arpo28

اليمن في كتاب "حياة في الإدارة" للدكتور غازي القصيبي

بعد صراع طويل مع المرض، غيب الموت في العاصمة الرياض الأحد قبل الماضي (15 أغسطس 2010م) الأديب والشاعر والسفير والوزير الدكتور غازي عبدالرحمن القصيبي عن عمر ناهز السبعين عاما، وبرحيله فقدت الأمة العربية والإسلامية أحد أهم رجالاتها المخلصين.. رحمه الله ترك بصمة إبداع ونجاح في كل مجال، في الأدب والسياسة والإدارة والقانون والصحافة..

القصيبي المولود في الثاني من مارس عام 1940م بمنطقة الهفوف بالمملكة العربية السعودية شغل عدة مناصب حكومية وكان شعاره الشهير "اليد التي ما تسرق ما تخاف"، عمل سفيراًً في عدد من الدول، وصل عدد مؤلفاته إلى أكثر من ستين مؤلفاً في مجالات مختلفة، ويعد كتاب (حياة في الإدارة) أشهر ما نشر له، والأكثر مبيعا، والذي تناول فيه سيرته الوظيفية وتجربته الإدارية حتى تعيينه سفيراً في لندن، حيث يقول الإعلامي اللبناني المعروف فؤاد مطر عن الكتاب بأنه يتحدث عن الانجازات بطريقة توغر صدور عشرات الذين تسلموا مناصب وزارية، وتمنى الوزير السعودي عبدالرحمن السدحان أن يقرأه كل وزير وكل مدير وكل من ولي مصلحة عامة.. وفي هذا الكتاب كان لليمن نصيب، وهو ما سنورده في هذه السطور..

* بلد تمزقها الحروب
يقول القصيبي في كتابه (حياة في الإدارة)، طبع سبع مرات أولها في 2008م وآخرها في 2010، يقول انه قضى العطلة الصيفية عام 1964م في الجامعة الأمريكية في بيروت لدراسة الإدارة العامة تمهيدا لتدريسها العام المقبل، انتهى الصيف، وعدت إلى الرياض، وبدلا من أن أبدأ التدريس وجدت أن على أن أسافر إلى اليمن خلال ثلاثة أيام، حيث حدث أن الملك فيصل والرئيس جمال عبدالناصر، رحمهما الله، وقعا اتفاقية في جدة لإنهاء الحرب الأهلية هناك، ونصت الاتفاقية على إنشاء لجنة سلام تشرف على تطبيق بنودها وتتكون من جانب سعودي وجانب مصري، ويتولى رئاسة كل جانب مسئول كبير.

اختارت المملكة عبدالله السديري، وكان وقتها وكيل وزارة الداخلية لشئون البلديات، ليرأس الجانب السعودي، والذي بدوره بحث عن مساعد إداري وعن مستشار قانوني ينضمان إليه في اللجنة التي كانت مكونة في مجملها من العسكريين، ولم يطل البحث، حيث اقترح احد أصدقائه أن يكون القصيبي المستشار القانوني، ورفعت الترشيحات إلى الملك فيصل، وجاء الأمر بالموافقة، وغازي لا يعلم شيئا عن ذلك حتى عاد إلى الرياض.. كان القصيبي لا يريد الذهاب إلى اليمن للعمل في بلد تمزقها الحروب والقلاقل وفي ظروف تعرض المرء للخطر لكن أمر الملك صدر ولا أحد يستطيع تغييره، "فوجئت بتكليف محفوف بالمصاعب والمخاطر، ولو كنت استطيع الاعتذار عنه لما قبلته".

ويقول أنه ذهب لزيارة رئيسه الجديد، عبدالله السديري، في منزله في الليلة التي سبقت سفرهم إلى اليمن، ولم يكن قد تعرف عليه قبل ذلك، وأثناء حديثهم زاره مسئول سعودي عسكري "ليطمأنه" بأن كل المواقع العسكرية الجمهورية قد أحيطت علما بالطائرة التي تقلهم وخط سيرها، وأنه لا يوجد خطر يذكر من هذه الناحية، لكن السديري سأله عن المواقع الملكية، فرد المسئول: "الحقيقة أننا لم نتمكن من الاتصال بها كلها حتى الآن".. القصيبي قال انه حينها نظر إليه عبدالله وابتسم، وابتسم هو، وعلى هذا النحو "المطمئن" بدأت المهمة في اليمن حد قوله، مضيفا: "أدى سفري إلى صنعاء إلى تحولي بغتة من نظريات العلاقات الدولية إلى واقعها الدامي، كانت الطائرة (الكونفير) تهتز فوق الجبال اهتزازاً عنيفاً جعلنا نعتقد أن بعض المواقع لم تتلق الرسالة"..

لفت نظره فور وصولهم إلى مطار صنعاء تلك الأعداد الهائلة من الطائرات الحربية المصطفة رتلا خلف رتل في المدرجات، وبعد خروجهم من المطار قال أنهم قابلوا صفوف لا أول لها ولا آخر من الدبابات والمدرعات والسيارات العسكرية بأنواعها، فيما أمضت السيارة وقتاً طويلاً وهي مندفعة بسرعة كبيرة قبل أن تجتاز كل الصفوف. ويضيف غازي: "عند قيام ثورة اليمن في سنة 1962م كنت مثل معظم الشباب العرب من جيلي، وأوشك أن أقول كلهم، متحمساً للثورة وللتدخل المصري الذي تبعها، عندما رأيت بعيني، وما راءٍ كمن سمعنا، هذه القوة الضاربة الهائلة متمركزة في اليمن، بعيدة كل البعد عن ميدان المعركة الحقيقية في فلسطين، أدركت أن هناك خللاً ما، لا يمكن، كائنةً ما كانت الأسباب والمبررات، أن يخوض أكثر من ثلث الجيش المصري غمار حرب أهلية عربية".

* التورط المصري
ويورد المؤلف عن الرئيس جمال عبدالناصر قوله للملك فيصل أثناء توقيع اتفاقية السلام في جدة في خريف سنة 1965م أن أنور السادات هو الذي أقنعه بالتدخل باعتبار أن ظهور طائرة واحدة كفيل بإفزاع القبائل اليمنية، وأضاف الرئيس المصري ضاحكاً إن على الملك فيصل أن يحاكم السادات باعتباره سبب الكارثة.. ويعلق القصيبي على ذلك بالقول: "حقيقة الأمر، كما يعرف الجميع، أنه لم تكن لأحد في عهد الرئيس عبدالناصر كلمة بجانب كلمته، ولم تكن لأنور السادات بالذات، كما يعرف الجميع، أي كلمة، يبقى القرار في نهاية المطاف مسئولية القائد الذي اتخذه ومسئوليته وحده بصرف النظر عن الآراء التي استمع إليها قبل اتخاذه، إن كان قد استمع إلى آراء من أحد"، ويستطرد: إن كان لابد من تحديد مسئول حقيقي عن التورط فإن المسئولية تقع على نقص المعلومات، لم يكن عبدالناصر، أو أحد من الذين كانوا حوله، يعرف شيئا عن اليمن، تاريخاً وشعباً وجغرافية وتقاليد وعادات، لم تكن عند الجيش المصري في بداية التدخل خرائط لليمن واضطر إلى الاستعانة بخرائط أعدتها بريطانيا في مطلع القرن العشرين.

وباعتقاد الدكتور غازي فإن الرئيس المصري كان يعتقد بالفعل أن تدخلا عسكريا رمزيا يكفي لتوطيد دعائم الجمهورية الوليدة، لكن جاء التصعيد على جرعات، كما حدث للجيش الأمريكي في فيتنام، وقارن هذا الموقف بموقف الملك عبدالعزيز، رحمه الله، من اليمن نفسها، حيث كان والد القصيبي، رحمه الله، في أوروبا خلال الحرب السعودية اليمنية سنة 1934م، وما أن سمع بها حتى أسرع بالعودة ليساهم في المجهود الحربي، واكتشف فور عودته أن الملك عبدالعزيز أمر بوقف قواته المتقدمة في اليمن ثم أمر بسحبها، واستغرب أبوه هذا الموقف وأبدى استغرابه أمام الملك عدة مرات، وفي النهاية استدعاه الملك وقال له وهما على انفراد: "يا عبدالرحمن، أنت لا تعرف شيئاً عن اليمن، هذه بلاد جبلية قبلية لا يستطيع أحد السيطرة عليها، كل من حاول عبر التاريخ فشل، وكانت الدولة العثمانية آخر الغزاة الفاشلين، لا أريد أن أتورط في اليمن وأورط معي شعبي".

ويؤكد المؤلف أن عبدالناصر اقتنع فيما بعد أن التورط في اليمن كان خطأً من أكبر الأخطاء التي ارتكبها في حياته، وخلال مؤتمر القمة الذي انعقد في القاهرة قبيل وفاته سنة 1970م، طالب العقيد معمر القذافي بتدخل عسكري عربي لوقف الاقتتال بين الجيش الأردني والمقاومة الفلسطينية في الأردن، إلا أن عبدالناصر اعترض فوراً على الفكرة، وقال للرئيس الليبي: هل تريد أن تكرر الخطأ الذي وقعت فيه عندما تدخلت في اليمن؟..

ويصل القصيبي من ذلك إلى نتيجة سياسية محددة وهي: على صانع القرار ألا يتخذ أي قرار إلا إذا اكتملت أمامه المعلومات خصوصا إذا كان صاحب القرار رئيس دولة لأنه يمكن أن يؤدي إلى كارثة، مضيفا: العالم العربي يعيش اليوم حالة تمزق بدأت باحتلال الكويت، هذه الفاجعة التي شقت الأمة العربية وحطمت العراق، وقعت لأن زعيماً واحداً اتخذ قراراً دون أن يكلف نفسه عناء الإحاطة بكل المعلومات التي كان عليه أن يحيط بها.

* قصة شيخ قبيلة
سكن الجانب السعودي في اللجنة عمارة صغيرة في صنعاء تقع في شارع الشهيد علي عبدالمغني، وسرعان ما تبين أن الأوضاع الأمنية المضطربة في العاصمة جعلت من السكن إقامة جبرية، لا يغادروها إلا تحت حراسة مشددة، يواصل غازي: ذهبنا مرتين أو ثلاث مرات إلى دار سينما قرب المنزل ثم امتنعنا عن الذهاب عندما تعرضت الدار لهجوم بالقنابل، ولا يدري أحد منا حتى هذه اللحظة، هل كان للهجوم علاقة بوجودنا أو برداءة الأفلام المعروضة.

ويقول: زاد في تعقيد حياتنا تلك العلاقة الغريبة بين الحكومة اليمنية وبين قيادة الجيش المصري، فمن الناحية النظرية، كانت السيادة التامة للحكومة اليمنية، ومن الناحية الفعلية، لم يكن بوسع الحكومة اليمنية اتخاذ أي قرار ذي شأن دون الرجوع إلى قيادة الجيش المصري، وهكذا كان على لجنة السلام أن تتعامل لا مع الحكومتين المصرية والسعودية فحسب، بل بالإضافة إليهما مع حكومة صنعاء ومع الجانب الملكي ومع قيادة الجيش المصري التي لم تكن آراؤها تتفق دائماً مع آراء القاهرة!

إنها مهمة صعبة إذن يصفها بالقول: "كانت المهمة تتطلب صبرا لا حدود له وقد أتقنا جميعا، تلك الأيام، مهنة الصبر، كانت الوسائل التي لجأنا إليها لا تخلو من طرافة"، ورحم الله المؤلف قال إذا مد الله في عمره، سيكتب كتاباً عن الطرائف في حياته وسيكون لتلك الأيام نصيب لا بأس به من الكتاب، وهو ما كنا نتمناه لكن الأقدار بيد الله.

ويذكر في هذا المجال قصة واحدة توضح كيف أتقن رئيسه السديري التعامل وبكل صبر مع نظيره المصري الفريق محمد فريد سلامة، رحمه الله، والذي كان عسكرياً من الطراز التقليدي، وسبق له أن درس الرئيس عبدالناصر في الكلية الحربية، فكان بالعقلية العسكرية الخالصة لا يرى إلا العدو أو الصديق، والأسود أو الأبيض، وفي إحدى المرات كان هناك جبل بقرب صنعاء (لم يسمه)، تسيطر عليه قبيلة تنتمي إلى الجانب الملكي، وكان من مهمة اللجنة تسهيل تبادل الأسرى، وكانت تلك القبيلة تحتفظ بعدد من الجنود الأسرى المصريين..

يسرد القصيبي القصة: "بدأنا التخاطب مع شيخ القبيلة لإنهاء موضوع الأسرى، كانت المشكلة أن شيخ القبيلة الذي خاض عدة معارك استعذب الأسلوب العسكري فقرر أن يمنح نفسه رتبة عقيد، وكان يرقي نفسه بين الحين والحين، حتى وصل إلى رتبة لواء في الوقت الذي بدأت فيه لجنة السلام ممارسة أعمالها، أرسلنا رسالة إلى شيخ القبيلة وكانت معنونة إلى الشيخ فلان، إلا أن الشيخ أصر على رفض الرسالة ما لم تكن موجهة إلى اللواء فلان". ويضيف: اتفقت مع رئيسي أن المهمة الإنسانية التي نحن بصددها تبيح لنا تسمية الشيخ بأي رتبة عسكرية يختارها، إلا أن الفريق الحقيقي محمد فريد رفض بإصرار أن يمنح إنساناً لم يدخل الكلية الحربية لقب لواء، بعد جهد جهيد تمكن عبدالله السديري من إقناعه أن الغاية النبيلة تبرر الوسيلة ووافق، بامتعاض واضح، على توقيع الرسالة إلى "اللواء"، وبلغة ساخرة يقول القصيبي: "لا بد أن أذكر للتاريخ أن "اللواء" لقي مصرعه بعد ذلك في معركة حربية، لا أدري بأي رتبة مات، وإن كنت لا أستبعد أن تكون رتبة المشير".

* مؤتمر حرض
انعقد مؤتمر حرض الذي كان يفترض أن ينتهي بحكومة ائتلافية مؤقتة من الجانبين المتحاربين تمهد لحكومة دائمة إلا أن المؤتمر وبعد شهر من المداولات المستمرة لم ينجح في الوصول إلى هذه النتيجة، ومع بداية السنة الجديدة 1966م كان من الواضح أن السلام المطلوب لن يتحقق، وفي ضوء ما تكشفت عنه الأحداث أصبح من الواضح أنه لم يعد للجنة السلام أي دور، ولذلك عاد الجانب السعودي في ربيع ذلك العام.

ويتحدث الدكتور غازي: خلال فترة الهدنة أعادت القوات المصرية انتشارها وتمركزت في مثلث صنعاء – تعز – الحديدة، تاركة المناطق الجبلية لولاء القبائل الذي كان يتغير مع ولاء المشايخ الذي كان يتغير بين الحين والحين، بلا سابق إنذار، مضيفا: ظلت الأمور في اليمن مضطربة إلى ما بعد حرب حزيران وانسحاب الجيش المصري، فشل الجانب الملكي في اقتحام صنعاء وتوطّدت الأمور للجمهورية الوليدة بعد انسحاب الجيش المصري، لم يعد يهم المملكة ما يدور في اليمن، وسرعان ما اعترفت بالجمهورية.

وفي عام 1967م غادر القصيبي نحو العاصمة البريطانية لندن، ليحضّر الدكتوراه هناك، وكتب رسالته حول حرب اليمن، حيث انطوى بحثه على ثلاثة أقسام، الأول تناول بالتحليل السنوات الأخيرة من الإمامة، والقسم الثاني درس فيه بالتفصيل الثورة التي أطاحت بالإمامة، والأخير عالج فيه رد الفعل المصري والسعودي بعد الثورة، ثم عاد إلى الرياض عام 1971م ليبدأ مشواره في خدمة وطنه حتى وفاته رحمه الله.

زر الذهاب إلى الأعلى