" الفارق بينننا وبينكم، انكم في السعودية تملكون وتحكمون، بينما نحن في اليمن لا نملك ولانحكم. انما نحن ندير". هكذا تحدث الرئيس اليمني علي عبد الله صالح إلى الملك الراحل فهد بن عبد العزيز حين التقاه للمرة الاولى عقب انتهاء حرب صيف 94م.
ويوم السبت الماضي، أكمل الرئيس صالح عامه الثاني والثلاثين في حكم اليمن الشمالي ثم الموحد الذي طالما شبه الحكم فيه ب" الرقص على رؤوس الثعابين"، حيث تعد فترة حكمه هي الاطول عمرا في المنطقة العربية بعد الزعيم الليبي معمر القذافي (40 عاما) والذي يوصف من قبل كتاب عرب ساخرون بعميد الحكام العرب.
وغير هذا، يواجه اليمن الآن أصعب التحديات والمشكلات التي لم يعرفها من قبل، فيما تؤكد بعض التقارير أن ثلاث جمهوريات عربية على الاقل، من بينها اليمن، تمضي بشكل حثيث نحو توريث نظام الحكم الجمهوري.
وبرغم ما تحقق للبلاد طوال 32 عاما، الا ان تلك التقارير تشير إلى أن التحديات الحالية تكاد تنسف كل ما تحقق للنظام ولليمن مجتمعا ودولة خلال العقود الماضية. وفي السنوات الاخيرة تحديدا، برزت أكثر هذه التحديات المركبة، وركزت أنظار العالم على اليمن، اذ تردد وسط "كومة" التحليلات القلقة والمتعددة سؤال مفاده: ما الذي يحدث في اليمن؟.
انه سؤال "الدجاجة والبيضة" والذي أصاب الكثير من المراقبين للاوضاع اليمنية بحالة اعياء شديد نظرا للتعقيدات والتناقضات التي تراكمت على مدى سنوات. وبحسب ما تخبرنا كتب التاريخ المعاصر، فقد كانت سنوات الصعود إلى السلطة مرحلة عصيبة بالفعل، حيث يكفي الاستشهاد بمقتل ثلاثة رؤساء يمنيين في ظرف أقل من 9 أشهر. غير أن السياسة التي اعتمدها الرئيس في البدايات الاولى لحكمه، حصدت استحسان واعجاب الكثيرين، ذلك أنها أعادت الثقة والاطمئنان إلى نفوس اليمنيين وحققت استقرارا داخليا مطلوبا في تلك المرحلة المضطربة من نهاية عقد السبعينات.
ويسود في أوساط الباحثين والمهتمين ما يشبه الاجماع على أن "سياسة التوازنات واللعب على التناقضات" هي السمة التي ميزت حكم الرئيس علي عبد الله صالح على مدى 32 عاما من الحكم، كما يرجع الكثيرين منهم، سبب بقائه كل هذه المدة الطويلة في الحكم إلى اعتماده تلك السياسة.
وخلال أربع سنوات فقط منذ العام 1978م وحتى عام 1982م، ظهرت أولى ثمار تلك السياسة، حينها كان نشاط ما يعرف ب " الجبهة الوطنية" في المنطقة الوسطى والمدعومة من نظام الجنوب، يشهد ذروة نشاطه ويهدد نظام الحكم في الشمال بشكل كلي، ولم يتوقف ذلك التهديد الا بعد ان مد الاخير شبكة تحالفات ونسج علاقات امتدت إلى الشطر الجنوبي من الوطن.
ولذلك، عندما اقترب موعد الانجاز التاريخي الاهم في حياة اليمنيين، لم يتردد الرئيس صالح في طرد زعيم التيار الجنوبي الذي خسر أحداث 13 يناير86م، إلى المنفى، رغم انه كان يعده من الحلفاء، وذلك بناء على طلب الشريك الجديد للوحدة والطرف المنتصر في تلك الاحداث.
وبقيام الوحدة اليمنية، تعرضت علاقة الرئيس مع التيار الاسلامي الذي مثله التجمع اليمني للاصلاح لبعض الضرر عدة أشهر، ثم سرعان ما عادت إلى سابق عهدها وأكثر خاصة مع تصاعد الخلافات بين شريكي الوحدة واتجاههما للحسم العسكري الذي تفجر في حرب صيف 94م.
وعند هذه المحطة، ربما ليس جديدا القول بأن نظام الرئيس علي عبدالله صالح دخل الحرب معززا بتحالفات كثيرة في الداخل وليس الخارج بما في ذلك مع الطرف الجنوبي الذي سبق ان طرد زعيمه والمحسوب عليه إلى منفاه في دمشق.
وبعد انتهاء الحرب، بدأت مرحلة جديدة من التوازنات، لكنها المرة الاولى التي شعر فيها النظام تقريبا بزوال ما كان يعد ب "الخطر الاكبر" للحكم، ومع بدء هذه المرحلة، بدأ العد العكسي لنجاح تلك السياسات بعد أن استنفدت أغراضها أو هكذا جرى التفسير.
ومنذ اندلاع أحداث صعدة في عام 2004م، ثم ظهور حركة الاحتجاجات الجنوبية المتصاعدة والمطالبة بفك الارتباط عن الوحدة، أعادت النقاشات والتحليلات المكثفة تلك السياسة التي أدمنها الرئيس، إلى الواجهة وبصورة غير مسبوقة.
يقول الصحفي العربي غسان شريل "تبدو اللعبة اليوم أكثر تعقيدا. ولعلها تحتاج إلى مقاربات جديدة مختلفة عن اسلوب الإفادة من التناقضات بين الثعابين واستخدام بعضها ضد الآخر ثم تصحيح التوازنات والتحالفات. مقاربات تتعلق بالمشاركة في السياسة والتنمية وغيرها".
والشاهد أن الرئيس لم يتوقف في كل مراحله عن اللعب على التناقضات والاستفادة منها، لكنها هذه المرة، وحسب عديد مراقبون، تبدو صعبة جدا عليه، فهو سبق ان استخدم حزب الإصلاح في ضرب شريك الوحدة وهو الحزب الاشتراكي كما استخدم الحركة الحوثية والسلفيين وتيار الصوفية في تحجيم الإصلاح، ونجح في شق بعض الاحزاب واستنساخ أخرى، لكن اللعبة ليست دائما موفقة.
عودة قطر.. ولعبة التناقضات الاقليمية
وفي الوقت الذي يؤكد فيه المراقبون فيما يشبه التحذير من تلك السياسة التي يقولون بأنها تحتاج إلى مقاربات جديدة واعادة نظر بعد تقادم اللعبة وانتهاء صلاحيتها، تشهد التحركات اليمنية الخارجية محاولات دؤوبة لتعميم التجربة ونقلها إلى الخارج.
زيارة أمير قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني إلى صنعاء في الاسبوع الماضي تأتي في هذا السياق. وفسرت مصادر سياسية هذه الزيارة المفاجئة بأنها تنطوي على أبعاد سياسية واضحة في مقدمتها رغبة صنعاء للعب على التناقضات الاقليمية التي برزت خلال السنوات الاخيرة على شكل محاور واحلاف ما يسمى بالاعتدال والممانعة.
وغير ما ترشح رسميا عن هدف الزيارة، فقد جاءت بعد فتور واضح ميز العلاقات اليمنية القطرية منذ قمة الدوحة من اجل غزة العام الماضي والتي امتنع اليمن عن حضورها بعد ان كان اول الداعين اليها، كما سبق لرئيس الجمهورية أن وصف الوساطة القطرية في صعدة بالفاشلة، وقال ان الوساطة القطرية هي من شجعت الحوثيين للتمادي على الدولة.
ومع أن دخول قطر منتصف عام 2007م على خط الوساطة في صعدة، كان أمرا مفاجئا ومثيرا للتساؤلات، الا أن التفسيرات السياسية لم تذهب بعيدا عن تلك السياسة التي طالما وصفت ب"اللعبة الوحيدة" التي أدمنها نظام الحكم في اليمن خاصة حاجته للافادة من التناقضات المعروفة بين سياسة الدوحة والرياض، وكذلك بعد ان سجلت الاحداث في صعدة ما عد محاولات يمنية رسمية لجر السعودية إلى مربع الحرب.
وجاءت القمة العربية الاخيرة في مدينة سرت الليبية لتشهد العلاقات اليمنية القطرية ما وصفته المصادر المتعددة بكسر حاجز الجليد الناشئ بينهما منذ قمة الدوحة من اجل غزة، حيث جرت تفاهمات ومصالحات ثنائية بين رئيس الجمهورية وأمير قطر على هامش القمة.
وأعقب رئيس الجمهورية القمة العربية في ليبيا بزيارة مفاجئة إلى الدوحة استمرت ساعات فقط. ووصفت مصادر متعددة تلك الزيارة بأنها طوت صفحة من علاقات البلدين وفتحت أخرى. وفي الاسبوع الماضي، تفاجأ مراقبون بما توصلت اليه المباحثات الثنائية في صنعاء والاعلان عن اتفاق الجانبين على اعادة تفعيل بنود اتفاقية الدوحة.
ويكمن عنصر المفاجأة في التطورات التي جرت على مستوى الاحداث في صعدة بما في ذلك تفجر حرب سادسة وصفت بأنها الاعنف والاشرس في تطوراتها وتداعياتها الاقليمية والدولية. وفي فبراير الماضي، أعلن عن توقف تلك الحرب بناء على الشروط الستة المعلنة رسميا، وقبل أسبوعين تم الاعلان عن اتفاق جديد مع الحوثيين من 22 بندا تتضمن تنفيذ ما تبقى من النقاط الست.
في هذه الاثناء، طفت إلى السطح الزيارة المفاجئة لامير قطر والتاكيدات الرسمية على اعادة تفعيل بنود اتفاقية الدوحة. وكان لافتا اصرار رئيس الجمهورية في المؤتمر الصحفي الذي اختتم المباحثات على اضافة بند سادس لاتفاقية الدوحة، وهو ضرورة التفاهم مع السعودية بشأن الحوثيين، معيدا التذكير بنفس الاصرار اليمني السابق لاضافة الشرط السادس إلى اتفاق فبراير مع الحوثيين والذي نص على عدم الاعتداء على السعودية.
ومع ان الرئيس استبق هذه الزيارة باجراء اتصال هاتفي مع الملك عبد الله بن عبد العزيز، الامر الذي فسر على انه محاولة لتبديد أي شكوك والتأكيد على أهمية اشراك السعودية في أي مباحثات واتفاقيات مع قطر بخصوص الحوثيين، الا أن مؤشرات التأزم في علاقات صنعاء والرياض، برزت في أكثر من اتجاه خلال الاونة الاخيرة.
و إلى جانب ما وصف بعودة الدفء للعلاقات اليمنية الليبية خصوصا بعد حضور رئيس الجمهورية القمة الخماسية في ليبيا أواخر الشهر الماضي، وقبله زيارة نجله العميد ركن أحمد علي عبد الله صالح والذي قالت المصادر في حينه بأنه حمل رسالة شخصية من رئيس الجمهورية إلى القذافي.
أظهرت الساحة المحلية في الاسبوعين الماضيين رسالتين واضحتين على الاقل، الاولى كانت من قبل مجلس النواب الذي تذكر أوضاع المغتربين اليمنيين في السعودية، والثانية من جانب وزير التعليم العالي صالح باصرة والذي طالب السعودية بدعم اليمن وحذرها من انتقال المشكلات اليها، معيدا التذكير بتصريحات المسؤولين اليمنيين في ظروف مشابهة.
والسؤال الملح، ماذا بعد زيارة أمير قطر إلى صنعاء ؟ هل سوف نشهد تحسنا في العلاقات مع قطر على حساب السعودية؟ أم علاقة متوازنة في اتجاهين وفي ضوء تفاهم مختلف الاطراف؟.
داخليا، نجحت "سياسة التوازنات واللعب على التناقضات" فترة من الزمن، ثم ارتدت على شكل انفجارات في أكثر من مكان بعد أن تم استمراء اللعبة وكأنها الوحيدة. وخارجيا، لايزال اليمنيون يدفعون ثمن موقف الغزو العراقي للكويت حتى اليوم، فهل دنت ساعة الحقيقة والعبرة من ما مضى؟
العنوان: اللعبة الوحيدة التي أدمنها الرئيس اليمني.. الرقص على رؤوس المتناقضات