ثمة تساؤلات عدة تدور في أذهان الكثيرين، وأحياناً على لسان بعضهم، أو على منابر وسائل الإعلام، تبحث عن إجابات حول السبب الحقيقي وراء هجرة العقول والمميزين في مجالات مختلفة محورية من بلادهم العربية، في الوقت الذي تفتقر فيه أوطانهم لمثل خبراتهم.
البعض يوجه أصابع الإتهام للحكومات العربية التي يصفونها بأنها تدير مصالح البلاد بأسلوب " الشخصنة"، وهو الأمر الذي يختلف تماماً عن نهج الجارة إسرائيل، التي تضع البحث العلمي والتقني في مقدمة أولوياتها، واستثمارات البلاد، بدليل قدراتها العلمية والعسكرية، وإطلاقها مؤخراً لقمر صناعي تجسس، هو الرابع في غضون أقل من عقد.
هذه القضية الأساسية لم تغب عن مراكز البحث العربية، إذ سبق وأن حذر تقرير التنمية الإنسانية العربية الصادر عن الجامعة العربية عام 2003، من أن الدول الأعضاء خسرت، حتى ذلك الوقت، 200 مليار دولار، بسبب هجرة الكفاءات العلمية والعقول العربية إلى الخارج.
فمن المسؤول عن هجرة العقول العربية؟.. هل هو انخفاض مستوى التعليم.. أم غياب الديمقراطية.. أم هي مشكلة حكم وإدارة البلاد؟
أحد المراقبين العرب قال معلقاً بهذا الشأن "إن "الهجرة أمر طبيعي وموجود منذ بداية التاريخ، إذ دائماً ما يبحث الإنسان عن حياة أفضل، ومكان تحترم فيه آدميته وكفاءته وقدراته، ويكون تقييمه موضوعياً بعيداً عن العلاقة الشخصية أو القبلية أو مجموعة المصالح المشتركة."
وأردف: "والهجرة سوف تستمر لأن من الطبيعي أي إنسان حر يحترم نفسه ويشعر بأنه لم يأخذ مكانته التي يستحقها أن يهاجر، وهذا يتفق أيضاً مع صونه لكرامته بدلاً من أن يبقى ويرى من هم أقل كفاءة منه، بكثير جداً، يحتلون مناصب مهمة، بينما لا يحصل هو على الحد الأدنى مما يستحق."
وأضاف، في سياق رده على تساؤلاتنا عبر البريد الإلكتروني: "كما أن بقاء المرء المبدع عربياً سيكون على حساب مصلحته ومصلحة كفاءته، لأنه سيكون مجرد رقم مهمش مثل غيره الذين بقوا أو يعيشوا دون دور مهم يسهم في تقدم المجتمع، مع العلم بأن هناك العديد من الكفاءات لم تهاجر، وهي لا تقل كفاءة عن التي هاجرت ونجحت في مجتمعاتها الجديدة، وأخفقت ولم تبرز، لأن المناخ لا يساعد على النجاح."
وتابع: "المشكلة تكمن في عقلية من يدير الأوطان، لأنه وللأسف هذه العقلية تصر على أن تتعامل مع الوطن على أنه فيلا أو شاليه خاص وملكية خالصة، والخسائر المادية كبيرة جداً، وتدفع ثمنها المجتمعات، وستظل تدفع ولا أحد يأبه.. الكل راض بهذا التخلف، وسعيد بالفتات التي يعيش به، رغم أنه يعيش على هامش الحياة."
واختتم حديثه بالقول: "ومن رأيي أن المجتمعات العربية رضت بتخلفها، ورضي عنها تخلفها، والواقع أن الفجوة كبيرة بين التقدم الذي أحرزته إسرائيل، وبين الواقع المؤسف الذي نعيش فيه."
وفي الأثناء، حذر تقرير آخر أصدره "البنك الدولي" في 2008، من أن مستوى التعليم في العالم العربي متخلف بالمقارنة بالمناطق الأخرى في العالم، ويحتاج إلى إصلاحات عاجلة لمواجهة مشكلة البطالة وغيرها من التحديات الاقتصادية."
ولكن.. وعلى بعد بعض الكيلومترات، نجد أن حال إسرائيل مختلف تماماً عن جيرانها، فهي تركز على البحث العلمي والتقني، بدليل أنها أطلقت مؤخراً قمراً صناعياً للتجسس، هو الرابع في غضون أقل من عقد.
ووفقاً لبحث أجرته منظمة التعاون والتنمية العام الماضي، فإن إسرائيل تنفق ما يعادل 5 في المائة من ناتجها المحلي الإجمالي على البحث والتطوير، وهو أكثر مما تنفقه أي من دول المنظمة، وأكثر من ضعف المتوسط للمنظمة الأوروبية.
ولإبراز الأهمية القصوى التي توليها إسرائيل لتطوير القوة العاملة العلمية، ناقشت الحكومة مؤخراً خطة تصل كلفتها إلى مليار ونصف المليار شيكل، أي ما يقرب من 400 مليون دولار، لمعالجة ما تطلق عليه مشكلة "هروب الأدمغة" لاستقطاب علماء وباحثين من الخارج.
كما ستعتمد الخطة على إقامة مركز في المؤسسات الأكاديمية للطلاب المتفوقين لكي يعملوا في مجال الأبحاث.
وفي هذا السياق، فسر مسؤول عربي رفيع، رفض الكشف عن هويته نظراً لحساسية الأمر، فقال: "إسرائيل تدار كدولة ونظام يقوم كل شيء عندها على النهج والتخطيط العلمي، وتتولى المؤسسات وفق أنظمة واضحة تسيير العمل فيها، بينما للأسف في العالم العربي يغيب التخطيط العلمي، بالإضافة إلى غياب المؤسسات الفاعلة."
وأضاف: " نعم هناك مؤسسات لكنها مع الأسف شكلية.. العالم العربي يدار بأسلوب "الشخصنة"، بمعنى أن كل شيء يتم من خلال أشخاص ووفق مزاج الأشخاص."
وتحتل إسرائيل، وهي واحدة من أصغر دول العالم، المرتبة الـ22 في لائحة أكثر الدول غزارة في إنتاج البحوث العلمية، بأكثر من 154 ألف و155 بحثاً علمياً في كافة المجالات، بينما جاءت مصر في المرتبة الـ40، بما يقارب 47 ألف بحث علمي خلال الفترة من 1996 وحتى 2008، وفق SCImago Journal & Country Ranking.
ترى.. هل مواصلة هجرة العقول هو نتيجة البحث عن الفرص؟.. أم لانعدام الديمقراطية والعدل في الدول العربية؟