عمل انعدام الطاقة على تدهور نمط معيشة السكان في اليمن، الذي تواكب مع تغيُّر مرحلي في السلوك الاقتصادي لتعويض افتقاد هذه المادة والخدمة الأساسية.
وبدأت ملامح تغيُّر السلوك باستخدام بدائل تقليدية مختلفة رافقها اعتماد أشد شرائح المجتمع ضعفاً على القوة البدنية كلما أمكن ذلك من أجل الوفاء بالعديد من حاجات أسرهم. وكانت أبرز تلك الوسائل رفع الماء يدوياً من الآبار والخزانات الأرضية والمشي واستخدام الدراجة الهوائية وغيرها.
إذ مع اشتداد أزمة انعدام الطاقة، مرّ السكان بمراحل مكلفة مالياً للحصول على بدائل للطاقة، مثل ألواح الطاقة الشمسية وإبدال خزانات البنزين بخزانات الغاز الخاصة بالمركبات، حيث ارتفعت كلفتهما بنسبة 300 و500% على التوالي، بسبب زيادة الطلب عليهما في ظل توقف الاستيراد. فنظراً لحاجة السكان للأولويات الأساسية، مثل الغذاء والمياه، بدأوا بابتكار واستخدام مواد أكثر رخصاً وتوفيراً، وصولاً إلى صنع الوقود.
كانت مدينة تعز محاصرة تماماً بسبب تحكّم أطراف القتال بمنفذيها الوحيدين، إلا أن سكانها كانوا أول من صنع وقود المركبات ومولّدات الكهرباء المنزلية بمزج الديزل (السولار) وزيت المحركات، بكثير من زيت الطهي الرخيص للحصول على أداء أفضل ولزمن أطول، بحسب مستخدمي التجربة.
وقد ساعدت هذه الطريقة على تحسين نمط المعيشة عبر إنارة المنازل وتشغيل أجهزتها، كما مكّنت التجار من حسم فارق السعرين من كلفة البضائع المشمولة فيها كلفة الوقود، ما أفضى إلى خفض أسعار البضائع.
لعلّ من أكثر المستفيدين من الأزمة هم مالكو الدراجات النارية الذين يكسبون عيشهم بنقل الأفراد على الدراجات. لقد ربط بعضهم دراجته بحاوية غاز صغيرة قيمتها 10 دولارات، مستغنياً عن البنزين. غير أن اشتداد أزمة الغاز جعلت آخرين يهتدون إلى نوع جديد من الوقود المتوفّر، وهو سائل "السبيرتو" الكحولي المستخدم في تطهير الجروح، والذي يزيد سعره بنسبة 250% عن قيمة البنزين. إلا أن مالكي الدراجات يتقاضون من الركاب أجرة تزيد بنسبة 400% عن الأجرة المعتادة.
يقول المحاضر في جامعة صنعاء في علم الاجتماع، د. محمد الحداد، لـ"العربي الجديد"، إن مثل هذه الابتكارات هي سلوك اجتماعي معتاد، جاء نتاجاً للحاجة الملحة، وعادةً ما يقوم بها مهندسو الماكينات بفضل علمهم بآلية عمل المحركات وخواص الوقود، وكيفية البحث عن خواص مشابهة أكثر رخصاً. "لجوء الناس إلى الابتكار هو وسيلتهم للصمود في وجه الأزمات، وهذا سلوك إنساني يحدث في كل المجتمعات، ولذلك نرى الكثير من تجارب خفض الفقر تأتي من أرياف الهند أو سريلانكا أو كينيا مثلاً".
أمّا الطالب الثانوي عبد السلام الفقيه، المقيم في صنعاء، فلم يستغرق الأمر معه أكثر من يومين لابتكار وسيلة جديدة لتسخين المياه من أجل الاستحمام، عبر حجز المياه في قناني مياه بلاستيكية مطلية باللون الأسود ومرتبطة بعضها ببعض عبر أنابيب تنتهي بصنبور الماء الدافئ. يقول الفقيه إنه لم يكن لينفذ ابتكاره لولا انعدام الكهرباء والغاز.
وفي مديرية عُتُمة الريفية، إحدى أفقر مديريات محافظة ذمار وسط اليمن، يشرح خرّيج كلية العلوم حسين بادي، لـ"العربي الجديد"، كيف صنع غاز الطهي باستخدام المخلّفات البشرية، بعدما اطلع على خطوات إنتاج غاز الطهي من المخلّفات العضوية الحيوانية، مع قيامه أيضاً بتحوير منشأة توليد الغاز. نجحت تجربة بادي بطريقة صديقة للبيئة ومستدامة، برغم أن عملية بناء منشأة توليد الغاز مكلفة. كما نجح أحد أبناء الريف في صناعة طاحون حبوب يدور على الطاقة الميكانيكية الحركية عبر إدارة القدمين لسلسلة تحرك التروس المرتبطة بحجر يسحق الحبوب على حجر مقابل.
اقرأ أيضا: دول عربية مأزومة تعيد المواطن إلى العصر الحجري
أما الأسر النازحة التي لا تملك شيئاً، فقد اهتدت إلى طرق أبسط عملياً واقتصادياً بصنع موقد شبه مجاني من صفيحة السمن الفارغة التي يتم حشوها بنشارة الخشب أو قشور جذوع الأشجار. وتم التوصل إلى تجارب ناجحة في شحن الهواتف النقالة عبر ربطها ببطاريات السيارات أو بالبطاريات الجافة.
تقول المتخصصة في تمكين المجتمع الريفي، خلود الحاج، إنه من المهم أن تقوم مراكز البحوث وتطوير المجتمع بتوثيق الابتكارات الأخيرة من أجل دراسة جدواها الاقتصادية وتطويرها. فقد يشكّل بعضها حلاً مستداماً للفقراء أو نواة أساسية لبدائل فعّالة واقتصادية طاقوياً وبيئياً، خصوصاً في الريف الذي يحوي المواد العضوية الأولية المكونة للوقود البديل.