[esi views ttl="1"]
أرشيف الرأي

الدين والحكم .. مقاربات جديدة

الأمر بحاجة إلى جهد كبير، وإلى واقع آخر، فالقضية مواجهة بين الحقيقة وبين ثقافة مراحل تاريخية غير حقيقة. ثقافة تلقاها الأتباع أموراً جاهزة، ونقلوها إلى من بعدهم أموراً جاهزة، وهكذا فعلت ولا تزال تفعل الأجيال التالية، وستفعل إلى ما لا نهاية.. ولأن أطراف الخلاف تختلف على الزيف، فإن الحقيقة ستكون عدو كل المختلفين، والحقائق اليوم تأتي على استحياء أو لأغراض غير نزيهة..

اقتنع الكثير بالتعاطي مع هذه القضايا خارج حدود العقل، لأن إخضاعها للمنطق العقلي سيضعها أمام أسئلة لا جواب لها غير الإيمان بالحقيقة، والإيمان بالحقيقة شك، وربما ردة عند البعض، لأنها قد تكون نقيضاً محضاً لهذه المسلمات، ولهذا أعتقد أن النشأة داخل بيئة إسلامية، لاسيما إذا كانت بيئة مذهبية، لا تساعد على التخلص من كثير من هذه التراكمات، ولا على إيجاد أجوبة لكثير من الأسئلة أو تقبلها.. ومحاولة إيجاد بيئة مختلفة تتقبل كثيراً من الأسئلة، ولا تمانع من تجاوز بعض الخطوط، بات ضرورة دينية ملحة..

فالناس بحاجة إلى طمأنة أكثر من حاجتهم إلى إقناع، لأن ما يؤمنون به من المبادئ العامة يتناقض مع كثير من الجزئيات التي فُرضت بالترغيب والترهيب، وبالربط بالمصير الأخروي، وحينها لن يصمد “التسليم” أمام “التفكير” ..

لندخل في الموضوع .. كان الدين هو المسير للحكم في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وفي عصر بعض الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، ثم وقعت أمور كثيرة أدت إلى انقلاب الوضع رأساً على عقب، فأصبح الحكم مسيطراً على الدين، يوظفه لخدمته، ويصفي به حساباته مع خصومه، بل أصبح الحكم هو الدين، وسأوضح ذلك الآن :

معظم القضايا التي دار حولها جدل كبير، وأفرزتْ أحكاماً من نوع، كافر، ومبتدع، وضال، وزنديق، بل وأباحت الدماء، كانت قضايا مرتبطة ب(الحكم) بشكل مباشر أو غير مباشر .. بل إنها القضايا التي استدعت إعمال قانون الولاء والبراء، وكانت علامات فارقة بين الفرق الإسلامية..

وقبل أن أورد تلك المسائل واحدة واحدة، مع الحديث عن دور كل مسألة في الخلاف، وعن سبب نشأتها، والبعد السياسي لها، أحب أن أشير إلى أننا نختلف اليوم لأننا تصارعنا بالأمس، ولا نتصارع لأننا اختلفنا، فالمسائل التي دار حولها الجدل أو التي أوجدت لتبرر كل ما حدث، لا تستدعي كل هذا الصراع، ولا كل هذه الفرقة والتقسيمات والتصنيفات. إن الأمر لا يعدو أن يكون توارثاً لصراع ولعداء تاريخي..

لقد تحول الصراع بعد ذلك إلى دين، ولهذا سنجد أن معظم أصول الجماعات والطوائف الإسلامية، ترتبط بتلك الصراعات التي بدأت في أواخر عهد الصحابي الجليل عثمان بن عفان، أو بجانب من جوانبها، ومع ذلك فقد كانت في بدايتها صراعات طبيعية لا تختلف عما يحصل في أوساط بشر آخرين في كل أرجاء المعمورة، وهكذا كان ينظر إليها أصحابها، لكنها تدينت بعد ذلك، بفضل عوامل سنوردها لاحقاً..

فلم يكن الصراع التاريخي بين علي ومعاوية رضي الله عنهما، من جهة، وبين علي والخوارج، ومعاوية والخوارج على حدة، من جهة أخرى، صراعاً دينياً خالصاً، أو لم يكن عقديا على الأقل، وعندما سئل الصحابي الجليل علي بن أبي طالب رضي الله عنه، عن كفر الخوارج، قال : من الكفر فروا، وأضاف : إخواننا بغوا علينا .. نعم لقد كانت أطراف النزاع الثلاثة تجتمع تحت مسمى “المسلمين” قبل أن يأتي من بعدهم ليختلقوا تصنيفات جديدة للصراع وللمتصارعين..

بطبيعة الحال، كان على المنتصر والخاسر أن ينتقلا إلى مرحلة تالية من الصراع ، صراع التنظير للصراع .. وصراع التنظير للصراع هو الجزء الأكبر في ثقافتنا الإسلامية والمسيطر عليها، إذ كان على الحالة الأولى أن تتجسد في كل مرحلة تالية، لأنها الدين، رغم بعدها عنه حقيقة، وكان على الأجيال التالية أن تتحمل تركة ثقيلة تزيدها كل مرحلة ثقلاً، لأنها تضيف إليها كثيراً من الثارات، على اعتبار القتل والتصفية والتحريض على العنف بشكل عام، من ضمن أدبياتها ..

وما يثير استغرابي، هو التطور الذي وصل إليه الخلاف، رغم أنه امتداد لصراع له أسبابه التي لا علاقة لها بالدين، حتى لو كانت له علاقة بالدين فلن تكون الدين كله، أو الدين الذي يجوز أن يفضي الصراع حول قضاياه إلى هذه الحالة الصعبة..

هذه التركة هي ثمرة الصراع المشار إليه، أي أننا نؤمن اليوم ونتشبث بعوامل الصراع والفرقة، ونسوقها على أنها الدين الحق، كما سيقت لنا تماماً، والسيئ جداً، أن الكثيرين ممن يمكن أن يوصفوا بالتحرر، حاكموا الدين الإسلامي بالدين الإسلامي السائد، ولم يكلفوا نفسهم عناء البحث في التاريخ، والتحليل لوقائعه بمعايير خاصة ومن منطلقات مختلفة، إما لأنهم يجهلون التاريخ والوقائع، وإما لأنهم لا يريدون ذلك..

إن عرض الوضع الصحيح أهم من نقد الوضع الخاطئ، بل إن ذلك العرض هو النقد المطلوب، أما الاكتفاء بمجرد النقد، فعجز عن المشاركة في الحل، وإساءة من نوع آخر، لأن الدين الإسلامي معصوم, كونه ديناً سماوياً، ولا يجوز أن يحاكم بأخطاء المسلمين حتى لو نسبوا تلك الأخطاء إليه..

النقد بهذه الطريقة لا علاقة له بتحرير العقل من تلك القيود أو من ذاك الجمود، لأنه لا يوصل إلى الحقيقة المطلوبة، بل يزيدها بعداً وتمييعاً، بدافع الفعل وردة الفعل، والفعل وردة الفعل هي الأعمال التي حولت الدين إلى مجموعة من الثغرات الكبيرة..

وهذا الأمر سيجعلنا ندخل بشكل مباشر إلى صلب الموضوع : علاقة قضايا الخلاف بين الجماعات الإسلامية بقضية سياسية لا دينية “الحكم” .. وأول قضية سنوردها هي قضية “ الصحابة” رضي الله عنهم أجمعين ..

قضايا الصحابة
الدين في هذه القضية لا يؤيد تنظيرات السنة ولا تنظيرات الشيعة، فالأولى سلبتهم بشريتهم على حساب المبادئ، والثانية ظلمت وعممت الظلم، إضافة إلا أن خضوع هذه القضية للفعل وردة الفعل بين السنة والشيعة طوال مراحل التاريخ، ساهم كثيراً في تطورها، لتصل إلى التأليه أحيانا وإلى التكفير أحياناً..

والقضية برمتها، مهما تطورت وتشعبت، ستعود إلى مصدرها السياسي “الحكم” .. فسنجد أن موقف الشيعة من الصحابة “الخلفاء” أكثر تشدداً من موقفهم من الصحابة الآخرين، كما سنجد أن تقديس السنة للصحابة “ الخلفاء” أكثر من تقديسهم للصحابة الآخرين، حتى وصل الأمر إلى اعتبار أمر ترتيبهم في “الخلافة” من قضايا العقيدة، وكذا مسألة التفضيل، يجب أن تترتب حسب الترتيب الزمني الذي جاءت عليه خلافتهم، وبناء على هذا الاعتبار، وجدتْ بعض التصنيفات، فمن يفضل علي بن أبي طالب، على عثمان بن عفان رضي الله عنهما، زيدي، أما من يفضل علياً علي أبي بكر، فشيعي رافضي ..

للإخوة الشيعة مع الإمام علي حكاية أخرى، بل حكايات، وكلها تتمحور حول حرمانه من “الحكم” وأحقيته به .. وتستند مثل هذه الادعاءات، سواء عند السنة أو الشيعة، إلى مجموعة من الأحداث التاريخية ..

أصبحنا نختلف حول الأفضلية والأحقية، بعد أن اعتبرناها من الثوابت الدينية، ووالينا وعادينا لأجلها .. وفي الحلقة القادمة سنتطرق لأمور كثيرة ترتبت على هذه العقيدة أو كانت هذه العقيدة قد استوجبتها.

زر الذهاب إلى الأعلى