إلى أربعة أعوام خلت، لم تكن الحكومة التركية تعلم بوجود 2.500 من أحفاد جنودها العثمانيين يعيشون سويّاً في قريتين نائيتين، 150 كلم شمال غرب العاصمة اليمنية صنعاء. في المحويت، أجمل محافظة ريفية، تتجاور قريتا "بيت التركي" و"بيت الكردي"، وتفصل بينهما طريق قصيرة وصعبة، لكن لا يزال أبناؤهما يتزاورون ولم يتنازعوا يوماً.
لا يعرف عنهم اليمنيون شيئاً، لكن من جاورهم من أبناء تلك المنطقة النائية لا يدركون كثيراً اختلافهم عنهم، بالرغم من الانطباع السائد لدى معظم اليمنيين أن الأتراك كانوا غزاة وبأن اليمن كانت يوماً ما تسمى "مقبرة الغزاة الأتراك"، بينما يقول القليل من بقايا الأتراك في اليمن إن أجدادهم جاؤوا لتحرير اليمن من الوجود البرتغالي حين كانت اليمن ضمن دولة الخلافة العثمانية في القرن السادس عشر.
هؤلاء لا يعرفون أحداً في تركيا ولا يعرفهم منها أحد. كانت الصدفة فقط هي ما أوصلت فضوليّاً تركيّاً كان يعبر طريق المحويت ليرى على جانبه لوحة باسم "بيت التركي" ليستطلع بنفسه الأمر، وليبدأ بعدها تنسيق أول علاقة لهم بالسفارة التركية، ولتكون تلك أول خطوة أوصلتهم إلى أرض المطار لاستقبال الرئيس التركي عبدالله غُل في زيارته الأخيرة لليمن عام 2011.
لم يعد أبناء القريتين يمتلكون ملامح الترك كثيراً وإن حمل بعضهم العيون الخضراء أو شعراً أصهب. توارثوا بعضاً من فلكلور وثقافة عثمانية وبضع كلماتها القديمة لتجعلهم محل دراسات أنثروبولوجية وتاريخية لباحثين أتراك أخيراً. يهتمون بالمجلس العام للقرية، "الديوان"، الذي حولوه إلى مركز ثقافي سياسي يزدان بأعلام تركيا والصور الكثيرة عن الزعامات التركية الاستثنائية، بمن فيهم السلطان عبدالحميد الثاني وأتاتورك وأردوغان. كما تحمل جدران الجهة المقابلة صور الشخصيات الكبيرة التي زارت اليمن والقريتين.
يقول كبير "بيت التركي"، محمد علي التركي، إن أجدادهم الضباط في الجيش العثماني، مثقال إبلاغ ومصطفى حكمت باشا وعلي يلمظ باشا، أسسوا القريتين وكانوا يمتلكون أراضي وأملاكاً شاسعة، وأبناء القريتين يمتلكون وثائق ملكية للعقارات يصل عمر أقدمها إلى 400 عام.
ويصرح التركي، أن أبناء القريتين يحملون جميعاً أسماء يمنية وليس تركية كعلامة لمدى الاندماج في المجتمع اليمني وشعورهم بالملكية الوطنية، ولهذا اختاروا البقاء على الأرض اليمنية على العودة إلى موطن آبائهم. ويضيف "في ذات الوقت الذي نعتز بانتمائنا إلى الخلافة التي كانت الأكبر في العالم في زمن ما وهيمنت سياسياً على أوروبا، فإن هذا الاعتزاز لا يقلل من فخرنا بيمنيتنا التي لا تقل درجة عن القيم الأصيلة للعثمانيين".
وفي بيت الكردي، يعترف المعلم حسين سعد الكردي، أحد أحفاد الضابط الكردي مثقال إبلاغ، أن أبناء المنطقتين يتضايقون حينما يسمعون الوصف العنصري ضدهم بأنهم "أحفاد الغزاة"، ويتحرشون بهم بتذكيرهم بمعارك انتصر فيها اليمنيون على العثمانيين. ويرجع الكردي المشكلة إلى أن المناهج الدراسية وكاتبي التاريخ اليمني يصفون الخلافة العثمانية على اليمن بالاحتلال، وهي وارثة الخلافات الفاطمية والعباسية وهي من حررت الوطن العربي من براثن المحتل الأوروبي وأتون التشرذم واقتتال الممالك المتآمرة على بعضها.
ويقول أيضاً "إن عاصمة الخلافة "أستانة" لم تتعمّد تنصيب مسؤولي أقطارها من تركيا، فآخر حاكم عثماني على اليمن كان "محمود نديم باشا" السوري في الفترة من 1906 حتى 1924، بينما كان قائد الجيش محمود العمراني باشا من مدينة عمران اليمنية".
ينبّه الكردي إلى أن غالبية اليمنيين يزعمون أن الأتراك لم يكونوا يهتمون إلا بآلات القتل والقتال في اليمن ليورثوا لليمنيين بقايا كل ذلك من المدافع والأسلحة والقلاع وغيرها. غير أنه يصحح الفكرة بأن الأتراك طوروا اليمن حضارياً كثيراً لأنها كانت المركز العسكري الإقليمي للخلافة العثمانية بسبب تحكّمها بمضيق باب المندب، الصمام الحامي لأقطار الخلافة جميعاً من أي اعتداء قد يأتي من شرق أفريقيا أو جنوب وجنوب شرق آسيا.
وكان مجمع مباني "العُرْضي" في صنعاء (وزارة الدفاع اليمنية حالياً)، من أكبر منشآت جيش الخلافة العثمانية لذلك السبب.
لكن العثمانيين أيضاً كانوا قد شجعوا العلم والصناعة العصرية، مثل الزجاجيات والنقوش الإسلامية وفن العمارة والمدارس والمستشفيات، ليتحول استخدام أغلبها بعد رحيلهم إلى أشياء أخرى غير ذات نفع. كما كانوا أول من أدخل الكهرباء إلى اليمن قبل أي قطر في شبه الجزيرة العربية وشغّلوا بها مضخات رفع المياه في مرافق بعض المساجد.