الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه (وبعد)
فإن الإسلام يعتبر الأسرى من الفئات الضعيفة التي تستحق الشفقة والإحسان والرعاية ، مثل المسكين واليتيم، ويوجب معاملتهم معاملة إنسانية ، تحفظ كرامتهم، وترعى حقوقهم ، وتصون إنسانيتهم. وقد أورد القرآن الكريم تعبيرا غاية في الحض على اللطف بالأسير وحسن التعامل معه، والبذل في سبيله، في سياق وصفه سبحانه للأبرار المرضيين من عباده ، المستحقين لدخول جنته ، والفوز بمرضاته ومثوبته ، "وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً * " (الإنسان:8-10). ولم يكن الأسير حين نزلت الآية إلا من المشركين.
ويخاطب الله نبيه محمدا عليه الصلاة والسلام في شأن أسرى بدر فيقول: " يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ" (الأنفال:70).
أما الأحكام المتعلقة بالأسرى ، وماذا يجب أن نصنع معهم ، فقد نص القرآن على ذلك في آية صريحة من آياته في السورة التي تسمى سورة محمد، وهي قوله تع إلى :"فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا"(محمد:4).
وقد ذكر أبو عزيز بن عمير، كما في الطبراني الكبير وغيره، قال: "كنت في الأسارى يوم معركة بدر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «استوصوا بالأسارى خيرا»، وكنت في نفر من الأنصار، وكانوا إذا قدموا غداءهم وعشاءهم أكلوا التمر وأطعموني الخبز". وقد كان خبز القمح طعاما نادرا يشتهيه الناس في ذلك الزمان.
وذكرت كتب السيرة ( ابن هشام والسهيلي وغيرهما) أن ثمامة بن أثال الحنفي قد أُسر، "فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإحسان إليه، ثم رجع صلى الله عليه وسلم إلى أهله فقال: اجمعوا ما كان عندكم من طعام فابعثوا به إليه، وأمر بلقحته [ناقة ذات لبن] أن يُغدى عليه بها ويراح".
في هديه صلى الله عليه وسلم في الأسارى
قال ابن القيم: كان يمن على بعضهم ، ويقتل بعضهم ، ويفادي بعضهم بالمال، وبعضهم بأسرى المسلمين ، وقد فعل ذلك كله بحسب المصلحة ، ففادى أسارى بدر بمال ، وقال : (لو كان المطعم بن عدي حيا ، ثم كلمني في هؤلاء النتنى، لتركتهم له). وهبط عليه في صلح الحديبية ثمانون متسلحون يريدون غِرَّته (أي: غفلته)، فأسرهم ثم من عليهم .
وأسر ثمامة بن أثال سيد بني حنيفة ، فربطه بسارية المسجد ، ثم أطلقه فأسلم .
وجاء عن الحسن البصري : أنه لا يحل قتل الأسير صبرا، وإنما يمن عليه أو يفادى. أخرج ذلك الطبري عنه، وأبو جعفر النحاس.
وهذا هو الذي أرجحه من استقراء النصوص، ورد بعضها إلى بعض: أن الحكم في معاملة الأسرى هو ما قرره القرآن بعبارات صريحة فيما جاء في (سورة محمد) في قوله تعالى: (فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوَهُمْ فَشُدُّوا الوَثَاقَ فَإِمَّا مَناًّ بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الحَرْبُ أَوْزَارَهَا) [محمد: 4]، فقرر القرآن واحدة من خصلتين في معاملة الأسرى بعد شد وثاقهم:
إحداهما: المن عليهم بإطلاق سراحهم لوجه الله تعالى، بلا مقابل، إلا ابتغاء مثوبة الله ورضاه، وتحبيب الإسلام إليهم، حين يرون حسن معاملة المسلمين لهم.
والثانية: مفاداتهم بمال، كما قبل النبي -صلى الله عليه وسلم- فداء أسرى بدر بالمال. وكانوا نحو سبعين أسيرا، أو بأسرى من المسلمين، كما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- في غزوات أخرى.
وأحب أن أؤكد أنه لا يجوز أن تحمل تصرفات بعض المسلمين، ممن ضاق أفقهم، أو ساءت تربيتهم على الإسلام.
فمن المقطوع به: أن الإسلام حجة على المسلمين، وليس المسلمون حجة على الإسلام.. وكم ابتلي الإسلام بأناس ينسبون إليه، ويحسبون عليه، ولكنهم يؤذونه بسلوكهم أكثر مما يؤذيه أعداؤه الذين يكيدون له خفية، أو يقاتلونه جهرة، وقديمًا قالوا: عدو عاقل خير من صديق أحمق.
وقال الشاعر:
لكل داء دواء يستطب به .. إلا الحماقة أعيت من يداويها
كما أن هذا التعصب الذي نراه ونلمسه عند بعض المتدينين، كثيرًا ما تكون أسبابه غير دينية، وإن لبس لبوس الدين، بل قد تكون أسبابه -عند الدراسة والتعمق- أسبابًا اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية، ولهذا تراه يظهر في بعض المناطق دون بعض؛ لأن الظروف الاجتماعية بملابساتها وتعقيداتها الموروثة، هي التي بذرت هذه البذرة وساعدت على نموها.
ومن رأى مصلحة الإسلام ومصلحة أمته في غير هذا التوجه، وأصر أن الإسلام يأبى إلا قتل الأسارى ومعاملتهم بقسوة وعنف - فهو أعمى عن الحقيقة، وعن المصلحة، كما هو أعمى عن الإسلام وعن العصر.
وإن المرء ليعجب من هؤلاء الذين يصورون الإسلام وشريعته، كأنه وحش كاشر عن أنيابه، يريد أن يفترس الناس كل الناس، فهو يحاربهم وإن سالموه، ولا يكف عنهم وإن كفوا عنه، وإذا انتصر عليهم أخذهم بالشدة التي لا تلين، والقسوة التي لا ترحم، ومن ذلك: معاملته للأسرى.
هذا مع أن "الرحمة" هي أليق عنوان لهذا الدين، الذي خاطب الله رسوله بقوله:
(وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) [الأنبياء:107> وعبر الرسول الكريم عن نفسه، فقال: "إنما أنا رحمة مهداة".
وقد كان العرب منذ جاهليتهم يفاخرون بالمن على الأسرى، ويهجون القبائل الأخرى بأنها تقتل الأسرى، وقال في ذلك أحدهم:
ولا نقتل الأسرى، ولكن نفكهم إذا أثقل الأعناق حمل المغارم!
وقال آخر:
ملكنا فكان العفو منا سجية فلما ملكتم سال بالدم أبطحُ
وحللتمو قتل الاسارى وطالما غدونا عن الأسرى نمن ونصفح
فحسبكمو هذا التفاوت بيننا وكل إناء بالذي فيه ينضح
أما أن نرى قتل الأسرى بهذه الطريقة الوحشية تارة بالذبح ، وتارة بالإحراق، فهذا ما يخالف هدي الإسلام في القتل، كما جاء عند مسلم وأحمد وغيرهما من أصحاب السنن، عن شداد بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا قتلتم فأحسنوا القتلة ".
وكذا من حديث حمزة بن عمرو الأسلمي، عند أحمد وأبي داود وغيرهما، قال صلى الله عليه وسلم: "فإنه لا يعذب بالنار إلا رب النار".
مسؤولية المجتمع الدولي من هذه الأحداث:
وإننا مع إنكارنا لممارسات تنظيم الدولة، التي تعمد إلى تشويه صورة الإسلام، وطمس معالمه، وإخفاء محاسنه، لابد أن نذكر المجتمع الدولي، والقوى العظمى في العالم، ومجلس الأمن، والأمم المتحدة أنهم شركاء في ظهور هذه التنظيمات المتطرفة.. تلك التنظيمات المجهولة النشأة، والتي تثار الكثير من الشكوك حول أهدافها، ومصادر تمويلها وتسليحها، وتسهيل وصول المقاتلين إلى صفوفها!!
لقد شاهدتم جميعا الشعب السوري يقصف بالطائرات الحربية، والبوارج البحرية، والدبابات والبراميل المتفجرة والأسلحة الكيمياوية، ويذبح من الوريد إلى الوريد، فتزهق الأنفس، وتتقطع الأوصال، وتبتر الأطراف، وتتمزق الأشلاء، وتنتهك الأعراض، وتهدم البيوت على رؤوس ساكنيها، دون أن تحركوا ساكنا.
إن تراخي المجتمع الدولي مع رئيس يقتل شعبه بما يجب أن يحميهم به، هو ما أنتج هذه التنظيمات المتطرفة، وما وفر لها البيئة الخصبة.
لم يقض مضاجع العالم الحر: مقتل مئات الآلاف من السوريين بأبشع أنواع القتل، ولم يستثر حفيظة العالم المتمدن تغول الميليشيات الطائفية، التي تقتل وتهجر عشرات الآلاف على الهوية في العراق، ولم يذرف المجتمع الدولي دمعة صادقة على ضحايا العدوان الصهيوني المتكرر على أبناء فلسطين، بما يعكس ظلم هذا المجتمع الدولي ونفاقه!!
إذا كان المجتمع الإسلامي، والمجتمع الدولي جادين في محاربة هذه الظاهرة، فعليهم أن يعملوا على علاج أسبابها، بدلا من أن يستهلكوا أوقاتهم وطاقتهم في التحدث عن مظاهرها. عيلهم أن يعملوا على رفع المظالم، ونشر الحريات، ليكونوا متسقين مع مبادئهم وضمائرهم.