[esi views ttl="1"]
أرشيف الرأي

اليمن.. بين مفهوم الدولة ومنطق التمرد

عندما سألت صديقي الذي أمضى سنوات عدة في اليمن أستاذاً جامعياً تعرف إليها جيداً وأرتبط بأهلها بوشائج كثيرة عن أحسن انطباع تكون لديه عن اليمن البلد والشعب والمجتمع؟ قال لي هي تلك الثقافة الاجتماعية النادرة والتي تتسم بميلها إلى الحوار وتبتكر دائماً للمشكلات حلولاً وسطية أياً كان نوعها وفي النهاية تحظى بقبول الجميع ولأن أغلب اليمن من سكنة الجبال ولا سيما في مناطق الشمال فإن نبرة الصوت تكون عندهم مرتفعة لكنها تخفي طيبة متناهية وأصالة فريدة لشعب نسج التأريخ أغلب عناصر شخصيته أكثر مما فعلته الجغرافيا.

ولذا فاليمنيون تجدهم من أوائل الأقوام الذين تعايشوا مع الاغتراب في الماضي البعيد مقاتلين وقادة في جيوش الفتوحات الإسلامية أو سعياً للعمل والتجارة في شرق آسيا أو غيرها من البلدان وتكيفوا بسلاسة مع الأمكنة الجديدة وفي داخلهم يصطخب تأريخ حافل من الأمجاد. فاليمن هذه البقعة العزيزة على قلوب كل العرب والمسلمين من مشارق الأرض ومغاربها ليس بسبب ارتباط العروبة بهم فحسب إنما لأنهم أرق الناس أفئدة وأشدهم بأساً وأكثرهم حكمة، كما هو مأثور عن حديث النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) عنهم..

كل هذه الأشياء جالت بخاطري وأنا استمع إلى خطاب الرئيس اليمني علي عبدالله صالح بمناسبة مرور 47 عاماً على ذكرى ثورة 26 سبتمبر الجمهورية على الحكم الإمامي الكهنوتي والذي لم يكن له شبيه في ظلاميته وتخلفه فقد عزل اليمن عن العالم تماماً فلا تعليم ولا صحة ولا طرقات ولا أي مظهر من مظاهر الحياة المدنية الحديثة أبداً.

ولمن يريد التعرف لتفاصيل تلك المرحلة من عهود حكام اليمن من الأئمة والتي يطالب الحوثيون المتمردون برجوعها ومآسيها إلى اليمن أن يرجع إلى مذكرات «كنت طبيبة في اليمن» للدكتورة الفرنسية.. (كلودي فايان) أو مذكرات أعضاء أول بعثة عسكرية عراقية إلى اليمن في مطلع عقد الأربعينات من القرن المنصرم، حيث وصف المقدم سعيد صفوت أحد أعضاء البعثة ((اليمن بأنها جوهرة في يد فحام)).

وأضاف لقد احتجنا ونحن القادمين إليها من العراق وليس من سويسرا إلى شهور لاستيعاب الصدمة من بلد يرزح تحت نير البؤس والحرمان والتغييب بصورة مطلقة. ولذا فإن الرئيس صالح يقول بصوت عال سنحارب لسنوات وليس لشهور في صعدة، حيث التمرد الحوثي والذي ينادي بعودة حكم الإمامة المتخلف إلى اليمن. نعم انها الحرب التي لا بد منها من أجل الحفاظ على اليمن تأريخاً وحاضراً ومستقبلاً أمام جماعات ليس لها هدف مقنع سوى تخريب البلد وإدخاله في أتون فتنة مذهبية وشعارات غريبة لا سابق لها وسط غموض مقصود لجماعة متمردة على القانون تحارب الدولة منذ ست سنوات ونيف.

وأن من يستمع إلى تصريحات عناصر هذا التمرد يصاب بالغثيان فمرة تحت شعار محاربة أميركا وإسرائيل ومرة ثانية تنحصر مطالبهم بتطبيع الأوضاع وعودة السلم الأهلي وهكذا فأي عبث يشبه مثل هذا العبث يريدون تقويض سلطة الدولة وتخريب البلاد وشؤون العباد في مدينة صعدة الجبلية والتي تبعد آلاف الأميال عن إسرائيل وكأن من يحكم اليمن هم ليسوا أبناءه إنما جنود المارينز، وكأن الدولة الموكل إليها حماية الآمنين هي من خرب السلم الأهلي ونشر الفوضى.

وكلما أرادت الحكومة تطبيق القانون وبسط السيادة على البلاد يبرز هنا وهناك من يدعو إلى الحلول الوسط وتغليب منطق الحوار والتسامح هذا المنطق ربما يتحمل جزء منه بحسب بعض ما يقول اليمنيون الرئيس صالح نفسه والذي كان لتسامحه وطيبته وحلمه الزائد ربما دور كبير في توسع هذه الجماعة خلال السنوات الماضية مع توافر عناصر الدعم والإسناد لها من قوى إقليمية معروفة، إلا أن الحزم الذي أظهرته القيادة اليمنية والإصرار على ترسيخ مفهوم الدولة وإنفاذ القانون على كل مناحي البلاد لقي استحساناً والتفافاً واسعاً من أبناء الشعب وقواته المسلحة.

وحمل دلالات عميقة من أبرزها أن التراخي في قمع التمرد الحوثي يحمل مخاطر جمة تتعدى في آثارها المحلية إلى الإقليم والبلدان المجاورة لليمن، والتي تعيش أصلاً بالقرب من مناطق صراعات وحروب أهلية في القرن الإفريقي والسودان وغيرها من المناطق لتشكل امتداداً لخط من الحروب والأزمات الطويلة والتي أرهقت الإقليم وجعلت من مهمات الحكومات بدلاً من التعاطي مع برامج التنمية هو اللجوء إلى التسلح والدخول في صراعات ونزاعات لا تهدف في النهاية إلا إلى تفتيت الدولة كإطار راق لعيش السكان المشترك وتأمين مستقبلهم في حياة كريمة.. هذا إضافة إلى أن الحاجة صارت ماسة وعاجلة إلى تغليب فكرة الدولة مهما كانت الحجج والذرائع على منطق التمرد الذي ان ساد وانتشر في المنطقة سوف لن يجلب للبشر غير الدمار والخراب وحرق الأخضر واليابس.

فالدولة أياً كان الخلاف على شكلها وحركتها تضل هي الخيار الوحيد لتطمين الأفراد إلى مستقبلهم وتأمين حاجاتهم في الأمن والاستقرار الذي يسقيهم الماء الصالح للشرب ويجلب لهم الكهرباء ووسائل الاتصال ويحمل لهم الغد المشرق من خلال المستشفى والمدرسة والجامعة والبيت والعمل النافع بينما عكس ذلك أن ساد منطق التمرد والفوضى ضد الدولة كمؤسسة لا بديل عنها للمواطن، فإن الخراب والجوع والقتل والمرض هم المنتجات الوحيدة لهذه الصناعة المجنونة..

فاليمن السعيد والذي نرجو الله ان يحفظه حصناً وملاذاً لأبنائه الأصلاء يجابه اليوم أخطاراً شتى تتطلب من كل الخيرين والشرفاء من أبناء الأمة العربية والمسلمين العمل على فضح وتعرية مساعي هذه المجاميع التخريبية الضالة والعناصر المتمردة والتي لا هم لها غير إدخال اليمن البلد والشعب في حروب عبثية وتعطيل حقيقي لمسارات التنمية وتدمير بنية الدولة والمؤسسات من أجل السعي لتحقيق تخيلات وأحلام مريضة تعشعش في عقول أناس تحكمت في نفوسهم أمراض الزمن وعقد الماضي للتفريط في وطن وبلد حباه الله بمميزات يحسد عليها ليس أقلها أن اليمن من البلدان القليلة التي لم.

ولن تعاني في تأريخها من مشكلات تواجد أقليات عرقية أو قومية فقد أنصهر أهل اليمن وعبر تأريخهم المجيد في بوتقة واحدة وهوية واحدة وثقافة واحدة هي بلا شك ثقافة وقيم العروبة الأصيلة ووعاء الإسلام المعتدل ونقاء السريرة..

فإذا كان أضعف ما يستطيع أن يقوم به المسلم هو الدعاء في القلب لتغيير المنكر فو الله إننا نرى منكراً نصرخ بأعلى صوتنا أن أكبر المنكرات هو تمزيق وحدة البلاد وتشتيت قوتها، ولعمري فإن أهل اليمن النجباء أدرى بشعابها فهم اليوم مدعوون وبكل ما أوتوا من عزيمة وقوة إلى رص صفوفهم خلف قيادتهم الوطنية متناسين خلافاتهم بإيمان يماني وحكمة نادرة إلى الالتفاف والتوحد في الكفاح وتعزيز الإرادة الوطنية في القضاء على هذه الفتنة والحفاظ على دولتهم وليحفظ الله اليمن وأهله الكرام.

زر الذهاب إلى الأعلى