[esi views ttl="1"]
أرشيف الرأي

وقفات مع كتاب "الظاهرة الحوثية" (1)

في كتابه (الظاهرة الحوثية) .. ذكر الدكتور أحمد الدغشي أن المناهج الفكرية التربوية المعتدلة لوزارة التربية لعبت دورا هاما وبارزا في خلق جو من التسامح بين المذاهب الفكرية في اليمن قبل أن يتعكر بقدوم الوهابية ..

ولم يذكر الدكتور سبب توقف هذه المناهج عن لعب الدور ذاته في مراحل تالية, أو سبب توقف الوزارة عن وضع مناهج أخرى تتناغم مع التطورات الفكرية الجديدة, لاسيما وأن الحاجة باتت ماسة وملحة أكثر من ذي قبل ..!!

غير أن مستوى التعليم في اليمن وعلاقة الطالب بمناهجه, ومصير هذه المناهج آخر كل سنة, وما يتبقى من مادتها في ذهنه للمرحلة التالية, ثم ما يخرج به بعد 12 سنة دراسة من حصيلة علمية في الجوانب الدينية وغيرها, وانعكاس هذه الحصيلة على واقعه , أمور لا تخدم الرأي الذي ذهب إليه الكاتب ..

وإذا كانت مناهج التعليم قد لعبت هذا الدور فعلا فإن من مقتضيات ذلك أن تنشأ ثقافة مختلفة داخل المجتمع, وأن تكون للخلاف منطلقاته الجديدة إن وجد, لكن ذلك لم يحدث, فالعداء الزيدي للوهابية انطلق من مبادئ زيدية بحتة, ولم يكن مجرد ردة فعل قابلوا به التطرف الوهابي, كما أن الإقبال الكثيف على السلفية وفي المناطق الشافعية بالذات يُعد تعبيرا واضحا عن عدم الرضا بالوضع الفكري الذي يعيشونه ..

لا أعتقد أن الفكر السلفي عصيٌّ على التأقلم مع مناهج توصف بأنها معتدلة وتوفيقية حصل وأن تأقلمتْ معها طوائف أخرى, خصوصا حين تكون جهة إصدارها مؤسسة في دولة ولي الأمر, ولا أعتقد أن الفكر الزيدي يمتلك مرونة غير عادية حتى تؤثر مثل هذه المناهج على منهجيته في التعامل مع الآخر ..

إن التصادم التلقائي بين الشيعة بمختلف طوائفها وبين السنة (الوهابية بالذات) هو الناتج الطبيعي لوجودهما في ساحة عمل واحدة, فلكلٍ منهما حقوق عند الآخر و ثأرات مؤجلة تقتضي تصفية حسابات لا تنتهي, أي أن الصراع السني الشيعي ذو طابع خاص ..

وإذا عرفنا أن منطلقات الصراع فكرية وتاريخية, وأن الفكر المحرض عليه يحظى بقداسة كبيرة عند أتباعه تجعلهم يتفانون في ترجمته إلى واقع عملي, فإن وقوع التصادم بينهما هو الناتج العملي لمضامين هذه المعتقدات ..

ومعنى هذا أن حتمية الصراع محسومة سلفا ومفروضة وتنتظر الفرصة المناسبة لتخرج من حيز التنظير إلى حيز التطبيق العملي, وعلى هذا المنوال جاءت كل أحداث التاريخ, فهل يسوغ لنا أن نحمل طرفا واحدا تفاقم الأوضاع وتأزمها بحجة أن الآخر كان متصالحا مع نفسه قبل أن يقتحم هذا الطرف حرم واقعه ..؟!!

لذا فإن ما ذهب إليه الدكتور أحمد يناقض الواقع الطبيعي للصراع الديني ويناقض تاريخ هذا الصراع أيضًا, ولعل الدكتور قد بنا ما قرره على هدوء الوضع قبل قدوم السلفية, حين اعتبره ظاهرة صحية دون أن يدرس ظروفه, وما إذا كان يقوم على التسامح الفكري أو على النقيض من ذلك .. فقد يكون الوضع بهذه الصورة من نتائج ومخلفات التسلط الطائفي كما سيأتي ..

ولعل مشكلتنا في التشخيص تكمن خلف قراءة واقع الصراعات الفكرية دون غيره, مع أنه الواقع الطبيعي والمفترض لمثل هذه الأجواء, وليس حالة مريضة كما يراه الكثير, فوجود أكثر من طائفة في محيط جغرافي واحد, يعني ضرورة حدوث الصراع, وحدوث الصراع يعني وجو التكافؤ بين القوى المتصارعة, أما غيابه فيعني أن العنصرية الطائفية تُمارس قسرا من طرف فكري حاكم على آخر محكوم, أو أن السلطة الحاكمة منحازة لطرف معين, مثل ما هو موجود الآن في المملكة العربية السعودية .. أقصد وضع الشيعة هناك, فلو بدأنا نسمع عن صراعات فكرية علنية وتسابق على المساجد وغير ذلك مما يحصل في اليمن, لصبت كل أسئلتنا في اتجاه واحد, وهو اتجاه علاقة المملكة بالفكر السلفي ..

وحينما تستقوي جهة فكرية بالسلطة الحاكمة لفرض ما تؤمن به, سنجد اختلالا واضحا في واقع الصراع الفكري, مثلما كان عليه حال اليمن قبل الثورة, ومن الطبيعي أن يخف الصراع أو ينعدم كليا عندما يفتقد أحد الأطراف كل أدواته, وما ليس طبيعيا هو أن نشيد بحالة الهدوء ونربطها بمبدأ التسامح, لأننا سنؤيد ضمنا أحقية المتسلط بالتسلط والمحتكر بالاحتكار..

وما لا ندركه, هو أن وجود الصراع قد يساهم في حفظ الموروثات الفكرية من الضياع, فحين يضم واقع ما أكثر من لون فكري ثم تجد الهدوء مخيما عليه, فاعلم أن الظلم مستفحل فيه, وأن ثقافة طرف تنمو على حساب موت ثقافة طرف أو أطراف أخرى ..

وهذا يجعلنا نقول بأن واقع شافعية اليمن الأسفل بعد الثورة أفضل منه بكثير قبلها, ولا علاقة لهذا بدور المناهج التعليمية ولا بتطور منهجية الفكر الزيدي في التعامل مع المخالف, فمن تفرد بكرسي الحكم ما يقرب من ألف عام وبشرعية دينية, لن يتطور في يوم وليلة, بل له علاقة بوضعه الجديد (وجوده خارج الحكم)..

لكن الشافعية لم تكن تملك مشروعا فكريا يمكن أن يهدد الوجود الزيدي أو يقلصه أو حتى ينافسه, ولا تعمل لصالح مشروع آخر, في الخارج أو الداخل ..

ولهذا اختلف الوضع كليا مع الوهابية, وظهر المخفي من منهج الفكر الزيدي حين شعر أتباعه أن وجودهم قد بات في مهب رياح العلاقات القوية بين الحكومة اليمنية وحكومة المملكة العربية السعودية والتي ستخدم الوجود السلفي بكل تأكيد ..

وفي الربع الأخير من هذا القرن شهدتْ العلاقات الفكرية بين الشيعة والسلفية توترًا كبيرا, فإلى جانب العداء التاريخي بينهما رأى الأول أن الثاني دخيل على مجتمعه, ورأى الثاني أن وجوده سيقلل من مخاطر الغزو الإمامي الجعفري لليمن ..

ثم تطورتْ الأمور كثيرًا عندما صُنِّفتْ الدولة كطرف في النزاع وعندما حمَّلها الإخوة الشيعة جريمة السماح لهذا الفكر بالانتشار في أرض حكموها ما يقارب الألف عام دون أن يوجد من يزاحمهم فيها أو يكسر احتكارهم لها ..

والإخوة الشيعة لا يريدون مشروع فكر يقاسمهم تبعية المجتمع وولاءه لهم, ولا مشروع فكر يمول من الخارج أو يرتبط به عقائديا, بل يريدون مشاريع رعية يزرعون الأرض ويعطونهم الخراج ويريدون أفكارا لا تمتلك مشاريع سياسية ولا تقف في طريق مشروعهم السياسي ..

وبعد صراع فكري مرير وطويل, وجد الإخوة الشيعة أنهم عاجزون عن إيقاف الانتشار والتنامي السلفي بطريقة سلمية, لارتباطه بالعلاقة اليمنية السعودية أولا, وبموقف المملكة من جمهورية إيران الشيعية ثانيا, فخرج الوضع عن طوره ودخلنا في حرب استمرتْ ما يقارب الخمس سنوات بين السلطة وبعض الحانقين من الزيدية ..

وما يمكن أن يستفاد من هذه الأحداث هو أن حالة السكون التي سادت العلاقة المذهبية بين الزيدية والشافعية قبل الثورة أو بعدها إنما خضعت لاعتبارات خاصة ولم تكن قد بُنيت على التسامح مطلقا, وأن المناخ لم يكن مهيئا لقبول كل آخر فكري كما يبدو, وإنما آخر بمقاييس ومواصفات محددة لا تنطبق على أتباع المد الوهابي من منظور زيدي, فهل يجوز في هذه الحالة أن نشيد باختلاف هذا الواقع أو أن نجعل منه نموذجا مثاليا وتجربة فريدة من التعايش الفكري بين المذاهب والطوائف الإسلامية .. ؟!!

قد يبدو من كلامي أنني ضد الفكر الزيدي أو أنني متحامل عليه حين خصصت المقال للحديث عن طائفيته, لكن الأمر على خلاف ذلك, فتسليمي للكاتب بتطرف السلفية المدخلية الجامية في بداية الأمر قد جعلني أخصص الموضوع لإثبات أن هذا الأمر موجود داخل كل الفرق والطوائف بما فيها الزيدية, لأخلص إلى أن الأزمة مشتركة..

في الأخير .. لا أختلف مع الدكتور والصديق العزيز أحمد في موقفه من منهج السلفية المدخلية في التعامل مع الآخر, فهو منهج إقصائي يقوم على مبدأ الحق المطلق, إلا أن هذا لا يعني أن بقية الحركات والجماعات والمذاهب الإسلامية تمتلك منهجيات راقية في هذا الجانب.

وأحب التنبيه إلى أن هناك فرقا بين المنهج والمعتقد, وإذا كان منهج الجماعة السلفية يميل أكثر من غيره إلى التطرف أو يمارسه بإفراط , فإن عقيدتهم أنقى من غيرهم, وينطبق عكس هذا الكلام على الفكر الشيعي وغيره ..

____________________
مدير تحرير نشوان نيوز

زر الذهاب إلى الأعلى