في مسلسل العنف الدائر الذي تحرص القوى الدينية المتقاتلة على تقديمه حتمية تاريخية ووطنية، أن المجتمع اليمني لم يستسلم وحسب لقوة السلاح والفكر الديني الأصولي، بل وتقبّل العنف المصاحب له حقيقة مسلمة ووضعاً طبيعياً، يكيف نفسه وفقه؛ ما يكرس سلبية رد فعل اليمنيين تجاه القتل اليومي الذي يستهدف حياتهم. وخير مثال على ذلك، عدهم التنازلي ما تبقى من سلسلة الأحزمة الناسفة، وكأنهم متفرجون، وليسوا مشروع ضحايا لهذه الأحزمة الناسفة. وأمام هذا المنطق اللاعقلاني، لا يختلف موقف اليمنيين كثيراً عن موقف النخب السياسية المدنية اليمنية التي تعاني من حالة نكوص شعوري، فلا ردود فعل سياسية، أو إنسانية، توازي فداحة إزهاق أرواح الضحايا الذين يموتون في هذه الحالة مرتين، مرة في حالة الموت الفعلي، وأخرى في تلاشي رمزية موتهم، ليصبحوا مجرد أرقام مخصومة من التعداد السكاني اليمني؛ ويتساوى في هذا الموت العبثي الضحايا المدنيون والعسكريون.
في واقع يمني يعاني من اختلالات كثيرة، أبرزها غياب سلطة سياسية قادرة على حماية المواطنين، يتعقّد الوضع السياسي والأمني والاقتصادي كل يوم أكثر؛ فبعد أن فشلت الدولة في تقديم حل سياسي جامع، في "مؤتمر الحوار الوطني الشامل"، وتطمين اليمنيين على مستقبلهم ومستقبل وطنهم، أصبحت دويلات الطوائف والأقاليم، اليوم، صاحبة المرجعية العليا في كيفية التعامل مع القوى الدينية، بالترحيب بها أو مقاومتها في إطار نزعة مناطقية أو طائفية ضيقة. وفي ظل هشاشة حضور الدولة والمجتمع المدني، يصير التطرف الديني واقعاً معاشاً، وليس مجرد ظاهرة يُخشى تناميها، بل وصار للتطرف مبشرون ومدافعون عنه ومبررون لانتهاكاته. إضافة إلى مشاريع الجهاديين الذين يُحتمل انضمامهم إلى اقتتال المتطرفين على السلطة؛ فبعد ضرب "حزب الإصلاح" على يد الحوثيين، من المتوقع أن يتحول قطاع واسع من قواعده المتطرفة إلى القاعدة تعويضاً عن فشل "الإصلاح" في الدفاع عن عناصره، وعن "مذهبهم السني". وبلا شعور بالمسؤولية والوطنية، تستمر قوى يمنية في استخدام التطرف الديني ورقة سياسية، كون هذه القوى لا تنشط إلا في ظل مناخ عنفي، ولا تتورع عن استثمار ذلك لخدمة مصالحها.
قبل سنوات من هذا القتل المشرعن، السياسي والديني، كان حدوث انفجار وسقوط قتلى كفيل بأن يوحد كل القوى السياسية المدنية والمجتمع، تحت مظلة وطنية رافضة هذا الفعل ومُدينة له، بل ورفع حالة الجاهزية المجتمعية والتعبئة النفسية لوقوع المجتمع ككل في دائرة الخطر، وإن الاعتداء على الفرد يعد اعتداء على المجتمع، ومن ثم تكون القوى المعتدية منبوذة اجتماعياً وسياسياً. أما اليوم، وعلى الضد من كل الأخلاقيات الإنسانية التي تشهد، في رأيي، حالة انتكاسة حقيقية، يتقبل المجتمع اليمني، مواطنون ومثقفون وأصحاب رأي وقوى سياسية، دورات العنف والقتل المجاني، ولا يحركون ساكناً إزاءه. قبول مجتمع ما للعنف وتمظهراته السياسية والدينية والطائفية مؤشر خطير على انحدار وعيه ووعي نخبه المدنية التي حتى، وإن لم تشارك بشكل مباشر، فإنها تكون متواطئة على القتل.
في 2015، عام الأحزمة الناسفة، عام جنون القوى الدينية، عام الموت المجاني، سيستمر اليمنيون الطيبون، على الأغلب، بمتابعة ما تبقى من سلسلة موتهم، وبالصمت نفسه وقلة الحيلة، سيتابعون تشييع أنفسهم وآدميتهم في صلاة على الضمير اليمني الغائب.