ارتفع مؤشر القلق لدى دول الخليج ومن ورائها دول العالم، جراء تصاعد الاضطرابات في اليمن وأصبح لزاما على المملكة العربية السعودية أن تتحرك بصورة أكثر فاعلية إزاء احتمالات اندلاع الحرائق في حديقتها الخلفية "اليمن" وهو واجب تتحمله المملكة نحو "شقيقة صغرى" ولحماية ذاتها من خطر الحرائق التي قد تطول بنيانها وتأتيه من القواعد.
ويقاسمها الهم أطراف إقليمية ودولية باعتبار أن لكل هذه الأطراف مصالح في اليمن وفي الخليج وغدت جميعها مهددة، لتترشح إلى الصدارة بجانب السعودية جمهورية مصر الشقيقة، وهما الدولتان اللتان تحظيان بثقة أقطاب العالم الكبرى وفي مقدمتها الولايات المتحدة، كما تستند الأخيرة إلى إرث تاريخي من القيادة للوطن العربي تزداد الحاجة إلى تغذية ما تبقى منه مع ظهور أطراف أخرى في المنطقة تنازعها المكانة.
تعكف الدولتان هذه الأيام في القاهرة -وبرعاية أو مباركة من "ماما أمريكا"- على صناعة الاسطوانة الأولى لإطفاء الحرائق في اليمن، من خلال إدارة حوار بين السلطة اليمنية وقيادات جنوبية في الخارج، وهو الحدث الذي نفاه طرفا الحوار بعد تسرب الخبر عبر صحيفة الخليج الإماراتية ومنها إلى وسائل الإعلام المختلفة.
الأمر في الوقت الحالي يختلف عما كان عليه عام 67م حين اصطلح اليمنيون بالحوار على إنهاء الاقتتال الداخلي فيما عرف بمؤتمر حرض، فالسعودية ومصر اللتان ترعيان الحوار الآن، كانتا ذلك اليوم (67م) طرفي النزاع في اليمن: مصر تدعم الجمهوريين ممثلين بنظام السلال والبيضاني الذين كانوا يحكمون الجمهورية بالجيش المصري، أو كان الجيش المصري يحكم بهما اليمن، ومن وراء ذلك توجه نحو تصدير الثورة إلى دول الجوار ودعم المد اليساري المختوم بختم الاتحاد السوفيتي. وكانت السعودية تدعم الملكيين، ليس كرها للنظام الجمهوري بل لحماية نفسها والحيلولة دون نجاح تصدير الثورة إليها وإلى دول الخليج وذلك بدعم مختوم بختم الولايات المتحدة وبريطانيا. وما إن اتفق الطرفان على إنهاء النزاع وترك الشعب اليمني يقرر مصيره، حتى استتب الوضع في اليمن بعد الاتفاق على إسناد الأمر لقيادة جماعية ليس فقط في مجلس رئاسة "برئاسة الإرياني وعضوية النعمان والحجري" بل وبدستور ومجلس شورى وتشكيل مؤسسات الدولة.
نجاح ذلك المؤتمر يعود إلى جملة من الأسباب في مقدمتها حسم المشكلة بين الجمهوريين وبين الملكيين من غير تدخل أجنبي، فيما المشكلة اليوم ليست فقط مع الجنوبيين بل مع عدة أطراف بعضها يعبر عن نفسه بكيان حزبي وبعضها بكيان نقابي وبعضها بكيان قبلي وبعضها بكيان مذهبي، إلى آخر هذه الأشكال.. ما يعني أن ما يحدث الآن في القاهرة –إن صح- لا يعدو اسطوانة إطفاء حرائق لا تناسب حجم الحريق، وبمجرد ما ينطفئ شيء منها سيشتعل من جديد.
الرجل الذي هندس في 94م شعار "الانفصال من أجل الوحدة" غدا اليوم يهندس شعار "الوحدة من أجل الانفصال"!
إلى ذلك، وحتى يثمر هذا الحوار، لا بد أن يكون للجنوبيين كيان موحد يمثل الجميع، أما ما داموا مفترقين فلن يمثل المشاركون في الحوار غير أنفسهم. هذه النقطة لا تخفى على السلطة ولا تخفى على رعاة الحوار، وربما أن هذا هو ما يفسر دعوة العطاس لفصائل الحراك قبل أسابيع بسرعة التوحد.. والرجل الذي هندس في 94م شعار "الانفصال من أجل الوحدة" غدا اليوم يهندس شعار "الوحدة من أجل الانفصال"! والواضح أنه كان يريد سرعة توحد الفصائل حتى يمكن تمثيلهم جميعا في حوار القاهرة.
بالمقابل اتجهت السلطة اتجاها آخر، خلاصته: تشكيل حزب اشتراكي من وسط الحراك يكون هو الممثل للجنوب على طاولة الحوار أمامها، وبذلك تنهي القضية الجنوبية وتنهي الحزب الاشتراكي اليمني، وربما تنهي –إن نجحت- تكتل اللقاء المشترك.
صنعاء، والرياض، والقاهرة.. هدف مشترك
طرفا الحوار ينفيان صحة الخبر حتى الآن، إلا أن تسريبه عبر صحيفة الخليج التي حظيت مؤخرا بأهم حوارات مع رموز من الطرفين يؤكد وجود أساس لهذا الخبر المنفي. والطريقة التي يجري بها الأمر تشير بوضوح إلى أن رعاة الحوار سيماطلون وسيعقدون جلساتهم السرية في توقيت يتزامن مع المراحل الأخيرة لمؤتمر الحوار الوطني الذي تتبناه أحزاب المشترك وذلك بهدف صرف الرئيس علي ناصر والعطاس والآخرين معهم عن الاشتراك في هذا المؤتمر الوطني، وإذا نجحوا في ذلك فسينجحون بالضرورة في إقصاء قطاعات واسعة من الحراك الجنوبي عنه، وبعد أن ينتهي مؤتمر الحوار بمعزل عن أبرز رموز القضية الجنوبية وكثير من قطاعاتها سيكون هؤلاء الرموز هم الحلقة الأضعف في حوار القاهرة، والأهم أن هذا سيمثل خللا كبيرا في مؤتمر الحوار الوطني وذلك هدف متفق عليه رسميا فيما يبدو بين صنعاء والرياض والقاهرة.
ما يدفعهم نحو تحقيق هذا الهدف هو الإشادات الصريحة بمؤتمر الحوار الوطني من قبل الرئيس علي ناصر، وتأكيده مشاركته فيه، وكذا التصريحات المخاتلة التي تتخلل أحاديث العطاس الذي يهاجم الجميع دفعة واحدة من منطلق أن مهاجمة الجميع تبقيه على ذات المسافة من الجميع، وأينما لاحت الفرصة الأحسن فسيكون على مقربة منها.
والعطاس الذي شكا من اختراق النظام لهم قبل 90م من خلال بعض الشخصيات -وإن كنت أعتقد أن ذلك مجرد كيد سياسي- سيشكو قريبا من اختراقهم مجددا في الحوار السري الذي تجري التحضيرات له في القاهرة ويشارك فيه إلى جانب العطاس عبدالرحمن الجفري!!
وبالمناسبة: ورود اسم الجفري يشبه إلى حد كبير ورود اسم عبدالرحمن البيضاني عام 62م على رأس السلطة الجمهورية "نائب الرئيس" في الكشف المعتمد من القاهرة، وإذا كان البيضاني قد فرضه النظام المصري حينها ليكون يده في اليمن، فإن الجفري يلعب اليوم ذات الدور ولكن لصالح النظام السعودي، مع فارق بسيط: أن البيضاني فيه صفات أهلته للتمرد بعد ذلك على الزعيم القومي عبدالناصر وإن احتفظ بعلاقته القوية مع الزعيم الليبرالي السادات.
سالم صالح وإعادة النظر في اتفاقية الوحدة
لا يزال الأمر يكتنفه كثير من الغموض، لكن المنطق ومن غير حاجة إلى معلومات مؤيدة، يقول إن هناك ترتيبات كبيرة سبقت الدعوة لهذا الحوار وهناك ترتيبات أكبر لما بعده، وكل طرف يقوم بالترتيبات التي يريدها بحسب أهدافه وحساباته السياسية.
في هذا السياق يمكن العودة إلى الخطاب الملقى في الدورة الثانية للمؤتمر السابع للحزب الحاكم الذي تضمن عدة حلول مقترحة أولها: إلغاء التعددية والشراكة.
والواضح أنها جميعا موجهة لقيادات الحراك في الخارج والداخل وليست موجهة للمشترك كما فهم يومها، ويمكن التأكيد على أن الخطاب موجه إليهم من حوار الرئيس علي ناصر في صحيفة الشارع الذي أشار فيه إلى توقع حصول الجنوبيين على عدد من الحقائب الوزارية.
المشترك وفاتورة الصفر الدولي
خيار إلغاء التعددية كان هو الأهم من بين تلك الخيارات، وكأن هناك اتفاقا بشأنه خاصة وأنه طرح مسبقا قبل عدة أشهر. وحوار سالم صالح محمد مؤخرا مع الخليج يظهر وجود أطراف جنوبية توافق على هذا التوجه إذ يقول: ".. لا يمنع أن نراجع اتفاقيات الوحدة..". ومراجعة اتفاقيات الوحدة لا أفهم منها سوى الجانب المتعلق بالديمقراطية والتعددية كشرط للوحدة. وهو استمراء لاستهداف الديمقراطية كأحد الثوابت الوطنية المنصوص عليها دستوريا والذي أصبح ضرورة حياتية للمجتمع اليمني غير القادر على العيش في ظل الهامش الديمقراطي -بحسب توصيفات المعارضة- فضلا على أن يقبل بالعودة إلى شمولية ما قبل 90م.
هناك توق رسمي لإعادة صياغة النظام في اليمن بصيغة تماثل ما عليه الوضع في الخليج، وتحديدا في المملكة، ولعل إلغاء التعددية هو الباب الأوسع للوصول إلى هذا الهدف المرضي عنه سعوديا، بل والمدعوم أيضا، وهنك عمل دؤوب لتوسيع قاعدة السلفيين بما يؤهلهم لأن يصبحوا البطانة "الدينية" للنظام والحليف الاستراتيجي على غرار ما هو حاصل في المملكة، وكان مفاجئا بحسب ما يتردد اتفاق كثير من الخطباء السلفيين في خطبة الجمعة قبل الماضية على تسويغ ما قامت به الجهات الرسمية ضد عدد من الصحف المستقلة بل ونقلت صحيفة الثورة الرسمية (السبت 9 مايو) أن خطباء أمانة العاصمة يؤيدون قرار إيقاف الصحف، وخصت بالذكر محمد المطري خطيب جامع الإحسان، والمثير للدهشة استنادهم -بخلاف المعهود عنهم- إلى المادة 107 من قانون الصحافة!!
وسبق ذلك تصريح في الثورة أيضاً (الجمعة 8 مايو) للقاضي الهتار وزير الأوقاف يختزله عنوانه الذي يقول: "لن نسمح ببقاء أي مرفق ديني يدرس أفكارا متطرفة".
يصحب ذلك إجراءات مرضية سعوديا وسلفيا تتوجه بالبلد نحو اللاديمقراطية، في مقدمتها تزايد الجهات الرسمية المطالبة بإنجاز قانون حماية الوحدة الوطنية، وإنشاء محاكم خاصة للصحف والصحفيين، وكذا استدعاء حد الحرابة في حملة تهديد وتهيئة للرأي العام لتقبله.
بالتأكيد أن هذا حد شرعي قرآني متفق عليه من قبل الجميع، لكن استخدامه سياسيا كغطاء شرعي للقمع على غرار غطاء "الإرهاب" هو الأمر المرعب.
هنا يمكن الوقوف على افتتاحية الثورة ليوم (10 مايو) التي جاء فيها: ".. شأنهم شأن أمثالهم من المجرمين والعملاء واللصوص ممن يقتاتون على المال الحرام وارتكاب الآثام والفواحش والإفساد في الأرض"، وتختتم بالآية: (ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين). ويسبق ذلك وبصورة أكثر وضوحا في ملحق صحيفة الثورة "الدين والحياة" في عدد 8 مايو صفحة كاملة تحمل عنوان "المساس بالوحدة الوطنية فساد في الأرض".
وما يؤكد أنه توجه أمني لا مجرد توجه إعلامي هو وروده في مسابقة ثقافية كبرى وزعها مطلع الشهر الجاري مكتب تربية الأمانة تستهدف عشرات الآلاف من الطلاب ابتداء من الصف السادس وحتى الثالث الثانوي، تضمنت سؤالا طلبت الإجابة عليه ب"صح" أو "خطأ"، يقول: "جزاء المفسدين في الأرض (الحرابة) الصلب أو القتل أو تقطيع الأيدي والأرجل من خلاف".
الإجابة بالطبع صحيحة، وصحيح أيضا أن على كل ناشط سياسي أو حقوقي أن يتوجه فوراً إلى أقرب استديو من منزله ليتلقط لنفسه صورة تذكارية!!
وإذا لم يستطع الشعب اليمني إنجاح مؤتمر وطني يلقف ما يأفكون، فما عليه إلا أن يخرج الآن مناصرا لإخوانه في غزة بمسيرات مليونية كاحتجاج استباقي على حرب تشنها إسرائيل في السنوات القادمة، لأنه لن يكون بمقدور أحد يومها التظاهر من أجل غزة، فالمظاهرات ستكون في ذلك الوقت: "فوضى، وصد عن ذكر الله"!!
إذن فهذه هي حسابات النظام وهذه هي حسابات المملكة، ولكن: هل ستقبل الولايات المتحدة بهذا الأمر؟
يستحيل على دولة مثلها أن تحرق لافتة وجودها في المنطقة "رعاية الديمقراطية" إلا إذا كانت تستدرجهم من حيث لا يعلمون!!
نقطة أخيرة متعلقة بأحزاب المشترك التي باتت ومعها كل منظمات المجتمع المدني بل والوطن كله مهددين في وجودهم: لا يظهر أن هناك خيارا حقيقيا يعول عليه سوى المضي بوتائر أسرع وأعلى دقة باتجاه إنهاء مؤتمر الحوار الوطني بصورة ناجحة، وهذا النجاح يتطلب منهم –على وجه الوجوب- تسديد فاتورة الصفر الدولي أولا بأول للتواصل مع كافة اليمنيين في الخارج بمختلف مشاربهم!!
• عبدالملك شمسان
• [email protected]
• نشوان نيوز