[esi views ttl="1"]
أرشيف الرأي

وقفة مع نصف قرن!

عندما حكمت الإمامة المتخلفة اليمن انطلقت في صياغة مفهوم الدولة على أساس فهمها ومعتقدها الخاص والذي يتضمن «أن الله سبحانه اصطفى الإمام وذريته لكي يحكموا الناس» وعلى هذا الأساس فإن الإمام «الدولة» ليس ملزماً بأن يقوم بخدمة الشعب لسبب بسيط وهو أن الشعب لم يقم بترشيح الإمام واختياره حاكماً لهم كي يقوم بخدمتهم..

فالإمام تم اختياره وتعيينه من قبل الله سبحانه، وبالتالي فإن الإمام وصل إلى الحكم باختيار إلهي وليس باختيار شعبي، وقد قام الحكم الإمامي بترسيخ هذا الفهم في أذهان الشعب مستعيناً بالتجهيل، مما أدى إلى وجود هذا الفهم لدى شرائح المجتمع، وعندما حدثت ثورة سبتمبر تخلص اليمن من الحكم الإمامي.

إلا أن اليمن لم يتخلص كلياً من آثار الفهم الإمامي السابق «بأن الشعب ليس له حقوق لدى الدولة» حيث تسلل هذا الفهم إلى حكومات ما بعد الثورة حتى الآن، ويتجلى ذلك من خلال تركيز الحكومات الجمهورية المتعاقبة على نقطة واحدة وهي إنشاء مشاريع البنية التحتية فقط دون الانتقال إلى بقية حقوق الشعب لدى الدولة، وتدريجياً وبمعية التوجه الرأسمالي والذي من إيجابياته العصامية، فإن العصامية الإيجابية طغت على مسألة «حقوق الشعب لدى الدولة» وترسخت في وجدان المجتمع وعقله حتى أصبحت قاعدة عرفية، وأنه ليس للشعب حقوق لدى الدولة إلا مشاريع البنية التحتية، طرق ومدارس مستشفيات.... الخ.

حتى إنه إذا ارتفعت بعض الأصوات مطالبين بحقوقهم من الدولة فإن غالبية المجتمع يستهجنون هذا الفعل ويصفون أفراده بأنهم تافهون وجدير بهم بدلاً من هذه المطالبة بالحقوق أن يذهبوا ويبحثوا لهم عن أعمال.

أيضاً ومن نتائج هذا الفهم «بأنه ليس للشعب حقوق لدى الدولة» وبسببه وأيضاً غياب فرص العمل، فقد أدى هذا الأمر إلى الهجرة خارج اليمن بحثاً عن فرص عمل وحياة أفضل والبعض الآخر هاجر إلى الدولة والتحق في صفوف الجيش أو بقية مرافق الدولة واستمر في هذا المرفق لفترة عشر سنوات أو خمس عشرة سنة أو أكثر أو أقل.

وبعد هذه الفترة بسبب تدني الراتب الشهري اكتشف أنه لا يستطيع أن يحقق ذاته وطموحه ويلبي احتياجاته واحتياجات أسرته، فبدأت مبررات سرقة المال العام ونهب الثروات العامة ومن تداعيات فكرة النهج الرأسمالي في المحافظات الشمالية شيوع سعر الفائدة في بعض التعاملات الاقتصادية «الربا» الذي أدى إلى تكريس الرأسمال الاجتماعي بيد 20%من السكان وبقيتهم يتزاحمون على الفتات المتساقط، أما تداعيات فكرة إلغاء الملكية التي فرضت على المحافظات الجنوبية من 67م 89م ففي جانبها الإيجابي عززت لدى المواطنين فكرة أن لهم حقوقاً لدى الدولة وأنها وجدت في الأساس لخدمة الشعب أما الجانب السلبي فقد تمثل في القضاء على الوعي الإنتاجي ومنع الأفراد من امتلاك وسائل الإنتاج وإلغاء القطاع الخاص والإنشغال بالصراع الطبقي على حساب مشاريع البنية التحتية.. وعموماً فنحن ننحاز إلى الإنسان اليمني ولا ندينه بل ندين وبشدة المناهج الخاطئة.

ان النخب الثائرة اكتفت بالتغني بعظمة الثورة والتنظير للدولة بمزيد من مشاريع البنية التحتية التي ما زالت اليمن بحاجة إلى الكثير منها دون الالتفات والتنظير وبنفس الدافع القوي والجهد القوي إلى مسألة النهوض الاقتصادي والرأسمالي الاجتماعي ووسائل الإنتاج وتحديدها وإيجادها وتفعيلها ويوضح ذلك أن استقراء تراثنا القريب من 62م إلى 90م يوضح عدم بروز مفكر اقتصادي ومجمل الذين برزوا ووجودهم ضروري للنهوض - إما شعراء ساسة أو علماء أو مثقفين أو قادة عسكريين ... الخ،

ولم يكن من ضمن التشكيلة مفكر اقتصادي، وهذا يعود إلى تراخي النخب، وهذا ما حدث بعد تحقق الوحدة فقد اكتفت النخب سالفة الذكر بالتغني بالوحدة ونشوة تحققها والتغني بمشاريع البنية التحتية بدافع تعويض المحافظات الجنوبية من الحرمان الذي طالها في فترات ما قبل الوحدة، دون الالتفات وبنفس القوة والدافع الكبير إلى إزالة الآثار السلبية الناجمة عن فكرة إلغاء الملكية الفردية، فقد انحصر دور دولة الوحدة من 90م إلى الآن في سياق واحد، هو إنشاء مشاريع البنية التحتية، برغم ما عليها من المآخذ .. وعموماً فإن العمل على إنشاء هذه المشاريع خطوة صحيحة وضرورية تقوم بها كل الدول.

ونحن ندعو إلى استمرارها في كل ربوع اليمن، لكن اكتفاء دولة الوحدة بهذا العمل إنشاء مشاريع البنية التحتية وتجاهلها أو جهلها بضرورة ايجاد حلول للآثار السلبية لفكرة إلغاء الملكية الفردية في جانب الرأسمال الاجتماعي وكان يفترض بالدولة وضع الدراسات والبحوث التي تثمر عن حلول لهذه الإشكالية وقبل الدولة كان يفترض بالمثقفين والنخب أن يسهموا بشكل كبير في ايجاد الحلول المناسبة بدافع المسئولية الأدبية تجاه وطنهم، فسلطة العلم وسلطة الحكم سلطتان مهمتان في صياغة وقيادة المجتمع للتطور، ويترجم ذلك حديث الرسول «صلى الله عليه وسلم» «فئتان إذا صلحتا صلحت الأمة العلماء والأمراء» أو كما قال، وليس الصلاح فقط عدم السرقة والانحطاط... الخ هذه المنظومة الأخلاقية الرائعة يحتاجها المجتمع في كل فتراته.

ولكن أيضاً من صفات الصلاح الاجتهاد والابتكار والتجديد واستشراف المستقبل وصياغة مفردات النهوض في هذه الفترة وكل الفترات، وللأسف الشديد فإن أهل الفكر والثقافة وتحديداً من 90م إلى الآن تحولوا فقط إلى مفسرين ومحللين وشارحين لأسباب الظواهر والمشكلات بعد حدوثها، وليس استشرافها قبل حدوثها، والعمل على ضرورة عدم حدوثها، فإخفاق النخب في ايجاد وتبني حلول صحيحة لإزالة الآثار السلبية لفكرة إلغاء الملكية الفردية وتداعياتها وقد كان هذا الإخفاق وعدم الاستشعار للأسباب الحقيقية بعد أن أخذ الأمر مداه من 90م إلى الآن أدى إلى وجود آثار وتداعيات ومشاكل متعددة.

فألف باء الحل هو قيام النخب المثقفة والمتخصصة بالبحث الموضوعي عن أسباب المشكلة ووضع الحلول الصحيحة ومن ثم تقديمها للدولة ومطالبتها كي تتبناها وتقوم بتنفيذها ولا يكفي من النخب أن تنتظر إلى أن تحدث المشكلة ثم تقوم بإدانتها ومطالبتها وإدانة من لم يدنها واعلان الاستعداد لتقديم تضحيات كبيرة كي لا تأخذ المشكلة مداها، فيجب على الجميع العمل على تنفيذ الحلول السالفة والحفاظ على دماء اليمنيين واستثمار هذه الجهود في معركة البناء والنهوض.

زر الذهاب إلى الأعلى