النِّفاق الأميركي-الإيراني في اتهام السعودية
بغض النظر عن حيثيات إعدام المعارض السعودي الشيعي، نمر النمر، ومسبباته وعدالته، فإن للمملكة العربية السعودية، ودول عربية أخرى، كل الحق أن تغتاظ من الموقفين الإيراني والأميركي حيال المسألة، فإيران، عملياً، جعلت من نفسها ناطقاً باسم شيعة العالم وحامياً لهم، متجاوزة في ذلك على مفهوم السيادة الوطنية، وهو الأمر الذي تنافح عنه في حالتها، وتصر على احترامه، كما رأينا في مفاوضاتها في الملف النووي.
أما الولايات المتحدة، فإنها أعمت بصرها، مختارة، عن الإعدامات التي تنفذها إيران ضد معارضين سياسيين، وكثيرون منهم من الأقلية السُنِّيَةِ، ولم نسمع لها يوماً اتهاماً لإيران بتذكية الطائفية في المنطقة، على خلفية تلك الإعدامات. وبلغة الأرقام، واستناداً إلى مصادر أممية وحقوقية، فإن إيران هي الثانية عالمياً من حيث عدد أحكام الإعدامات التي تنفذ سنوياً، بعد الصين، في حين تحل السعودية ثالثاً. وحسب المصادر نفسها، فإن عدد من أعدمتهم إيران العام الماضي، في محاكماتٍ لا تقيم وزناً للعدالة، ولا تحترم المعايير الدولية، تجاوز الألف، في حين أن عدد من أعدمتهم السعودية عام 2015 هم في حدود 153 شخصاً. أما من الناحية النسبية، فإن إيران هي الدولة الأكثر تنفيذاً لأحكام الإعدام في العالم، إذا ما قيس ذلك إلى عدد السكان.
الأكثر لفتاً للانتباه، في سياق الموقفين الأميركي والإيراني، الناقد للموقف السعودي في إعدام النمر، أن كلا الطرفين لم تسمع لهما همساً في عمليات قتل وتجويع وإبادة، تمارسها أدوات إيران من الشيعة في المنطقة في حق سُنَّة. وقبل الاسترسال في الموضوع، أنبه هنا إلى موقف مبدئي أرفض، بمقتضاه، أن يباح دم إنسان، أو أمنه وسلامته، أو حريته وكرامته، بناء على دينه أو مذهبه أو لونه أو عرقه أو جنسه، غير أنَّ المعايير المزدوجة في هذا السياق منبعها، بالدرجة الأولى، أميركي-إيراني، والسكوت على ذلك يكون من قبيل انعدام الأمانة والموضوعية، وهو لن يؤديَ إلا إلى تسعير نيران الفتنة الطائفية، لا وأدها، فبما أن إيران تعد نفسها ناطقة وحامية وزعيمة للشيعة في العالم، بما في ذلك العرب منهم، فإنها، إذن، مسؤولة مسؤولية مباشرة، وهي كذلك، عن الحصار الإجرامي الذي تضربه قوات النظام السوري ومليشيات حزب الله على مدينة مضايا السورية في ريف دمشق الغربي. ففي مدينة مضايا، توفي، إلى اليوم، أكثر من 32 شخصا، من جرّاء سوء التغذية والمجاعة المتفشية في المدينة، إلى الحد الذي أكل فيه المحاصرون القطط والكلاب والنفايات والحشائش. المحاصرون في مضايا، وكذلك الزبداني وبقِّين، مدنيون عرب سوريون سُنَّة، ومرة أخرى أعتذر عن تعريف الضحية وتحديد هويته، لكنه الزمن الرديء الذي أصبح فيه إبادة جنس معين من البشر أمراً مقبولاً في المعايير الدولية، في حين أن إعدام رجل واحد، يثير الدنيا ولا يقعدها. إنه ليس زمناً رديئاً فحسب، بل إنه كذلك مما جنته أيدينا، نحن العرب، حتى هُنَّا إلى هذا الحد، ولم لا، ونحن نسفك دماءنا بأيدينا، كما في سورية والعراق واليمن وليبيا ومصر، ونسكت على سفكها بأيدي الدولة العبرية منذ عقود طويلة.. إلخ. إذن، المُحاصرون الذين تتم إبادتهم في سورية هم عرب سُنَّةٌ في وطنهم، والمُحاصِرُ المجرم، منتسب إلى المذهب الشيعي، وهم أدوات ووكلاء إيرانيون. والأمر نفسه ينسحب على ما يجري في العراق واليمن، لكن العالم لا يرى ذلك، أو يتعامى عنه، تماماً كما يتعامى عن جرائم إسرائيل وروسيا والصين، أو جرائم الولايات المتحدة، وغيرها من دول الغرب، بحق شعوب العالم في غير مكان.
كل ما سبق من جرائم تقترفها إيران وأدواتها بحقنا، لا تلقي لها الولايات المتحدة، ولا الغرب
"إيران هي الثانية عالمياً من حيث عدد أحكام الإعدامات التي تنفذ سنوياً، بعد الصين، في حين تحل السعودية ثالثاً" بالاً، فمعيار هؤلاء، أنه ما دام لا أحد يبكي تلك الأرواح التي تزهق، ويطالب بحقها، ويقوم بأخذه، فإنها تصبح غير ذات معنى في سياق السياسة المتوحشة المفتقدة كل قيمة إنسانية. كل ما يعني الولايات المتحدة، اليوم، هو تركيز الجهود على محاربة "داعش"، وهي لا تريد من السعودية، أو غيرها، أن تفسد عليها "التحالف الدولي" لمحاربته وهزيمته، وإيران ضمن هذا السياق، أصبحت شريكاً، لا خصماً، في العراق وسورية، هذا ما يقوله مسؤولون أميركيون اليوم.
لم تتوان إيران عن خرق سيادة العراق، وتنصيب أزلامها فيه، بعد أن غزته الولايات المتحدة ودمرته، ولم تجد الأخيرة، تحت إدارتي بوش الابن وباراك أوباما، غضاضة في التسليم بالنفوذ الإيراني في العراق والقبول به. بل إن الولايات المتحدة لطالما سكتت على الإجرام الطائفي الذي أشرفت عليه حكومات العراق، بعد الغزو، والمليشيات الشيعية التابعة لها، بحق المواطنين السُنَّة. وعندما أُعدم الرئيس العراقي الراحل، صدام حسين، صبيحة يوم عيد الأضحى عام 2006 في بغداد، على وقع شعاراتٍ شيعيةٍ طائفية، لم نَرَ غضبة أميركية، بذريعة التوتير الطائفي، على الرغم من أنه كان على أشده حينها، وعلى الرغم من أن العراق كان تحت احتلالها حينئذ، وهي من سلمت صدام إليهم. وقبل ذلك وخلاله وبعده، لا تَسْمَعُ للولايات المتحدة صوتاً يُعْتَدُّ به يعترض على عبث إيران في لبنان والبحرين، وإجرامها المباشر في سورية، بل تعترف الولايات المتحدة بنفوذ إيران في سورية وتقبل به، في حين تطالب السعودية بوقف تدخلها العسكري في اليمن، الذي جاء بناء على طلب من الحكومة الشرعية، والقبول بالحوثيين، أحد مخالب إيران في المنطقة، طرفاً أساسياً وقوياً في معادلة الحكم، بما قد يؤدي إلى إنتاج أنموذج حزب الله في لبنان، أين ابتلع تنظيمٌ دولة.
السعودية، التي تراقب منذ سنوات الإزاحات في المواقف الأميركية في المنطقة، وَتَبَدُّلَ مقاربات تحالفاتها، قررت أخيراً، ومنذ مطلع العام الجاري، مع تولي الملك سلمان بن عبد العزيز مقاليد الأمور، ألا تضع كل بيضها في السلة الأميركية المثقوبة. فكان أن قادت، في مارس/آذار الماضي، تحالفاً عربياً لإعادة الشرعية في اليمن، من دون انتظار ضوء أخضر من الولايات المتحدة. ثُمَّ إنها صعّدت، بالتنسيق مع كل من قطر وتركيا، من دعمها المعارضة السورية التي تقاتل نظام الأسد بدعم من حليفيه الروسي والإيراني. وهي الآن، كما أعلن وزير خارجيتها، تتصدى لأنشطة إيران المزعزعة للاستقرار في المنطقة وتدخلاتها في دولها. وكما صرّح أحد المسؤولين السعوديين، لصحيفة أميركية، اشترط عدم ذكر اسمه، "لقد طفح الكيل"، ليس من إيران فحسب، بل ومن الولايات المتحدة التي "تتراجع"، كل مرة، أمام عبث إيران وسياساتها التخريبية. وألمح إلى أن المملكة لن تنتظر إذناً أميركياً لحماية أمنها وأمن إقليمها من أي تهديد إيراني.
ختاماً، سيخرج علينا، كالعادة، من يقول: أليست إسرائيل هي المستفيدة من التحشيد والتوتير الطائفي في المنطقة؟ أليست إيران عدواً لإسرائيل، وهي تدعم المقاومة الفلسطينية!؟ الجواب على السؤال الأول، نعم، إسرائيل، هي المستفيدة من التحشيد الطائفي في المنطقة، لكن إيران وأدواتها هم أكثر من يغذّون نيران الطائفية العمياء هذه، وبالتالي يفيدون إسرائيل. وقفت جُلُّ الشعوب العربية، بأغلبيتها السُنِّيَة بالمناسبة، في الأمس، مع إيران في صراعها مع الغرب على أرضية برنامجها النووي، كما وقفت جُلُّ الشعوب العربية مع حزب الله في مقاومته إسرائيل. حينها، لم تكن الغالبية تلقي بالاً لدعوات الطائفية التي كان يطلقها بعض النظام الرسمي العربي، لأن الشعوب كانت لديها مناعة من فيروس الطائفية، إلى أن جاءت إيران وأدواتها في لبنان وسورية والعراق واليمن، وحقنت الأمة به، فكان أن ضعف الجسد ووهن، ما مكّن أعداء الأمة من النفاذ إلى صلب مناعته وقوته. وفيما يتعلق بالسؤال الثاني، المتعلق بدعم إيران وحزب الله للمقاومة الفلسطينية، فبغض النظر عن دقة ذلك اليوم ومداه، فإن الإجابة عليه سهلة، فزعم التصدي لإسرائيل والدفاع عن فلسطين لن يُطَهِرَهُما من سفك الدماء السورية والعراقية واليمنية، ولن يشفع لهما عندنا، نحن الشعوب.