[esi views ttl="1"]
آراءأرشيف الرأيالفكر والرأي

التهدئة مع الحوثيين: محاولة للفهم

"بناءً على رسالة عبد الملك الحوثي التي أعلن فيها التزامه بالنقاط الست المعلنة من اللجنة الأمنية العليا كشرط لوقف العمليات في المنطقة الشمالية الغربية والشريط الحدودي مع المملكة العربية السعودية الشقيقة،

وكذلك موافقته على الآلية التنفيذية لتلك النقاط المسلمة إليه، قررنا إيقاف العمليات العسكرية اعتباراً من منتصف ليل الخميس- الجمعة".

هكذا جاء الإعلان عن وقف العمليات بين القوات اليمنية ومقاتلي الحوثيين في ختام اجتماع ترأسه الرئيس اليمني علي عبدالله صالح يوم الخميس الماضي للجنة وطنية شكلها من أعضاء في مجلسي النواب والشورى.

ويذكر المتابعون لهذه الحرب أن الرئيس اليمني كان قد ألقى خطاباً شديد الحدة في 7 نوفمبر الماضي بعد امتداد نطاق الصراع مع الحوثيين إلى داخل الأراضي السعودية أكد فيه أن "الحرب لن تتوقف مهما كلفتنا من مال أو شهداء، وأنه لا مصالحة ولا وقف للحرب إلا بعد نهاية الشرذمة الخائبة العميلة"، وتابع يومها قائلاً إن "الحرب لم تبدأ إلا منذ يومين وما سبقها منذ ست سنوات مضت كان بروفة وتمريناً وتدريباً لوحداتنا لتأهيلها"(!)

وقد مثلت التطورات الخاصة بوقف العمليات خبراً سعيداً لكل من حذروا منذ بداية الجولة الأخيرة للحرب من أنه لا حل عسكرياً لهذا النوع من الصراعات الذي يدور حول مطالب موضع خلاف أو تناقض حاد بين المتمردين والسلطة المركزية، ويتخذ مظهراً عسكرياً يضعه ضمن فئة الصراعات "غير المتناظرة"، أي تلك التي تدور بين قوات نظامية وقوات تتبع أسلوب حرب العصابات، الأمر الذي يفضي إلى توازن ما بين طرفيها على رغم ما يكون بينهما من خلل حاد في موازين القوى لصالح الجيوش النظامية إذا قيست الأمور بحسابات القوة العسكرية وحدها، ويزيد هذا التوازن عندما يحصل الطرف المتمرد على دعم خارجي وهو أمر بات واضحاً في هذه الجولة الأخيرة من الحرب.

وبالنسبة للحالة اليمنية كانت المسألة أكثر وضوحاً، فدروس الخبرة اليمنية منذ قيام ثورة 26 سبتمبر1962 تشير إلى أن الصراعات الداخلية الكبرى في سياق هذه الخبرة لم تحل "بالاستئصال" وإنما بالتوافق، وعلى رغم أن التسوية النهائية للحرب الداخلية في اليمن في أعقاب ثورة سبتمبر بين أنصارها من الجمهوريين وخصومهم من الملكيين قد تمت في 1970 لصالح الإبقاء على الثورة والجمهورية إلا أن الملكيين لم يُستأصلوا حينذاك، وإنما دخلوا كأفراد في بنية السلطة.

صحيح أن التطور قد جرفهم لاحقاً، لكن التسوية بدت مستحيلة دون هذا التوافق، ثم بنى الرئيس صالح الذي تولى الحكم في1978 إنجازاته الكبرى في اليمن على أساس قدرته على تسوية الصراعات الداخلية التي مثلت تحدياً خطيراً للاستقرار السياسي في اليمن بالوسائل السياسية وليس بالحسم العسكري. وأخيراً وليس آخراً فقد لوحظ أثناء احتدام الجولة الأخيرة من المعركة أن ثمة إلحاحاً من النخبة اليمنية غير الحاكمة على ضرورة التسوية السياسية للحرب واستحالة حسمها عسكرياً، فما الذي دفع الأمور في اتجاه التصعيد الخطير الذي حملته كلمات الرئيس اليمني في 7 نوفمبر الماضي؟

أيكون الإحساس بالتحدي الذي بات يمثله الحوثيون ليس للنظام اليمني فحسب وإنما لعلاقاته الخارجية بعد امتداد الصراع إلى الأراضي السعودية؟ أتكون الثقة بالقدرة على الحسم العسكري في ضوء خبرة القضاء على تحدي انفصال الجنوب في1994 بالوسائل العسكرية؟

لكن الأسئلة السابقة تبدو أقل أهمية إذا قورنت بأسئلة تفسير التغير الحاد في التوجهات في ثلاثة شهور من وعيد الاستئصال إلى وقف إطلاق النار. يذهب أول التفسيرات إلى أن تدهور وضع الحوثيين في القتال أجبرهم على قبول النقاط الست للحكومة اليمنية. ولكن نموذج القتال حتى لحظة وقف العمليات بدا دون أدنى تغيير،

فالقوات اليمنية تواصل عملياتها، وتعلن من حين لآخر عن مقتل العشرات والمئات من الحوثيين، وتطهيرها للعديد من المناطق منهم، واقتراب ساعة الحسم العسكري، لكن أي دراسة هادئة للوضع بعد كل إعلان من هذا النوع تشير إلى أن ساحة الصراع لم تشهد تحولاً نوعياً بأي درجة من الدرجات. كما أن الاستجابة لشروط الحوثيين الخاصة بمشاركتهم في لجان الإشراف على تنفيذ النقاط الست، وإن لم يكن ذلك مناصفة كما طلبوا، تعني أن وضعهم لم يكن بالسوء الذي يجعلهم مقبلين على تسوية.

ثاني التفسيرات يذهب إلى أن الطرفين قد اقتنعا بعد سنوات القتال بما يعرفه أي مبتدئ في العلوم السياسية، وهو استحالة الحسم العسكري لهذا النوع من النزاعات، الأمر الذي يعني أن الثمن الوحيد لاستمرار الصراع هو مزيد من الاستنزاف البشري والمالي ناهيك عن مآسي نزوح المدنيين من مناطق القتال وتدمير البنى التحتية فيها، ويزيد من أهمية هذا التفسير أن جولة القتال الأخيرة قد وقعت في أجواء تداعيات الأزمة المالية العالمية، وتراجع أسعار النفط الذي يعتبر المصدر الرئيسي للإيرادات اليمنية ما يعني قدرة أقل على الاستمرار في القتال أو تكلفة نسبية أعلى للاستمرار فيه بالنسبة للنظام اليمني، ولاشك أن الحوثيين أيضاً قد عانوا في الآونة الأخيرة، وخاصة بعد امتداد الصراع إلى المملكة العربية السعودية، من تضييق أشد على وصول الدعم الخارجي لهم.

وعلى رغم ما يتصف به هذا التفسير من جدارة فإن ثمة سؤالاً يبقى قائماً: لماذا تم التوصل إلى هذا الاقتناع في غضون هذه الشهور الثلاثة بالذات؟ وبعبارة أخرى، فإن كافة الأسس التي بني عليها التفسير السابق -وهي صحيحة- كانت حاضرة عندما ألقى الرئيس اليمني خطابه المتشدد في 7 نوفمبر2009، فما الذي حدث تحديداً بعد ذلك؟ يبدو أنه لا مفر من الافتراض بأن معادلة الصراع قد تغيرت من كونها معادلة محلية يشتبه في وجود بُعد إقليمي فيها إلى معادلة إقليمية بامتياز بعد امتداد الصراع إلى الأراضي السعودية إلى معادلة عالمية بدخول الإدارة الأميركية طرفاً في الموضوع على ضوء حسم الأولوية لصالح مواجهة خطر تنظيم "القاعدة" قبل أي خطر آخر، وتلك مسألة تتجاوز اليمن بكثير وإن انعكست عليه، وهو ما يحتاج نقاشاً هادئاً ومتعمقاً.

زر الذهاب إلى الأعلى