في خضم الحرب على غزة بثّت فضائية "العربية" تقريراً بدا فيه أنها تدافع عن أدائها الإعلامي في تغطية هذه الحرب، وكانت خلاصة ما أراد هذا التقرير قوله إن القناة "متوازنة" في تغطيتها، ومن قبيل هذا التوازن أنها تستضيف أشخاصاً متناقضين في مواقفهم السياسية، فهي تستضيف ممثلاً عن حماس كما تستضيف ممثلاً عن السلطة، تعكس وجهة النظر الفلسطينية مثلما تعكس وجهة النظر الإسرائيلية، وهكذا دواليك. ولم تكتف "العربية" بهذا التقرير الدفاعي عن النفس، لكنها أتبعته في اليوم التالي بتقرير آخر تؤكد فيه احترامها "لمشاعر المشاهدين" بعدم بثها صور القتل المفجعة،
وبذلك تكمل ما لم تقله في التقرير الأول، وهو أنها "متوازنة" حتى في ما تبثه من صور الضحايا، ولاسيما الأطفال منهم.
خرافة "التوازن"
بالتحديد، في حالة الحرب الجارية في غزة، بل على غزة، يفتقر هذا المنطق إلى الحدّ الأدنى من التماسك، حتى لا نقول إنه عملياً "يستغبي مشاعر المشاهدين" ولا يقيم أي وزن لعقولهم. ذلك أن "التوازن" عندما يكون هناك شعب بأكمله يتعرض للقتل اليومي، وعندما يكون هناك عدد هذا العدد الهائل من الضحايا من المدنيين، ولاسيما من الأطفال والنساء، هذا التوازن بعينه يصبح انحيازاً، لا نقول بالطبع إنه انحياز مقصود إلى المعتدى لكن ببساطة حين لا يكون انحيازاً إلى من يتعرض إلى الاعتداء، أي إلى الضحية، فإنه يصبح من حيث المبدأ انحيازاً إلى الجلاد.
لا تحتاج "العربية" إلى أن تكون "عروبية" ولا إلى أن تكون قومية ولا إسلامية، ولا إلى ما ذلك من توصيفات، بل تحتاج في الحدّ الأدنى إلى أن تكون مهنية، وهذه المهنية تبدأ من سؤال بسيط يفترض أن تطرحه على نفسها أمام حدث من قبيل الحرب على غزة: إلى جانب من تقف؟ لكن هذا السؤال وفقاً لمبدأ "التغطية النظيفة" الذي تعتمده "العربية" (علماً أنها مثل "الجزيرة" لديها أجندة سياسية واضحة تنفذها بكل إخلاص وأحياناً تكون ملكية أكثر من الملك في تنفيذها...) هذا السؤال لا يطرح من الأساس، بل تعتبر "العربية" إنه من العيب "المهني" طرحه. والنتائج العملية لعدم طرح سؤال كهذا هو أن "العربية" التي لديها مراسلون في غزة وفي الأراضي الفلسطينية المحتلة تبدو أقرب إلى تلفزيون محلي أوروبي يتلقى الأخبار المفلترة من وكالات الأنباء ويقوم بعرضها. لذلك مثلاً نرى مراسلة "العربية" من غزة جالسة دائماً في الاستوديو (وهذا ربما من مبادئ التغطية النظيفة) تعرض لنا ملخصاً عن الأحداث يمكن القيام به من أي مكان في العالم. ولا نرى مراسلاً يذهب إلى مكان ساخن مثل مستشفى "دار الشفاء" المليئة بالقصص والصور المروعة، بالضبط لأن "العربية" لا تريد (خدمة لمشاعرنا فقط) أن ترينا مثل هذه المشاهد. لا داعي إلى القول إن هذا، حتى في أكثر التوصيفات اعتدالاً، يعدّ فشلاً إعلامياً ولا صلة له إطلاقاً بكلمات من قبيل "الموضوعية" و"التوازن". تستطيع "العربية" بالفعل أن تكون متوازنة فتنقل لنا مثلاً صور الضحايا على المقلب الإسرائيلي، أي حتى الآن صور السكان الإسرائيليين في "الملاجئ خمس نجوم"، أو صور من أصيب منهم ب "الهلع" أو حتى صور من جرح منهم (وهم أربعة حتى الآن، على الأغلب عادوا جميعاً إلى منازلهم)، وتنقل لنا في المقابل صور الضحايا ومن تسميهم "القتلى" على الجانب الفلسطيني. الأمر ليس صعباً إلى هذا الحدّ، ولا يحتاج إلى مراجعة كتيبات مبادئ المهنية العالية التي تلتزم بها "العربية" بحذافيرها.
عدم عرض الصور
في حالة غزة بالتحديد يصبح عدم عرض الصور على بشاعتها وفداحتها في خدمة استمرار الحرب على الأقل، إن لم نقل إنه يصب في صالح الطرف المعتدي الذي يحاول خداع العالم بالقول إنه لا يستهدف المدنيين. يجب ألا ننسى أن المجتمع الدولي بدأ يتحرك فعلياً لوقف الحرب، وأن المظاهرات عمّت العالم احتجاجاً على هذه الحرب، ليس لأن الجميع قرأوا في الصحف مثلاً أو تناهى إلى مسامعهم أن ثمة مذابح ترتكب في غزة، بل لأن الصور أظهرت ذلك بوضوح شديد. ولا حاجة طبعاً إلى تذكير "العربية" أنه كتلفزيون معني أولاً وأخيراً بنقل الصور، وصور القتل والدمار والمجازر هي جزء من ذلك لا يمكن التغاضي عنه أو إهماله تحت أي ذريعة "مهنية". لقد رأينا الناطقين باسم الجيش الإسرائيلي يكرّرون مراراً إنهم لا يستهدفون المدنيين، بل مسلحي حماس، وإذا حصل واستشهد مدني ما، فذلك عن طريق الخطأ؛ ألا يستدعي دحض مثل هذه الدعاية عرض صور أولئك الضحايا؟ ألا يستدعي تأكيد أن إسرائيل تستخدم أسلحة محرمة دولية إظهار نوعية الجراح على أجساد ضحايا القصف؟ لقد رأينا ناطقاً باسم الجيش الإسرائيلي يظهر على الشاشة صورة فوتوغرافية لأولاد فلسطينيين يحملون دمى أسلحة، وصورة أخرى تظهر مسلحاً بين مجموعة من السكان المدنيين وذلك تبريراً لقصف مدرسة الفاخورة التابعة لوكالة غوث اللاجئين (الأونروا) في الهجوم الذي استشهد فيه 42 فلسطينياً أعزلاً. إذن الإسرائيلي (أي المعتدي) يلجأ إلى الصور لتبرير جرائمه. ألا نلجأ نحن إلى الصور لإظهار وكشف فداحة هذه الجرائم؟
يجدر القول أيضاً إن هذه الصور (التي يمكن قبل عرضها تنبيه المشاهدين إلى بشاعتها بحيث لا يشاهدها من لا يريد) تصب في خدمة أي ملف حقوقي يجري تحضيره من قبل قانونيين لمحاسبة المسؤولين الإسرائيليين على جرائمهم (هل يتفق معنا أهل "العربية" على وصف ما يتم بالجرائم؟)، أي أنها لا تعود مجرد صور للتأثير بالرأي العام وكشف الحقيقة الراهنة، بل تصبح وثائق وأدلة يمكن اعتمادها في المحاكم التي قد تنظر مستقبلاً في هذه القضايا.
القاموس المهني
ليس صعباً على "العربية" أن تعتمد قاموساً مهنياً بالفعل فتسمي الحرب حرباً والعدوان عدواناً، بدلاً من التوصيفات شديدة العمومية من قبيل "الهجوم على غزة" أو "اجتياح غزة" أو ما شابه. أما بالنسبة إلى كلمة "قتلى" التي تفتخر العربية باستعمالها أيضاً بداعي الموضوعية والتوازن فيمكن القول ببساطة إن استعمالها في سياق الحرب على غزة يعدّ أيضاً مساواة بين الضحية والجلاد. يمكن استعمال كلمة "قتلى" في حالات عدة منها مثلاً خلال سقوط ضحايا في نزاعات أهلية كالتي حصلت بين حماس وفتح أو كالتي حصلت في لبنان أو في العراق، لكن استعمال كلمة "شهيد" في حالة وجود طرف معتد وطرف آخر معتدى عليه يصبح أقرب إلى معنى "ضحية" وهذا المعنى يمكن أن نجده حتى في اللغة العربية حيث جاء في المنجد في تعريف "شهيد" أنه "من قتل في سبيل الله (وهذا المعنى الديني الذي يمكن المجادلة بأنه غير مطلوب) أو دفاعاً عن بلد أو عقيدة أو مبدأ"، وبالتالي هناك مشروعية مهنية لغوية لاستعمال كلمة "شهيد" والاحتجاج في الوقت نفسه بالتوازن، أما إذا سأل أهل "العربية": بماذا نصف إذن ضحايا الاسرائيليين؟ فالجواب ببساطة: حين يكون الاسرائيليون هم الضحايا والمعتدى عليهم، أي حين تقوم طائرات حماس أو أي طرف آخر، ودباباتها ومدافعها بدك المدن الإسرائيلية وحصارها، عندئذ يمكنكم طرح مثل هذا السؤال. لكن هذا يعيدنا إلى مسألة عدم طرح الأسئلة الصحيحة أساساً من قبل صنّاع فلسفة "العربية" الإعلامية.