[esi views ttl="1"]
آراءأرشيف الرأيالفكر والرأي

الناجون من المساءلة

دأب العالم في كل الأزمنة على اختبار ما هو نظري ومتأنق ميدانياً، فليس من المعقول أن يتحدث طبيب عن قدراته ومهاراته الفائقة ثم يموت مرضاه تباعاً بين يديه أو تحت إشرافه،

ولا يمكن لمهندس عظيم أن يجسد أطروحاته النظرية في جسر يسقط بمن عليه لمجرد أن تم تدشينه، وهذا يصدق أيضاً على ساسة وثوار وانقلابيين، يضعون أكفهم على رقابهم ويتعهدون اجتراح المستحيلات، لكن سرعان ما يتضاعف الفقر والأمية وهشاشة الدولة لمجرد أن يقبضوا على المِقْوَد، فالكلام سهل، ومتاح لنا جميعاً، إذا لم يكن مشروطاً بالترجمة إلى أفعال، لهذا كانت المساءلة وستظل هي الضمانة الوحيدة لعدم مجازفة المبالغين الذين يضعون حبة صغرى تحت المجهر لتبدو بحجم القبة .

ولا يبتعد المشتغلون في الثقافة والفكر عن هذا، خصوصاً إذا كانوا من المبشرين بالتحديث والعَصْرَنة وسائر المفردات التي تعني التغيير ونقد الذات واللحاق بالعالم، وحين يُضبط المثقف أو المفكر الحداثوي متلبساً بمواقف رعوية، وعلى النقيض مما يبشر به، فهو لا يختلف كثيراً عن مهندس ثرثار فشل في تنفيذ فكرة نظرية واحدة من أفكاره، لكن المهندس يتعرض لمساءلة وعقاب لأن فعله محسوس ومرئي بالعين المجردة، أما المثقف فإن ما ينتج عن ازدواجيته لا يكون قابلاً للرصد المباشر، وإن كان تأثيره السلبي يتم ببطء كنوع من السموم العضوية التي يصعب اكتشافها على الفور، وما أزمة الثقة المتفاقمة بين الناس والكلمة المقروءة أو حتى المسموعة إلا بسبب غربة الكلام عن دلالاته، وتوظيف البلاغة بمهارة لتهريب الوقائع أو تجميل القبيح .

لهذا يخطئ من يلجأ إلى الحاسوب فقط ليحصي عدد المؤتمرات والأنشطة في عالمنا العربي فهي كثيرة جداً، لكنها بمقياس آخر شحيحة ما دام الاحتكام في النهاية ليس إلى الكم بل إلى النوع والقيمة، ولا نستغرب أحياناً إذا رأينا مثقفين يعدون أوراقاً حول قضايا مزمنة وإشكالية على مقاعدهم في الطائرات، وهم يغادرون بلدانهم إلى بلد مضيف، ما دامت المقولة المأثورة عن ولادة الكلام من الكلام هي الذريعة، ولدينا قضايا تمس نخاعنا القومي، نجد أن بعض الغرباء عن عالمنا ولغتنا وعواطفنا يجهدون أنفسهم أضعاف ما نجهد أنفسنا كي يتوصلوا إلى نتائج ذات شأن أو إلى إضافات في الحقل الذي يحرثون فيه .

والعجيب أن الطبيب الذي يستخف بمرضاه يجد من يسائله، ويشكك بوفائه لقسم أبوقراط، لكن المفكر الذي يستخف بقرائه ويعبث ببوصلتهم السياسية والأخلاقية لا يتنبه إليه أحد، لأن هذه المهنة التي كانت ذات يوم في الصميم من القلب والوجدان انتهت إلى الهامش، وملء الفراغ الأبيض سواء كان على الورق أو على الهواء .

وفي العالم كله يتردد أي مثقف ألف مرة قبل أن يجازف بتوقيع اسمه على بيان سياسي أو وثيقة أو حتى وجهة نظر في قضية عامة تخص الجميع، لكن لدينا من لا ترمش عيونهم وهم يغامرون في إبداء الرأي حول ما لا يعرفون،

وقبل فترة قال أحدهم إن عبدالناصر وثورة يوليو كانا السبب في إقصاء تركيا وتحليقها بعيداً عن قضايا العرب والمسلمين، خصوصاً أن عبدالناصر كان سبباً لدخولها أو بمعنى أدق إدخالها إلى الحلف الأطلسي، ولا يعي من قال ذلك إن تركيا أدخلت إلى الحلف بموجب مادة استثنائية من دستور الأطلسي عام ،1951 أي قبل أن يعرف العالم اسم عبدالناصر وقبل ثورة يوليو، هذا مجرد مثال . . وهو غَيّض من فَيْض .

زر الذهاب إلى الأعلى