[esi views ttl="1"]
رئيسية

ليبيا في أربعة عقود: سوداوية واحتقان وعنف

إن رصد الواقع الليبي على امتداد سنوات طويلة، يؤكد أن الشعب قد دفع ثمناً غالياً من أمنه واستقراره وحياة أبنائه، ومن تنميته وتطوره وتقدمه، وضاعت فيها للأسف الشديد على هذا الشعب فرص عديدة، لو جرى استثمارها وتوظيفها، بعيداً عن الأهداف الشخصية والطموحات النرجسية، بعقلانية وحرية ووطنية وإخلاص للوطن والشعب، لكان بإمكانها أن تصل به إلى وضعية ومستوى متقدم على ما هو عليه الآن ربما بعشرات السنين.

يبقى السؤال المهم في هذا الأمر هو: هل يمكن أن يتحقق الاستقرار السياسي إذا ما استمر الحال على ما هو عليه في الحاضر والمستقبل ؟

سؤال استفهامي ومعرفي لأنه يتعلق بمصير ووجود الشعب الليبي في حاضره ومستقبله.

فى الواقع كان وضحاً أن الذين قاموا بالانقلاب العسكري سنه 1969 لم يهمهم ولم يقدروا المعنى الحقيقي والجوهري للاستقرار السياسي، خاصة في ظل الظروف التي كانت تحيط بالبلاد آنذاك، ولم يعطوا أهمية للمؤسسات التي نشأت منذ الاستقلال، وبدأت تأخذ تحركها التاريخي التدريجي، مهما كانت أوجه قصورها، ومهما شاب عملها وحركتها من عثرات في تلك الفترة..

كما لم يقدر ربما غالبية الجيل الجديد آنذاك من المثقفين والمتعلمين، حق التقدير ذلك الهامش النسبي من الحرية المتاحة لكل فئات المجتمع الليبي، و لم يعوا القيمة الحقيقية للعدالة والرفاهة النسبية، التي تمتع بها الشعب في ذلك الوقت، ولعل عدداً كبيراً من الليبيين لم يثمن درجة اللين والتسامح التي طبعت أساليب تعامل العهد الملكي مع أبنائه خصوماً ورافضين أو من حاولوا الانقلاب عليه.

قام القذافي ومن معه بالتغيير دون أن ينضج وعيهم ويستقر فكرهم، وأصروا على إعادة تشكيل الواقع الليبي من خلال بعض التجارب السياسية التي اقتبسوها من هنا وهناك، أو من خلال شعارات تدغدغ المشاعر حول الحرية، أو حتى من خلال لافتات دعائية تغذي أحلام الجماهير في الازدهار والتطور.

ولكن لم تمض سوى سنوات قليلة جداً حتى تبين إفلاس كل هذه الشعارات، وفراغ الأحلام حيث ظهر الواقع على حقيقته.

لقد بدأت تبرز شيئاً فشيئاً التناقضات التي أخذت تنخر في المجتمع الليبي، بسبب ممارسات نظام القذافي العسكري الخاطئة والظالمة، مما طرح الكثير من الشكوك حول شرعية حكمه ومدى مشروعية ممارساته. وبدا واضحاً من بداية السنوات الأولى للانقلاب أن هناك اتجاهاً لتكريس حكم فردي ديكتاتوري، يجمع كل السلطات في يديه، ويخلق أشكالاً وهياكل كرتونية لإدارة شؤون الدولة، يتحكم فيها بصورة مطلقة، ويتم اختيار القائمين عليها على أساس معيار وحيد هو الولاء للحاكم و"نظامه".

وبالفعل نجح القذافي في تركيز كل السلطات في يديه دون رفاقه في الانقلاب الذين تخلص من معظمهم، وبدأ في تأسيس حالة من عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي في طول البلاد وعرضها، من خلال سياسة الصدمات الفجائية، التي استهدفت خلخلة المجتمع وإفقاده عناصر التماسك والمقاومة، وقلب توازناته وتركيباته الاجتماعية وتشتيت أوضاعه القبلية، على امتداد فترة وصلت حتى الآن إلى أربعة عقود.

لقد بدأ الاستقرارالسياسي يفقد معناه الحقيقي في ظل توجيه القذافي وأجهزته الأمنية، ضربات متتالية لكل قطاعات وفئات المجتمع الواحدة تلو الأخرى، بحيث تم الانتقال من ضرب فئة إلى أخرى، ومن ضرب قطاع إلى آخر، دون أن يدرك المجتمع متى ستكون الضربة القادمة ولمن سوف توجه، وكان البعض يتساءل: ما هو مصير المجتمع الليبي في ظل هذه الوضعية، وهل يمكن أن يتحقق نوع من الاستقرار في الحاضر والمستقبل القريب تحت هذا الحكم ؟

سؤال استفهامي ومعرفي، لأنه يدور حول مصير ووجود الشعب الليبي.

ولعله في هذا السياق علينا أن نحدد ما هو الاستقرار السياسي الذي نقصده، إنه الاستقرار الذي يتضمن مشروعية السلطة السياسية الحاكمة، التي عليها أن تستمد وجودها وبقاءها من المجتمع ككل، والقبول والرضا بها يعني أنها قامت على أسس استوجبت القبول بها من قبل الشعب، سواء تم ذلك عبر العملية السياسية أي بالانتخابات العامة أو الاختيار، أو تم عبر الإجماع والتعيين، كما أن الاستقرار السياسي يتطلب وجود مؤسسات وأطر وأجهزة ذات اختصاصات وصلاحيات محددة، وأن أعمال السلطة وممارساتها تبقى مشروعة في إطار القوانين والمعايير التي تعارف عليها المجتمع، كما يحددها الدستور أو التعاقد الذي ارتضاه الشعب.

أيضاً الاستقرار يتضمن انسياب الحياة العامة، من خلال إطلاق حرية العمل السياسي والنقابي والمهني ومؤسسات المجتمع المدني، وأن الصراع السياسي أو التنافس السياسي لا يقوم على العنف واستخدام القوة، بل على التداول السلمي الذي يسمح بإدارة شؤون الدولة دون احتكار أو اضطراب يخل بالاستقرار.

في الحالة الليبية:

إذا تم استبعاد الأحكام الذاتية والعاطفية جانباً، والنظر إلى الواقع المعاصر لنشأة الدول والأنظمة نظرة موضوعية علمية، فلا يمكن تصنيف "نظام" القذافي بأي حال من الأحوال على أنه نظام سياسي، يقوم على المؤسسات والأطر بالمعنى المتعارف عليه في المجتمع الدولي، فضلاً عن غياب الآليات الدستورية التي تؤسس للدولة، فتحدد اختصاصات وصلاحيات المؤسسات، وتنظم أسس المجتمع، وهي الآليات التي يقودها العقل وتعمل لخدمة المجتمع المدني في ظل قوانين وضوابط محددة ومعروفة ومتفق عليها من المجتمع.

إنما يمكن تصنيف "نظام" القذافي على أنه حكم فردي، يقوم على الأجهزة الأمنية التي تقع في دائرة السلطة، وتلك التي أوجدها خارج إطار السلطة للمزيد من أحكام السيطرة وهي الأخطر، مثل اللجان الثورية وما شابهها من قوى تابعة مباشرة للقذافي وحده، وتعتمد على استخدام القوة والعنف والإرهاب النفسي، لفرض السيطرة السياسية وتكريس الهيمنة وإقصاء الجميع من دائرة الفعل السياسي، مما أوجد شكلاً ظاهرياً للاستقرار.

والملاحظة الجديرة بالذكر في هذا الإطار بعد مضي كل هذه السنوات، أن الاستقرار الموجود في ليبيا، لا يمكن أن يطلق عليه استقرار سياسي حقيقي، إنما هو، سيطرة وهيمنة، مفروض بالقوة وليس بالاختيار ولكن كأمر واقع، لم ولن يكتسب الشرعية مهما مضى عليه الزمن، مثله مثل التواجد الاستعماري أو الاستيطاني يأخذ مداه ثم ينتهي.

وفي هذا السياق يمكن التعرض لبعض إشكاليات عدم الاستقرار السياسي في ليبيا، والتي لا يمكن أن يتحقق أي استقرار بدون التعاطي معها ووضعها في سياقها الطبيعي الذي ينبغي أن تكون عليه.

إشكالية الحرية:

إن أولى الإشكاليات التي استهدفت الاستقرار السياسي في ليبيا، كما هو الحال في كل الأنظمة الديكتاتورية، تمت باغتيال الحرية بكل صورها وأشكالها، فالحرية كانت أولى الضحايا التي تم وأدها، ودفنها في المهد دون شعائر للدفن "حرية الإنسان في أفعاله واختياراته وقراراته، حرية خلاص الإنسان من كل صور القهر والطغيان السياسي".

لم يعط القذافي أي معنى للحرية، إلا من خلال مفهومه الخاص "ونسي أن التاريخ البشري هو عبارة عن تحرر الشعور الإنساني من كل القيود التي تمنع حريته الطبيعية والسياسية، حرية تقوم على العقل وتعبر عن الإدراك والفعل".

لقد فقد الشعب الليبي حريته في التعبير عن نفسه وعن آرائه بشتى وسائل التعبير، وفقد حريته في التجمع السياسي، وفي ممارسة حقه في الاختيار السياسي والاقتصادي، وفقد معرفة حقه في التخطيط لحاضره ومستقبله، بل وصلت الأمور به إلى درجة سلب حريته في التمتع بآدميته وإنسانيته، كأي إنسان آخر في هذا الكون يعيش وسط مجتمع مدني متحضر.

وكانت وما زالت الشعارات المفرطة بالتبشير بالحرية والانعتاق تعكس في حقيقة الأمر التضليل الدعائي الذي يخفي الشرخ الخطير الذي حدث في الواقع التطبيقي، حيث يبرز الفارق الشاسع بين "النظرية" والممارسة، وبين القول والفعل، وبين الوعود المحلقة في سماء الوهم وبين الموجود في الواقع، إن الشكل الوحيد الذي عرفه الشعب الليبي لهذه الحرية التي جاء بها الانقلاب، تمثل في انحسار هذه الحرية وممارستها من قبل شخص القذافي فقط، باعتباره "قائداً لا يخطئ ولا يأتيه باطل من بين يديه ولا من خلفه".

وهكذا أصبح القذافي هو الشخص الوحيد الحر في ليبيا في أن يفعل ما يشاء، وأن يتصرف كيفما يشاء دون حساب أو عقاب ودون حدود أو ضوابط.

إشكالية العدل:

العدل قيمة جوهرية في أي نظام سياسي، ومتى غاب العدل أو تم التلاعب به فإن البديل بكل بساطه سيكون سيادة الظلم والجور في كثير من مناحي الحياة.

وأهمية العدل تنبع من كونه عنصراً أساسياً لاستتباب السلام الاجتماعي، في أي مجتمع من المجتمعات، وبالتالي فإن أي استقرار لا يقوم على العدل فهو لا يعدو أن يكون شكلاً من أشكال السيطرة السياسية، القائمة على فرض الأمر الواقع أو هو تعبير عن استقرار مدعوم بالقوة والعنف.

هذا الشكل من أشكال الاستقرار لا ينتج إلا حالات متكررة من الاحتقان السياسي، ولا يفرز سوى الاضطراب الاجتماعي، وعدم الاستقرار الأمني سواء تم ذلك بصور متقطعة أو على فترات متباعدة نسبياً.

وفي الحالة الليبية، بعد أن غابت كل صور الحرية، فإن العدل بدوره قد اختل اختلالاً شديداً، فقد جرى منذ البداية إلغاء الدستور الليبي، وتعطيل المؤسسات القضائية والقانونية باسم الشرعية الثورية، وأصبح رجال القضاء والقانون، من قضاة ووكلاء نيابة ومحامين، مجرد موظفين في بيروقراطية السلطة الحاكمة، ولم تعد الأجهزة القضائية تتمتع بأي نوع من أنواع الاستقلالية، ولم تعد هناك ضمانات قانونية أو قضائية لحماية الأفراد والجماعات، في مواجهة جبروت وعنف السلطة وأجهزتها الأمنية القمعية، ولم تعد هناك أيضاً إجراءات قانونية أو حتى إدارية، يتم اتباعها أثناء عمليات الحجز أو الاعتقال.

وحتى بعد أن وجد هامش بسيط للمحامين لترك العمل في بيروقراطية السلطة، جرى تهميش دورهم بالكامل، وبعد أن تم إفساد النظام القضائي وعدد من العاملين فيه من خلال المحسوبية والرشوة، وعمليات الترهيب والترغيب التي تعرض لها الكثيرون منهم، وإدخال عناصر دخيلة لا علاقة لها بالعمل القضائي والقانوني، حتى أصبحت السلطة نفسها خصماً وحكماً بنفس الوقت.

وباختصار شديد غياب العدل في ليبيا يعني أيضاً غياب المساواة، التي طالت كل شئ من توزيع الثروة إلى الحصول على الامتيازات من السلطة، ومن تقلد المناصب إلى الحصول على الوظيفة، ومن التمتع بحقوق المواطنة إلى التمييز القبلي والجهوي، الذي شمل كل المؤسسات والقطاعات، في الصحة من حيث الحصول على الخدمات الصحية أو العلاج، وفي التعليم حتى أضحت المدارس والمعاهد والجامعات في حالة يرثى لها من التفسخ وانهيار المنظومة التربوية والتعليمية، وفي الحصول على القروض من البنوك أو في توزيع الأراضي، وفي السفر إلى الخارج للعلاج أو البعثاث الدراسية، وفي كل مناحي حياة المواطن الذي اضطر، في كثير من الأحيان، إلى التفنن في كيفية التحايل للحصول على أبسط حقوقه ومستلزماته، في ظل إحساسه بغياب العدل والمساواة، بل الأخطر من كل هذا أن يرتبط الحصول على الحقوق بالتزلف والنفاق للسلطة وأشخاصها، وبمدى إظهار الولاء للقذافي وليس للوطن.

إشكالية العنف:

عندما فشل نظام القذافي في تحقيق ذلك القدر المطلوب من القبول السياسي من الشعب الليبي، وفشل أيضاً في الحصول على التأييد الشعبي لسياساته وممارساته، لجأ رأس السلطة إلى فرض سيطرته السياسية من خلال الأجهزة والأطر، التي أوجدها داخل الجهاز الرسمي للدولة وخارجه، وهي تخدم في النهاية هدفاً واحداً هو سيطرة القذافي على كل شئ في البلاد.

وتأتي على رأس هذه الأجهزة مختلف الجهات الأمنية الرسمية، وتلك غير الرسمية أو ما تسمى باللجان الثورية، وأخواتها مثل الحرس الثوري، والراهبات الثوريات، والوحدات الخاصة، والحرس الخاص، ولجان التصفية وغيرها، فضلاً عن التوسع في الأجهزة التقليدية من مخابرات وأمن داخلي وخارجي.

إن القذافي لم يتردد منذ البداية في جعل العنف الوسيلة الوحيدة للتعامل مع المجتمع، وقد وضحت هذه الصورة من خلال الإجراءات القمعية والتعسفية، التي واجه بها القذافي الحركة الطلابية في بداية السبعينات (73 /74 /75 /76)،حتى أصبح العنف وسيلة من صفات السلطة للتنكيل بالطلاب والأساتذة غير المرغوب فيهم، في سبعة أبريل من كل عام.

ومع مرور الوقت أصبحت ظاهرة العنف التي رسخها" نظام" القذافي متأصلة في المجتمع، فبعد سلسلة من الصدامات مع المؤسسات والنقابات الطلابية والعمالية والمهنية، وتمكنه من تصفيتها، جعل القذافي من العنف سياسة رسمية من خلال خطاباته الرسمية، ومن خلال الأجهزة التي أوجدها دون قوانين أو ضوابط أو معايير، ودون الأسس الأخلاقية والإنسانية.

لقد شهدت سنوات الثمانينات عمليات قتل وتصفية جسدية داخل البلاد وخارجها، ومشانق نصبت لأول مرة منذ تاريخ الغزو الفاشستي الإيطالي في الميادين والساحات والجامعات، بل وفي القرى والمناطق المختلفة من البلاد، وغصت السجون والمعتقلات المرة تلو الأخرى بالنشطاء السياسيين من مختلف التوجهات الفكرية، ولم تخلُ فترة الثمانينيات والتسعينيات أيضاً من عمليات الاعتقال العشوائي، التي طالت أعداداً كبيرة من أبناء المجتمع الليبي، لكي تنتهي بمأساة إنسانية لم يعرف لها تاريخ البلاد ولا المنطقة مثيلاً من قبل. وهي مذبحة سجن أبوسليم.

وهكذا لا تكاد تمضي سنة منذ أن جاء القذافي إلى الحكم دون أن تشهد ليبيا، في هذه المنطقة أو تلك، حوادث عنف موجهة ضد فرد أو عدة أفراد من الشعب الليبي، فالسلطة ظلت تسعى لضمان استمرار سيطرتها السياسية واحتكار استخدام العنف، لصالح القذافي ضد بقية فئات وقطاعات المجتمع الليبي.

لقد تحولت الأوضاع في البلاد إلى حالة من الاحتقان والتوتر الدائم، وعدم الرضا والاضطراب والتسيب والفوضى، وفي إطار هذه الفوضى أصبح كل شئ مباحاً، فالمعايير الدينية والأخلاقية والعلاقات الاجتماعية فقدت فاعليتها في إيقاف التردي والانهيار العام، ولم يكن أمام أفراد المجتمع في غياب القانون والأمن سوى العودة إلى الهياكل التقليدية القبلية والجهوية، في محاولة لجعلها مكاناً للحماية، ومصدراً لحل الإشكاليات، ووسيلة للحصول على الحاجات الضرورية.

وفي ظل هذه الحالة المتردية اتخذ المجتمع وسائل متناقضة للمقاومة، تتراوح بين الاستسلام الذريع بما يصدر عن السلطة خوفاً من بطشها وقمعها، مروراً بحالة عدم المبالاة وفقدان الاهتمام، وانتهاء باستخدام البعض للعنف المسلح للرد على السلطة وأعوانها.

في الحقيقة أن ما يعيشه الشعب الليبي لوحة سوداوية قاتمة رسمت خطوطها منذ البداية بالقتل والتصفية الجسدية، ولعلها وصلت في مرحلة ما إلى الصدام مع مجموعات ذات توجهات وطنية وإسلامية، تم القضاء على الكثير من عناصرها والتمثيل بأجسادهم.

لوحة سوداوية لشعب صغير، زجت السلطة بالآلاف من أبنائه ورجاله في السجون والمعتقلات لعشرات السنين، دون محاكمات أو إجراءات قانونية، ثم في عام 1996 وفى أقل من 24 ساعة وقعت مذبحة معتقل أبوسليم حيث جرى قتل أكثر من 1200 معتقل.

إشكاليةالثروة:(الاحتكار واختلال التوزيع)

لم تمض سوى سنوات قليلة على وقوع الانقلاب، حتى أدرك القذافي أهمية السيطرة على الثروة الليبية بالكامل، ليحقق هدفين هامين هما، القدرة على التحكم في البيئة الداخلية، والمناورة في الخارج من أجل كسب النفوذ.

وقد استطاع بالفعل، بعد إلغاء كل أشكال الرقابة المالية والمحاسبية، من تحقيق الاحتكار شبه الكامل للثروة الليبية الممثلة في الداخل النفطي للبلاد، وإحداث الاختلال في التوزيع، بما يضمن المزيد من السيطرة والتحكم، بحيث تم إعادة تشكيل المجتمع الليبي بصورة تضمن الولاء من قبل العناصر الموالين له، بإعطائهم العديد من الامتيازات المالية والصلاحيات الاقتصادية، في غياب تام لأية رقابة أو متابعة أو محاسبة، وحرمان بقية الفئات والقطاعات من أبسط الحقوق المالية والاقتصادية.

وزادت معاناة الشعب الليبي بعد العقد الأول من الانقلاب، بسبب الإجراءات التعسفية التي جردت القطاع الخاص من كافة الإمكانيات المالية والتجارية والممتلكات العقارية، مما كان له أكبر الأثر في شل قدرة قطاع مهم من المجتمع، ومنعه من أداء دوره في التطور الاقتصادي الوطني.

إن تمكن القذافي وأبنائه وأعوانه من السيطرة الاقتصادية والمالية الكاملة خلق خللاً كبيراً في المجتمع الليبي، أدى إلى إفراز طبقة طفيلية فاسدة، تمتلك جزءاً من ثروة الشعب الليبي وتؤثر في الكثير من مناحي إدارة حياته الاقتصادية، وهي طبقة غير مؤهلة بأي معايير علمية وموضوعية أو حتى وطنية للمساهمة في قيام اقتصاد حقيقي، يخدم الشعب الليبي ويعمل لصالحه، وكان من نتيجة ظهور هذه الطبقة الناهبة تهميش غالبية المجتمع وشل دوره في تنمية حياته المعيشية والاقتصادية.

إن الكارثة الحقيقية للاحتكار واختلال توزيع الثروة، أفرزت عنصراً آخر في غاية الخطورة على مستقبل استقرار البلاد، وربما الوحدة الوطنية، تمثل في حرمان الكثير من المدن والمناطق الليبية من التنمية المتساوية، على كافة الأصعدة التنموية الاقتصادية والاجتماعية، والتعلمية والثقافية، والصحية والبيئية، وعلى مستوى الخدمات والتسهيلات، وزاد من حدة هذه الوضعية الشاذة المركزية الشديدة في إدارة كافة شؤون المجتمع، مما حمل سكان الكثير من المدن والمناطق الليبية أعباء، لا قدرة لهم على تحملها، تجبرهم يومياً على دفع ثمن باهظ لإنجاز أبسط وأقل المهام الحياتية.

لوحة سوداوية لمجتمع يعيش، ولمدة أربعة عقود، في حالة من الاحتقان السياسي، وغياب أبسط صور العدل والمساواة، وتحت الترويع والإرهاب المستمر، ويتم إفقار أبنائه يوماً بعد يوم وتجويعهم، في حين تذهب ثروتهم إلى الغير، دون أن يستطيع هذا الشعب أن يوقف هذا النزيف الذي استهدف الإنسان الليبي في كل شئ، أو يوقف عمليات السطو أو النهب المستمر لمقدراتهم.

هذه الوضعية غير الطبيعية والشاذة، قد تدفع في مرحلة ما إلى فقدان الأمل في أي تغير سلمي، ولا يبقى أمام الناس سوى وسيلة واحدة هي العنف، ذلك العنف الأعمى الذي قد يفرق بين أبناء الوطن العزيز، في المدن والمناطق والجهات المختلفة، بسبب تزايد درجة الاحتقان وغياب العدل والأمان وانعدام الحرية، وفقدان الحقوق وضياع ثروة البلاد، واستمرار حكم الاستبداد ومحاولات التوريث غير المشروعة، وانسداد الأفاق أمام المستقبل.

زر الذهاب إلى الأعلى