[esi views ttl="1"]
الفكر والرأي

أسرار العنف

الكراهية والنزوع إلى التدمير أحوال تشوش التفكير العقلاني والموضوعي وتخلق استقطاباً يتم فيه تعزيزهما على جانبي الطيف السياسي، وأعتقد أن مستقبل الجنس البشري يعتمد على التفكير العقلاني والفهم المتبادل، ولذلك فإن دراسة العنف تكتسب أهمية كبرى.

هل العنف وراثي في الطبيعة البشرية؟
الإجابة الإيجابية على هذا السؤال قديمة، من ثوماس هوبز مروراً بسيجموند فرويد وحتى كونراد لورنز. وكان الاعتقاد بأن الإنسان حيوان عدواني بالوراثة اعتقاداً صنعه فرويد في مبادئه حول غريزة الحياة وغريزة الموت، كما أسهم فيه المحللون النفسانيون الفرويديون الذين لم يتبعوا فرويد في تصوراته، ولكنهم استنبطوا وجود غريزة تدميرية لدى الإنسان. ويشاطرهم لورنز فكرتهم حول الغريزة التدميرية، ولكنه يربطها بتصورات تقول بأن العنف الموروث لدى الإنسان يرجع إلى عملية التطور التي انتقل بها الإنسان من عالم الحيوان (أي أنه دارويني في هذه النقطة بالذات). وحسب المحللين النفسانيين ولورنز، فإن العنف يتكون تلقائياً وبصورة عفوية في الجهاز العصبي وينمو ويتراكم، ولذلك يجب التعبير عنه لكي لا ينفجر فجأة حتى بدون قصد من الشخص. والعنف من وجهة النظر هذه لا يحتاج إلى إثارة أو استفزاز. وإنما ينشأ تلقائياً ويبحث حتى يجد تلك المثيرات التي تعطيه الفرصة للتعبير عن نفسه. ويصور لورنز الأمر في كتابه الموسوم (حول العدوانية) فيقول: "ليس لدينا في مجتمعنا عنف لأن لدينا أحزاباً سياسية مختلفة، لكننا أوجدنا هذه الأحزاب السياسية المختلفة المتعارضة لأننا نحمل العنف في داخل ذواتنا."
وهناك قضايا أو محددات عدة تضعها هذه النظريات: منها أن العنف يمكن توجيهه إلى أنشطة غير تدميرية، كالرياضة، والنشاط السياسي الديمقراطي، وأنه يمكن موازنته بتطوير مستمر لمشاعر الحب. ولكن النقطة المركزية في هذه النظريات تظل في قولها بأن العنف هو نتيجة لتفاعلات كيميائية تحدث ضمن الجهاز العصبي للإنسان، ولذلك فإن الإنسان تواجهه مهمة كبح هذه العدوانية الناشئة على الرغم منه، وأن يجد لتيارها الجارف متنفسات مفيدة وسليمة. وتحمل نظريات غريزة الموت والحياة لدى فرويد تصورات تقول بأن الميول العدوانية تخوض صراعاً مستمراً مع غريزة الحياة. وأكثر من ذلك أن الميول العدوانية إما أن تكون موجهة إلى الذات مسببة المرض والموت لصاحبها في النهاية، وإما أن تكون موجهة نحو الغير.
وجهة النظر المضادة
وهذا التصور عن كون العدوانية دافعا خلقيا (موروثا) في الإنسان له ما يضاده من وجهات النظر المرتبطة بها نوعاً ما. وأحد وجهات النظر المضادة هذه، هي تلك التي أشاعها فلاسفة التنوير الفرنسيون والقائلة بأن الإنسان طيب بطبيعته، وأن العدوانية فيه إنما تنشأ عن الظرف الاجتماعية التي تفسده. وهناك وجهة نظر أخرى نجدها لدى معظم علماءالنفس تقول بأن العدوانية والتدمير ليسا دافعين سواء بالمعنى الفرويدي أو بمعنى الدافع لدى لورنز، وأنهما ليسا وراثيان في الطبيعة والإنسان، ولكنهما سلوكان يتم تعلمهما.
وجهة النظر الثالثة تم تقديمها أساساً بواسطة جون دولارد وزملائه. وهي تقول بأن العدوانية هي النتيجة الملازمة للإحباط. وهذا يعني أنه لو امتنع الشعور بالإحباط لدى الناس فإنهم لن يكونوا عدوانيين أبدا، أو بعبارة أخرى العنف ليس شيئاً موروثاً في الطبيعة البشرية.
بين وجهتي النظر
وتطرح وجهات النظر المختلفة هذه حول أسباب العدوانية والتدمير لدى الإنسان صعوبات نظرية جمة. والمشكلة الأساسية في الفكرة القائلة بأن العنف دافع ينمو تلقائياً وعفويا،ً تكمن في التفاوت الكبير الملاحظ في مقدار العدوانية لدى الأفراد والمجتمعات. وتشير الأدلة الإكلينيكية والأنثروبولوجية إلى أن هناك أناساً ومجتمعات لديهم مقدار ضئيل من العدوانية والسلوك التدميري، سواءً ما كان منهما موجهاً نحو الذات أو نحو الغير. كما تشير الأدلة أيضاً إلى أن هناك أفراداً ومجتمعات يتصفون بقدر عالٍ من العدوانية والنزعة التدميرية. فإذا كانت العدوانية دافعا مثلها مثل الجوع والرغبة الجنسية، فإن هذه الفروق الكبيرة في درجات العدوانية والنزوع إلى التدمير لا يمكن تفسيرها. إضافة إلى أن الاعتبار البيولوجي الخالص للحجة السالفة يضعفها عند مقارنة الرغبة الجنسية بالنزوع إلى التدمير. فمن الناحية العلمية (الثيلولوجية) فإن الفطرة تهتم ببقاء الجنس البشري وانتشاره، ولذلك يمكن فهم كون الغريزة الجنسية رغبة قائمة ودائمة. ولكن الميل إلى التدمير من ناحية أخرى ليس له إلا وظيفة دفاعية حفاظاً على الذات عند تعرضها للعدوان. ولذلك فإن تصور أن هذا النوع له نفس طابع الرغبة الجنسية يفتقر إلى المصداقية من الناحية البيولوجية. ولابد من ذكر أن الدراسات الجسمعصبية تشير إلى أن مراكز العدوانية تقع في الجزء الأسفل من الدماغ الذي يمكن تحديده، ويوازنه مركز كبح. ولذلك فلا يمكن أن تنشأ فيه مشاعر عدوانية ذاتية التغذية تنمو تلقائياً وتتزايد حتى تنفجر كما طرحته النظريات المذكورة أعلاه.
أما التصور القائل بأن العنف والميل إلى العدوان لدى الإنسان ناشئ عن أثر تطويري في عملية ارتقاء الإنسان من عالم الحيوان، تنقضه حقيقة أن الثدييات وخاصة القردة العليا هي أقل عدوانية ونزوعاً إلى التدمير بكثير من الإنسان. ففي أوساطها لا وجود تقريباً لأي عملية قتل لفرد من الجنس ذاته، كما أنه لم يلاحظ في سلوكها قتل لمجرد القتل لأعضاء الفصائل الحيوانية الأخرى.
أما القول بأن الإنسان طيب بطبيعته وأن نزوعه إلى التدمير والكراهية ليسا إلا نوازع مكتسبة، فإنه لا يبدو قولاً ذا تعمق كاف في حجم وطبيعة وكثافة وتواتر التدمير والكراهية والعنف التي تجلت في التاريخ الإنساني. ومن جهة أخرى نجد أن العنف والتدمير لدى الإنسان متواتران ومكثفان إلى حد لا يمكن فيه مقارنتهما بما يجري من عنف وتدمير في المملكة الحيوانية. لذلك ينبغي إرجاعهما إلى ظروف محددة في الوجود الإنساني بدلاً من اعتبارهما إرثاً حيوانياً أو ضرورة جسمعصبية.
منهج لتفسير العنف
إن أي محاولة للحصول على تفسير لأسباب العنف لدى الإنسان يجب أن تبدأ بالتمييز بين مختلف ضرب العدوان، والتي تختلف كيفياً فيما بينها، وذات المنشأ المختلف. وطالما أن الإنسان يستخدم كلمة العدوان من جهة لوصف سلوك الطفل الذي يغضب لعدم حصوله على شيء يريده، ومن جهة أخرى لوصف عملية القتل، فإن الإنسان لن يتمكن من الوصل إلى فهم لمصادر السلوك العنيف والتدمير. وسأحاول هنا أن أقدم تخطيطاً موجزاً لأنواع العدوانية البشرية التي لاحظتها.
عنف رد الفعل
إن أكثر أنواع العدوانية انتشاراً هو عنف رد الفعل الدفاعي. يعرض كل نوع من أنواع الحيوانات هذا النوع من العنف عندما تتعرض مصالحه الحيوية كالحياة والإقليم والطعام والصغار وحرية الوصول إلى الإناث للتهديد، وهذا عندما لا يكون الهرب هو رد الفعل الأولي. وهذه التهديدات للمصالح الحيوية يجب أن تنطوي بالنسبة للحيوان على تهديد واضح وماثل حتى تثير فيه رد فعل عدواني. ويستجيب الإنسان أيضاً بعنف للدفاع عن مصالحه الحيوية، ولكن بعض المميزات التي يختص بها الإنسان تجعله يمارس العنف بوتيرة أكبر مما تفعله بقية أنواع الحيوانات.
إن قدرة الإنسان على التفكير والمعرفة تسمحان له بالتنبؤ بالمخاطر المستقبلية قبل وقوعها. ولذلك فإن الإنسان قد يتصرف بعنف تجاه خطر مستقبلي متوقع بنفس القوة التي يجابه بها خطراً واضحاً ماثلاً. وعندما يكون التنبؤ بالخطر المستقبلي قائماً على أساس من التقدير المنطقي المحض وليس على الشواهد الواقعية، فإننا نجد أنفسنا أمام ما يسمى في علم النفس بجنون الاضطهاد.
إن مصالح الإنسان الحيوية تتجاوز تعريف المصالح لدى الحيوان، فالإنسان يحتاج إلى أن يتخذ دليلا هادياً في الحياة يقوم على اختيار قيم معينة وأشخاص ومعالم ومؤسسات يعتبرها مقدسة؛ بمعنى أنه لا يستطيع أن يعيش متمتعاً بقواه العقلية وسلامه النفسي إذا تخلى عنها. ولذلك فإن أي هجوم على هذه الرموز سواء كانت مثلاً أو قبيلة أو أماً أو وطناً أو فكرة الشرف أو أي شيء آخر يعتمد عليه الإنسان في حياته النفسية، فإن الهجوم أو التهديد بالهجوم على أي منها تكون له نفس طبيعة التهديد بالهجوم على حياة الإنسان ذاته بالمعنى البيولوجي الصرف. وليس من المهم في هذا السياق أن يكون لهذه القيم أو الرموز التي يدافع عنها قيمة حقيقية أو مصداقية عقلية، فكل ما يهم في الأمر من وجهة نظر الموقف النفسي هو أن هذه الأشياء مهمة غاية الأهمية للشخص بحيث أنه لا يستطيع مواصلة الحياة محتفظاً بتوازنه النفسي من دونها. وأن أي تهديد لها هو تهديد لمصالحه الحيوية.
القابلية للتأثر
خصيصة أخرى محددة في الإنسان هي قابليته للتأثر. فإذا حاول قادته جعله يعتقد بأنه سيكون عرضة للتهديد، وإذا افتقر هو في الوقت ذات إلى المقدرة على المحاكمة النقدية لما يسمع أو يقرأ، فإنه سيتقبل الفكرة المطروحة عليه من قبل قادته باعتبارها حقيقة لاشك فيها، وسيتصرف تجاه هذا العدوان المزعوم بنفس الطريقة التي يتصرف بها تجاه تهديد حقيقي ماثل. فما يهم هنا هو مقدار اقتناعه بمصداقية التهديد، وهو الأمر الذي يعتمد على درجة اعتماده على قادته، وقابليته للتأثر، وافتقاره إلى التفكير النقدي. ويتميز رد الفعل العدواني من الناحية الوصفية بأنه تتم استثارته بتهديد حقيقي أو مزعوم للمصالح الحيوية، وبأنه يختفي إذا ما تلاشى التهديد أو خفتت حدته، وبأن العمل العدواني فيه مرتبط بأسباب، وأنه لا يثير أي قدر من الشعور بالرضى الجنسي. ومن وجهة النظر الجسمعصبية فإن رد الفعل العدواني يرجع إلى ازدياد الطاقات العدوانية لدى الإنسان على طاقات كوابح العدوان لديه. وهذه الزيادة تنتج عن تهديد ما يعتبره الإنسان مصالح حيوية فيؤدي ذلك إلى اختلال التوازن الطبيعي فيه.
السادية
وهناك نوع من العدوانية مختلف تماماً عن رد الفعل العدواني الذي ناقشناه آنفاً، هو التدمير المثير للإشباع الجنسي, وهو خصيصة إنسانية لا تخدم غرضاً كالحفاظ على الذات، سواء من الناحية البيولوجية أو من الناحية الاجتماعية، ولكنها تنتج إثارة جنسية عارمة. وأفضل الأمثلة المعروفة عن هذا النوع من العدوانية هو ما اصطلح على تسميته بالسادية. والسادية تعرف بصفة عامة بأنها الشعور بالسرور من جراء إيذاء وإهانة الآخر مادياً أو معنوياً، سواء كان هذا الآخر إنساناً أو حيواناً. ومن وجهة نظر التحليل النفسي، فإن السادية هي جزء من الدافع المسمى الليبيدو (طاقة الغريزة الجنسية حسب نظرية فرويد) وذلك قبل أن تكون العملية الجنسية قد امتصت كل الدوافع الجزئية. وبعبارة أخرى فإن السادية هي ظاهرة جنسية. لكن ومن خلال ملاحظاتي الخاصة توصلت إلى نتائج أخرى. فأنا أرى في السادية تعبيراً محدداً وخاصاً عن رغبة أكثر عمومية، وهي بالتحديد الرغبة في السيطرة المطلقة التامة على إنسان آخر أو حيوان أو حتى أشياء مادية. وهذه الرغبة في السيطرة المطلقة يمكن أن تحدث بين الشريكين الجنسيين، ويمكن لها أن تذوب وتصبح جزءًا من المتعة الجنسية خاصة إذا كان الشريك ذا ميول مازوخية يستعذب الإهانة والضرب أو الألم. إن المزج بين الرغبة في السيطرة والعامل الجنسي في السادية له وظيفة تحكمية. فالإثارة الجنسية وانطلاقها يغلقان الدائرة، فلا تكون هناك رغبة في المزيد من التدمير أكثر مما تم تحقيقه في العملية الجنسية.
نوع آخر من السادية
إن مبدأ الالتذاذ بالعنف والسيطرة المطلقة على الأشياء والبشر لا يقتصر أبداً على مجال الإثارة الجنسية وحدها. فالمدرس الذي يهين أو يضرب أو يرعب تلميذه، وحارس السجن الذي يفرغ جام غضبه بإهانة وتهديد سجين لا حول له ولا قوة، والممرضة التي تفعل الشيء ذاته، بأسلوب موارب، بالمريض الذي لا يستطيع الاحتجاج لأسباب اجتماعية أو جسدية، والشخص الذي يضرب كلبه بلا رحمة إن لم ينفذ أوامره – كل هؤلاء إن هم إلا بعض الأمثلة على الالتذاذ بالعنف الذي ليس في حد ذاته جنسي الطابع.
وغالباً ما يظهر الالتذاذ بالسيطرة الكاملة نفسه في صورة رغبة ملحة في تعذيب شخص ما، إذ أنه لا تكاد توجد طريقة أكمل للإحساس بالسيطرة المطلقة من إجبار شخص على معاناة الألم في الوقت الذي يكون فيه عاجزاً عن الرد أو الدفاع عن نفسه ضد المعتدي.
والالتذاذ بالعنف التدمير لا يتخذ دائماً أشكالاً بديهية كالتعذيب بل قد يتمظهر في العمل على خنق إرادة الآخر أو عفويته أو حريته. وهذا النوع من التدمير والعنف عادة ما يعقلن نفسه بالإدعاء بأنه ذو دوافع حسنه أو حتى بالقول أن دافعه هو الحب. وهناك نوع شائع من هذا المرض يسمى مرض "الاغتصاب والنهب والتدمير". وأعني به المرض الذي يظهر في سلوك الجنود المنتصرين في الحرب، سواء في الحروب القديمة أو في الحروب المعاصرة، وذلك عندما يسمح لهم ولو لوقت قصير بممارسة سلطة مطلقة على الشعب المهزوم. وهنا لا يكون اغتصاب النساء تعبيراً عن الرغبة الجنسية بل تعبيراً عن الرغبة في السيطرة المطلقة. وكذلك الحال أيضاً فيما يتعلق بالسرقة أو بتدمير ما لا يمكن حمله من أغراض. وبعبارة أخرى فإن خصائص الالتذاذ بالتدمير عبارة عن شعور بالقوة المطلقة ورغبة في التعالي على محدودية الوجود الإنساني حتى ولو ليوم أو بعض يوم.
داء الديكتاتور الطاغية
ويجد المرء هذه الرغبة المرضية لدى أشخاص أتاحت لهم الظروف ممارسة سلطان غير محدود. (أجاد الكاتب المسرحي كاموس إبراز آلية هذا الداء في معالجته للشخصية الرئيسة في مسرحيته كاليجولا). أما أولئك الذين ليست لديهم الفرصة لممارسة سلطة حقيقية كتلك، فإنهم قد تتاح لهم الفرصة في الحرب مثلاً لممارستها للحظة أو ليوم. وبالنسبة لهؤلاء فإن التجربة تكون من الكثافة بحيث يصبحون في كثير من الحالات مستعدين لدفع حياتهم ثمناً للحظة أخرى من لحظات هذا الشعور المرضي بالسلطة المطلقة. (وهذه الرغبة المرضية مسؤولة عن الوحشية والهمجية الظاهرين في المجازر الوحشية التي ترتكب في الحروب والنزاعات الأهلية ضد الشعب المهزوم أو الأقلية الضعيفة).
إن من أحد الأسباب الرئيسية لتكون الالتذاذ المرضي بالعنف والتدمير، هو وجود شعور عميق لدى الفرد بانعدام الحيوية والملل والسلبية إزاء نمط حياة رتيب يصبغ الحياة باللون الرمادي في أعين الكثيرين. والشخص العاجز من هذا النوع يكون غير مبدع سواء في التفكير أو في المشاعر أو في العلاقات الشخصية أو في الأدب أو الفن. ويجد متعته في الأمر الوحيد الذي هو مضاد لمعجزة خلق الحياة، ألا وهو تدميرها. وصحيح أن مقدرة الإنسان على المساهمة الإيجابية في بناء الحياة تتطلب منه امتلاك القدرة الجنسية على الأقل، إن لم يمتلك القدرة على الشعور بالمحبة، كما تتطلب منه النشاط والمشاركة والاهتمام عندما يتعلق الأمر بالمساهمة البناءة في جوانب أخرى من جوانب الحياة. أما التدمير فإنه لا يتطلب إلا مسدساً أو سكيناً أو يدين قويتين. فهذا الضال يجد سعادة قصوى في إيهام نفسه بأنه السيد على الحياة التي لا يتمكن من الإمساك بها والمشاركة فيها بإيجابية. وهذا النوع من التدمير يتميز بمشاعر بدنية عارمة يشترك فيها الجسد كله، وذلك ما يجعله قابلاً للخلط بينه وبين الإثارة الجنسية. والحال أنه ليست كل إثارة بدنية عارمة إثارة جنسية وإن كان من الممكن مزجهما بسهولة.
نشوة الكراهية
وهناك نوع من الالتذاذ بالتدمير أود المرور عليه مرور الكرام، ألا وهو الكره العميق. فالكره من هذا النوع تصحبه نشوة تجعل الفرد يتغلب على الانفصام بين ذاته وبين العالم من حوله، عندما يتمكن من التخلي عن كل إدراك وتفكير، وبذلك يصبح بطريقة ما متحداً مع العالم. وعندها تصبح كل طاقته مركزة في اتجاه واحد؛ فلا يبقى لديه أي شك. إن حالة النشوة يمكن أن تصطنع عن طريق بعض التصرفات الجنسية أو بالعقاقير أو بالإيقاع أو بالإيحاء. وكل هذه الأشكال عادية في حد ذاتها طالما أنها تمثل تعبيراً عن حالة من حالات الحياة تظهر ذروتها في الوجد الصوفي الذي يتميز بشعور من الهدوء العميق الناجم عن الإحساس بالتوحد مع العالم في حالة من الانسجام النشط.
ومن بين حالات النشوة هذه هناك حالة سلبية من النشوة هي نشوة الكراهية والتدمير. وفي هذه الحالة فإن الشخص يصبح منهمكاً في شعوره بالكره ورغبته في التدمير لأنه مملوء بالغضب والرغبة في القتل والسيطرة. وفي إطلاقية هذا الغضب يتوحد مع ذاته وفي نفس الوقت يفقد كل اتصال بالعالم الخارجي حتى مع نفسه ذاتها. وهذا (الغضب المقدس) يقود الإنسان إلى حافة الجنون وإلى شعور من العزلة ناجم عن فقدان التضامن مع الحياة والأحياء (حالة المتعصب المتطرف).
النكروفيليا والبايوفيليا
والنيكروفيليا حالة من الانجذاب البارد، المفتقر إلى الحياة، نحو الموت والتحلل والمرض وكل ما هو ميكانيكي. وهناك عدد كبير من الناس الذي يجذبهم بصورة خاصة كل ما هو غير حي، بل كل ما هو ميت ومسيطر عليه وآلي، بحيث يكون واضحاً في طبيعته وقابلاً للتنبؤ بمصيره المستقبلي. وعلى العكس منهم يوجد البايوفيليين وهم أولئك الذين يحبون الحياة وينجذبون إلى كل ما ينمو ويكبر ويتطور، وكل ما هو غير ميكانيكي وما هو غير قابل للتنبؤ. والإنسان العادي يمكن أن يصف الحالتين بالحديث عن شخص ما يتميز بحبه للحياة، أو بشخص ما يبدو خالياً من الحياة ومحباً لما هو آلي، دون أن يضفي على هذه الأوصاف اي تصنيف نفسي أو تعابير تخص علم النفس. ومن خلال تجربتي العملية لاحظت أن النيكروفيلي يحلم بوجوه وأعضاء مقطعة، وأضرحة وكهوف لا مخارج لها في معظم الأحيان. وقد شرحت الحالتين باستفاضة في كتابي (قلب الإنسان).
وعلى الرغم من أنني حاولت إظهار حقيقة أن الإنسان لديه قدر أكبر بكثير من رد الفعل التدميري مقارنة بالحيوان، فإنه لابد لي من أن أضيف أن الشعور بالملل وعدم المشاركة وانعدام الإحساس بالحياة هما قاعدتا الالتذاذ بالتدمير والإصابة بالنيكروفيليا، وكلاهما تجربتان إنسانيتان. فالحيوان الذي يعيش وفقاً لغرائزه ليست لديه أي من هذه المشاكل؛ وإن كان يمكن اصطناع هذه الحالات لدى الحيوانات في ظروف معملية.
آلية استثارة العنف
وعلى الرغم من تعدد حالات العدوانية والتدمير في النوع والمصدر فإنها قد تتداخل غالباً. ومن المهم الإشارة إلى أن هناك آلية لاستثارة هذه الحالة تقود إلى إنفجار الالتذاذ بالتدمير أو النيكروفيليا كنتائج لرد الفعل العدواني. ويمكن ملاحظة ذلك على وجه الخصوص في الحروب حيث يسمح فيها للجنود بقتل العدو. وبالنسبة للبعض، فإنه بمجرد أن يقوم الجندي بالقتل ينكسر التحريم المتكون في ضميره فيقود ذلك إلى ظهور الرغبات السادية والنيكروفيلية لديه. وهؤلاء الجنود سيطورون حالة من الاستمتاع والالتذاذ بالتصرفات القاسية إلى درجة كبيرة كلما ظنوا أن بإمكانهم تجنب نتائج أفعالهم. ويمكن القول أن هؤلاء ربما لم يكونوا ليرتكبوا هذه الأعمال الإجرامية اللاحقة لو لم يتم تسهيل الخطوة الأولى لهم في الحرب مثلاً. ومن المؤسف أنه لم يتم إجراء دراسات مكثفة على سلوك الجنود الذين خاضوا الحروب الحديثة بعد الحرب للوصول إلى نتائج علمية قاطعة عن مدى تأثير الحرب على نفسية الإنسان.*
هل مجتمعنا خالق للعنف؟
إن حقيقة أنه لا توجد لدينا رؤى وأهداف لتطوير مجتمعنا غير الإنتاج والمزيد من الاستهلاك، والتناقض العميق بين القيم التي نؤمن بها وتلك التي نعيش طبقاً لها. حالة كهذه تخلق حالة مقابلة من الوعي يصبح فيها أولئك الذين يفتقرون إلى الراحة المادية، والذين تكون إمكانات تحقيق طموحاتهم ضئيلة، والذين لا يشاركون في تقدم الأغلبية يصبحون معرضين لحالة من الوعي التدميري.
من جهة أخرى فإن أولئك الذين يسهمون في التقدم يعانون من حالة عميقة من القلق والعزلة، وإن تمكنوا من إخفاء مشاعرهم تلك في الروتين اليومي المزدحم لحياتهم، وفي توقعهم للنجاح في حياتهم الشخصية، وبالتغير المستمر في أنماط الاستهلاك. ولكنه وعلى المدى البعيد فإن الخوف والشك والملل سيزيدان العنف في قطاعات المجتمع كلها وستتمرد الأقلية بتواتر أكبر، وستعتمد الأغلبية ردود أفعال متزايدة القسوة تجاه أعمال التمرد.
العقوبات الأقسى لن توقف العنف بل على العكس ستزيد من وتيرته؛ لأنها ستخلق مشاعر عدائية جديدة ومخاوف لدى أولئك الناس المعرضين للعنف المنظم للدولة. الوسيلة الوحيدة لتغيير الاتجاه العام نحو العنف والتدمير يكمن في أنسنة حياتنا التكنولوجية، وأعني بذلك أن تخدم مجتمعاتنا أهدافاً إنسانية تتعلق بنمو وتطوير الإنسان، بدلاً من إنتاج الوسائل والأشياء كما هو الحال في ثنائية الإنتاج والاستهلاك التي أصبحت كما لو كانت الهدف النهائي للحياة الإنسانية.
تصورات للحلول
يجب أن يكف الفرد عن الشعور بأنه لا حول له ولا قوة في التأثير على حياة مجتمعه الذي يحكم حياته الخاصة. وهذا التغيير لا يمكن أن يحدث إلا بازدياد المشاركة والمسؤولية من قبل أولئك المهمشين سياسياً، والذين يتم إطعامهم وتسليتهم وفي الوقت ذاته حرمانهم من المشاركة في القرارات السياسية، وفي شؤون المؤسسات والهيئات التي يعملون فيها. ومن المهم جداً أن نخفض من استهلاكيتنا التي تزيد من استسلام الفرد، وأن نجد طرقاً فعالة للتعبير عن خصائصنا الإنسانية.
وفي هذه الأيام نلاحظ أن الأفكار والمشاعر ينفصلان انفصالا عميقاً ويزداد انفصالهما كل يوم، وهذا الانفصال إما أن يقود إلى حالة من الثقافة الشيزوفرينية (الفصامية)، أو إلى العصبية التي هي حالة من العاطفة اللاعقلانية. وعندما يمكن جمع العقل والعاطفة معاً، عندها فقط يمكن للإنسان أن يعيش حياة مثيرة للاهتمام، أن يصنع الوسائل والإمكانيات لقيام مجتمع منتج وغير عنيف. والخلاصة هي أن ما نحتاج إليه ليس زيادة السيطرة على العدوانية والعنف، ولكن تقليل التدمير والعنف عن طريق جعل حياة الفرد والحياة الاجتماعية أكثر معنى وإنسانية.

المصدر:موسوعة انكارتا ميكروسوفت

زر الذهاب إلى الأعلى