عن الأستاذ سأحدثكم!
حديث أكاد أنفجر به، سأخوض فيه علنا لأول مرة عن "الأستاذ" خالد محفوظ بحاح نائب رئيس الجمهورية اليمنية رئيس حكومة الكفاءات سابقا، والذي شرفت بالعمل معه طيلة عامين في المكتب الإعلامي الخاص به.
لا يستطيع أحد أن يثبت عكس نزاهته وشجاعته وحنكته إلا متحامل، فقد كان يحظى باحترام خصومه وغيرة أصدقائه، آمن بالدولة المدنية الحديثة، عشق صنعاء عشق الأوفياء، وأعطى عدن مكانتها، وحملت حكومة الكفاءات منذ تشكيلها مشروعا تنمويا لصعدة وتهامة وسائر محافظات البلاد من أقصاها إلى أقصاها، غير أن الانقلاب الحوثي لم يعط تلك الحكومة الفرصة الكافية، على الرغم من كل الإرهاصات التي تؤكد الأمل الذي حملته لليمن عموما.
البعض يضيق ذرعا بواقعية الأستاذ وصراحته، ويفسرها نزعة للقضية الجنوبية، فقد تحدث عنها بصراحة وإيمان بعيدا عن الشطط، والتقاء القيادات الجنوبية بكل ثقة من علي سالم البيض وعلي ناصر وحيدر العطاس وعبدالرحمن الجفري إلى كل القيادات الشابة في الميادين، ويتحدث علنا عن كل تلك اللقاءات، يؤمن بأن القضية الجنوبية أم القضايا، ولن تنعم اليمن بالإستقرار دون حلها جذريا بشكل عادل بعيدا عن شكليات الحلول، كان جسورا يظهر ما يبطن، يقول كلمته بكل أمانه ومسؤولية ويمضي.
حاور الحوثيين لقرابة الشهرين أثناء إقامته الجبرية دون أن ينكسر، وخرج من بيته بكل شرف وفخر بعد أن كتب وصيته إيمانا بالقدر، وفي لحظة افتقار معرفي بأبجديات السياسة وحسن إدارة الأزمات.. راحت بعض المطابخ الإعلامية تثير الكثير من الأسئلة الساذجة عن اتزانه.. كيف يصف الحوثيين ب "الاخوة الحوثيين"؟!، وها نحن إلى اليوم نجني بعض حماسة التطرف اللفظي وكيل الشتائم والتنظير الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، وطاولات المشاورات من جنيف إلى الكويت ضاقت بنا ذرعا دون جدوى.
ما زلت أتذكر جيدا حديث رئيس الوزراء السابق الأستاذ محسن العيني عندما زرناه في منزله بالقاهرة برفقة الأستاذ وبعض الشخصيات، قال الأستاذ العيني "لا يمكن أن تدور العجلة في اليمن إلا بشراكة جميع الأطراف والأطياف، وطالما يفكر كل طرف بإلغاء الآخر ويسعى للقضاء عليه فإن الصراع سيستمر".
أطلق على اختلافه مع رئيس الجمهورية عبدربه منصور هادي في بعض القضايا والسياسات "تباينا في وجهات النظر"، وطوال مسيرته كان مهذّبا وأمينا، لم يخرج يوما في لفظ جارح أو مسيء، لا قبل إقالته ولا بعدها، بل كان يأتي على نفسه كثيرا، ويغلّب المصلحة العامة مع كل تجاوز واضح لصلاحياته أو تقليل منها، وهو الذي وقف مع الرئيس هادي في أحلك الظروف وأصعبها، يوم أن هبّ لنجدته عشية حصاره في صنعاء حين اقتحم الحوثيون قصر الرئيس هادي وحاصروه، خرج يومها بحاح في عسكره الذين حاولوا جاهدين منعه من الذهاب لكنه اصر على ذلك، وعرّض نفسه لمحاولة الاغتيال الشهيرة في 19 يناير 2015م قبل أن يتم بعد ذلك فرض الإقامة الجبرية عليه في بيته، وظل وفيا للشرعية طوال تلك الفترة تحت تهديد الحوثين وحصارهم.
أول مسؤول رفيع المستوى يعود إلى عدن بعد تحريرها بأيام في الأول من أغسطس 2015م، يوم أن كانت مدينة أشباح خاوية على عروشها، وتردد عليها حتى استقر فيها مع كافة أعضاء الحكومة، وتعرض مقر اقامته للعديد من محاولات التفجير والاستهداف المسلّح، لعل أبرزها نجاتنا جميعا من الموت بأعجوبة في الحادثة المشهورة يوم تفجير فندق القصر 6 اكتوبر 2016م، وأسالوا الأستاذ راجح بادي عن أهوال ذلك اليوم.
له مع محافظة تعز مواقف كثيرة، وكان مؤمن بأهمية تحريرها رغم كل التحديات وكان يقصد تماما ما قاله في القمة العالمية للحكومات فبراير 2016م، يوم أن أعلن مع الإعلامي المعروف "تركي الدخيل" بأن ساعة الصفر قد اقتربت جدا، كان منشغل بالتخطيط لذلك بمعية التحالف بعيدا عن حديث الاستهلاك الإعلامي، لولا تفاصيل محلية لست المخوّل بالحديث عنها.
كنت أيضا حاضرا في لقائه الأول بحمود المخلافي قائد مقاومة تعز وكذا محافظها المعمري وعدد من أعضاء مجلسها المحلي بالمعاشيق في عدن 28 يناير 2016م، وكيف ناقشوا بإستفاضة كل الخطط والمساعي الحكومية الإغاثية وبذل الممكن لرفع الحصار عنها وتحريرها، خرج المخلافي يومها بانطباع آخر عن شخصية دولة الرئيس بحاح، وتحدث بأن الأمور في طريقها إلى التحرير وأن لقاءهم بالأستاذ "أثلج صدورهم" في تصريح موجود إلى الآن على "اليوتيوب".
أيضا جمعه أكثر من لقاء مع سياسيي تعز وأعيانها، وأتذكر كيف فاضت مشاعر القيادي الناصري المعروف ومستشار رئيس الجمهورية سلطان العتواني حين لمس صدق وصراحة الأستاذ، وما زلت محتفظ بصورة العناق الحميمي بينهما وسط حضور مسؤلين وسياسين وإعلامين من ابناء المحافظة.
من وفاء الأستاذ لحضرموت أن أعطاها ما يمكنه من الاهتمام دون أن يظلم غيرها، فبمعية التحالف هندس لتحريرها وكذا عدد من المخلصين في مقدمتهم اللواء فرج سالمين البحسني، والذي اصطحبه قبل ذلك في نزوله الأول إلى عدن وبعدها إلى دولة الإمارات، يوم أن كانت المكلا تحت سيطرة تنظيم القاعدة، كانت للأستاذ جهود تنسيقية كبيرة استغرقت أشهر قبل التحرير، ودائما ما يقول لي في ذلك الوقت "هناك أمور لا ينبغي التصريح عنها الآن، لأن في الإفصاح عن التخطيط لها تأجيل لتحقيقها، ولك أن تختار بين الأمرين"، ودائما ما يقول أيضا بأنه لو تحدث وعمل لحضرموت لن يفيها حقها، نظير ما قدمته للجنوب والشمال وعلى حساب نفسها، وبكل تأكيد طموح الحضارم اكبر مما تحقق، غير أن ظروف البلاد عامة تنعكس بطبيعة الحال على كل المناطق.
حرص أن يكون قريب من كل المحافظات، وخطب في ديوان محافظة مأرب وسط تحذيرات الجميع من ذهابه إليها ولكم أن تعودوا لمحافظها الشيخ سلطان العرادة للحديث عن ذكريات يوم 22 نوفمبر 2016م.
وصل إلى سقطرى وترابها لم يجف من إعصار "تشابالا"، وإلى "باب المندب" ورائحة البارود تملئ الساحات، وحاول جاهدا مع أعضاء الحكومة بذل الممكن لدعم الاستقرار في المحافظات المحررة، وأفتتح مسار عودة المدارس في عدن 5 اكتوبر 2016م، وفاضت عيناه بالدموع في طابور الصباح بين جموع التلاميذ العائدة إلى مقاعد الدراسة بعد حرب لا يعرفون عن أسبابها شيء.
بدأ بوضع الأسس الصحيحة في مختلف القطاعات الخدمية وقطاع النقل والميناء والمطار أثناء رئاسته للحكومة، منها ما أثمر بعد ذلك ومنها ما تعثّر، وأصر على فتح جامعة عدن، وحضر حفل تخريج الدفعة الثانية بمعسكر رأس عباس في 3 فبراير 2016م مع الشهيد اللواء سيف أحمد اليافعي ومحافظ عدن اللواء عيدروس الزبيدي، وكرّس العديد من الجهود للبنية العسكرية والأمنية، وبدء دمج المقاومة في الجيش بخطوات عملية، وتم استيعاب الكثير منهم بعد الإجراءات المحددة لذلك.
تحظى شخصية الأستاذ بثقة كبيرة وسط قادة دول الخليج وإدارة الأمم المتحدة وسفراء الدول العظمى إلى يومنا هذا، كما تربطه علاقة وطيدة بالمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، ومن القصور البيّن تصنيف القيادات الوطنية ونسب ولاءاتهم لغير أوطانهم وشعوبهم، وتلك محاولة غبية لتشويه مكانتهم الراسخة.
يشكل الأستاذ لدى العديد من الشباب بارقة أمل ومصدر للتفاؤل بشهادة كل من عرفه عن قرب، وحتى بعد إقالته ظل قريب من الشأن العام مكرّسا جهوده الشخصية وعلاقاته الواسعة لخدمة هذا البلد، وبطبيعة الحال فإن شخصية الأستاذ ليست معصومة ولا هو بمَلَك في رحلة مشواره، وسنة الحياة أن يجتهد الإنسان فله الأجران أن أصاب، وله أجر الاجتهاد إن أخفق.
لا يحمل حديثي هذا انتقاصا من أحد أو لوما لطرف، بل حسرة كبيرة أن تتوارى عن المشهد شخصيات بهذه الكفاءة وهذا الإجتهاد، وأنا على يقين أن الأستاذ وعلى مستواه الشخصي ينعم براحة البال بعكس ما كان عليه الحال حين كان في رأس الحكومة، لكن حظ هذه البلاد ليس جيدا دائما في استثمار كوادرها، ومنصتها الأولى لا تحتمل ذلك على ما يبدو.