[esi views ttl="1"]
آراءأرشيف الرأيالفكر والرأي

الصراع المقبل على السلطة في اليمن

من أصل أسلاف صالح الأربعة الذين حكموا البلاد، لم يستمر أي منهم لأكثر من سبع سنوات، وقد نجا من الوضع الفوضوي خلال أول أيامه في السلطة عبر إحاطة نفسه بالأقارب والمقربين الذين يأتمنهم على أسراره.

ظهر حميد الأحمر، أحد النجوم الشابة الناشئة في المعارضة اليمنية، في مطلع أغسطس على قناة 'الجزيرة'، متهماً الرئيس اليمني، علي عبدالله صالح، ب'الخيانة العظمى'. قال إن صالح حول الدولة إلى إمبراطورية عائلية، حتى أنه دعا الرئيس في إحدى المراحل إلى التنحي ل'انتهاكه الدستور'، وكانت تعليقات الأحمر لاذعة جداً إلى حد أن محاورته سألته إن كان سيعود إلى اليمن بعد البرنامج. فردّ: 'من دون شك'.

سادت وقفة مطولة وعميقة قبل أن تكرر مقدمة البرنامج، لونة الشبل، سؤالها. قد نعذر مذيعة الأخبار السورية هذه لارتباكها ولسؤالها مجدداً، بعد لحظات وبشك واضح متواصل، إن كان الأحمر يخشى على حياته.

لكن اليمن في النهاية غالباً ما يحير ويربك الأجانب الذين يرغبون دوماً في مقارنته ببلدان لا تشبهه- كأفغانستان أو الصومال في الآونة الأخيرة- عوضاً عن تقبله كما هو. وحتى أولئك الذين يتلقون المال لقاء تحليل سياسات اليمن يجدون أنفسهم في أغلب الأحيان يتخيلون البلاد من وراء جدر محكمة الحراسة بدلاً من البحث فيها.

في الليلة التي ظهر فيها الأحمر على شاشة الجزيرة التقيت بمجموعة من المسؤولين السياسيين والاقتصاديين من السفارة الأميركية لتناول العشاء في فندق موفنبيك، أحدث وأغلى استيراد غربي في صنعاء، وأحد المكانين الوحيدين في العاصمة حيث يُسمح للمسؤولين الأميركيين بالأكل. أصغيت بلهفة بينما كانت موظفة دبلوماسية شابة تتباهى بعلاقاتها الممتازة مع الشرائح المختلفة في المجتمع اليمني، ذاكرةً أسماء سياسيين بارزين تعرفهم، وبعد بضع دقائق قاطعتها وسألتها عن الأحمر، فأجابت: 'تربطنا صداقة متينة'. لكن حين سألتها إن كانت متشوّقة لمعرفة ما الذي سيقوله ذلك المساء على 'الجزيرة'، أصابتها الدهشة. فقالت: 'لم يخبرني أنه سيشارك في هذا البرنامج'. يبدو أن الشريحة السياسية في السفارة الأميركية لم تلاحظ الإعلانات الكثيرة في الصحف العربية المحلية التي كانت تروج لهذا الظهور. ساد جو من التفاعل خلال الوقت الذي أمضيته مع المسؤولين الأميركيين، ولابد من الإشارة إلى أن السياسة التي تعتمدها الولايات المتحدة إزاء اليمن عبارة عن مزيج مخيف من الجهل والتكبر، وبات معظم اليمن خارطة فارغة يتفاداها الدبلوماسيون خلال تنقلهم بين المجمّعات السكنية المحصّنة التي يقطنون فيها والسفارة المحصّنة.

من الأمور الكثيرة التي تغفل عنها الولايات المتحدة والمراقبون الأجانب الآخرون هو الصراع المتنامي على السلطة السياسية وحكم الدولة حيث الأحمر شخصية محورية فيها. ومباشرةً قبل ظهوره التلفزيوني على قناة 'الجزيرة'، صُنّف الأحمر، بحسب صحيفة 'القدس العربي' القومية، من بين المرشّحين الثلاثة الأوفر حظاً بأن يخلفوا صالح، أمّا الاثنان الآخران فهما، نجل صالح الأكبر، أحمد، وأحد أبناء شقيقه، يحيى.

تعكس هذه اللائحة عملية تركيز السلطة السياسية في اليمن على مر العقود الثلاثة الماضية، وبالرغم من أن أي شخص في الجمهورية اليمنية قد يفوز في الانتخابات الُمزمع إجراؤها راهناً لعام 2013، يُقال اليوم إن الصراع على حكم الدولة سينحصر بين أسرتين، كلتاهما معروفتان ببيت الأحمر، في محاولة عربية للتلاعب بالألفاظ إلى حد ما وفي إشارة إلى شهرة حميد وقرية بيت الأحمر، محل ولادة صالح. حكم صالح، الذي يُلزَم دستورياً بالتنحّي في نوفمبر 2013، اليمن على مدى السنوات الإحدى والثلاثين الماضية، مهمّة يشبهها دوماً ب'الرقص على رؤوس الأفاعي'. غالباً ما يُزاوج صالح ذلك الموقف، في مقابلاته مع الصحافيين الغربيين، بإيعاز إلى مقال نشرته صحيفة 'واشنطن بوست' في عام 1979 خلال بداياته في السلطة، وحيث يتوقع أحد المحللين الاستخباراتيين الأميركيين ألا يستمر صالح في الحكم لأكثر من ستة أشهر. يعكس الموقف الأول مدى الخطورة في محاولة حكم بلد جامح إلى هذا الحد، بينما يذكّر الآخر بأن الغرب لم يفهم يوماً اليمن. لكن كلا الموقفين يغذي غرور رجل وصف نفسه بنابليون اليمن في أحد ملصقات حملته الانتخابية، راكباً حصاناً أبيض منتصباً ويغطّيه علم يمني كرداء. يشير المقصد الواضح، إنما غير المُعلن، من كل تلميح إلى أن صالح وحده قادر على حكم اليمن، ومن الصعب بالتالي مجادلة منطقه، ولايزال صامداً، وهذا ما يُعتبر غالباً نجاحاً في هذا الجزء من العالم. من أصل أسلاف صالح الأربعة الذين حكموا البلاد، لم يستمر أي منهم لأكثر من سبع سنوات، مع الإشارة إلى أن الرئيسين السابقين لليمن اغتيلا في فترة لم تتعد التسعة أشهر.

نجا صالح من الوضع الفوضوي خلال أول أيامه في السلطة، وذلك عبر إحاطة نفسه بالأقارب، وأصدقاء الطفولة والمقربين الذين يأتمنهم على أسراره، وقد تغيّرت عملية تعزيز السلطة هذه إلى حد أن بنية القيادة العسكرية والاستخباراتية، السلطة الحقيقية في البلاد، باتت تشبه شجرة العائلة الخاصة بقبيلة صالح.

لكن بوادر الانحلال بدأت تشوب روابط الولاء المتينة سابقاً بين أفراد قبيلة سنحان التي ينتمي إليها صالح، ولذلك يحاول صالح إقناع القوى الداخلية والخارجية بأنه كما كان الوحيد القادر على ضبط شوؤن اليمن، فابنه هو الوحيد المؤهل بما يكفي للحفاظ على إنجازه في المستقبل. كانت عملية الإقناع صعبةً، كاشفةً عن شروخ شخصية وعقائدية في وسط أسرة الرئيس، أو على الأقل ما يُعتبر عقيدة في عالم حيث الصامد يملي القرارات، لكن في النهاية، ستلتف القبيلة على الأرجح حول خلف واحد، لأنها تدرك أن السماح للخلافات الخاصة بالظهور إلى العلن سيفقدها السيطرة على اللعبة السياسية. لايزال الأحمر المتنافس الخارجي الأكثر مصداقيةً، معتمداً على قاعدة قوية من النفوذ القبلي والجاذبية الشخصية. وكما اليمن نفسه، يبدو الأحمر كمزيج مما يرغب الأجانب غالباً في اعتباره تناقضات، لأنه رجل أعمال، وسياسي ورجل قبلي. لكنه لا يتناوب بين هذه الأدوار الثلاثة كما يطلب جمهوره، إنما يجمع بينها بشكل موحد ما يسمح له بإرضاء كل ناخب.

بنى الأحمر، الحائز إجازة تعليمية في علم الاقتصاد، إمبراطورية أعمال تتضمن مصرفاً، وشركة هاتف، وصحيفة، وقناة فضائية تحاول الحكومة إغلاقها منذ أشهر. يصفه الغرب بأنه سياسي مخضرم، لكونه أحد أعضاء المجلس النيابي منذ تأسيسه في عام 1993، لكن هويته كرجل قبيلة هي الأهم في اليمن.

ولُد حميد ليكون من أصحاب السلطة، بالنظر إلى أنه من أبناء الشيخ الراحل عبدالله الأحمر، رئيس اتحاد مشايخ قبيلة حاشد، والبالغ عددهم عشرة. كان الشيخ، فضلاً عن دوره في القبيلة، رئيس أكبر حزب معارض في البلاد، رئيس مجلس النواب، والأهم الحليف الرئيس للسعودية في اليمن، ولو لم يعلن الأمر رسمياً.

مع أن حميد الأكثر ذكاءً وطموحاً سياسياً بين أشقائه، فإن والده تجاهله عندما حان الوقت لتعيين خلف له. فعيّن الشيخ عبدالله في وصيته النهائية، التي كتبها في منزله في الرياض، ابنه الأكبر، صادق، ليحل محلّه ككبير مشايخ القبيلة. على الرغم من أن حميد تأذى على ما يُفترض باستبعاده، لكنه استفاد في النهاية من هذه الخطوة التي سمحت له بالتخلي عن قاعدة انتخابية قبلية ضيقة لمصلحة قاعدة وطنية أوسع مع الحفاظ في الوقت عينه على علاقاته القبلية. بطريقة ما، جمع الأفضل بين خيارين متناقضين، إذ يستطيع الاعتماد على قبيلته، من دون أن يدين لها. وما إذا كان يستطيع حميد الاعتماد أيضاً على قاعدة دعم أخرى من قواعد والده الأساسية سيكون سؤالاً مهماً خلال محاولته الاستحواذ على السلطة. على الرغم من الصخب كلّه الذي أثارته مقابلته، لم يحظ الجزء الذي تحدّث فيه عن السعودية، الورقة الرابحة بالنسبة إلى السياسة اليمنية، بالكثير من التعليقات. كان حميد أكثر مسالمةً إزاء النصيرة السابقة لوالده، مع اتصاف تعليقاته عن الولايات المتحدة ودورها في اليمن بالانتقاد وكراهية الأجانب.

من جهتها، تبحث السعودية عن أفكار لمعرفة كيف عليها التصرف مع جارتها الجنوبية، فلم تعد المملكة تحبذ سياسة تفضيل قبيلة حاشد على بكيل، إحدى القبائل الأخرى الضخمة ولاسيما في شمال اليمن، والتي تبنتها على مدى العقود الماضية، لكن باستثناء خيار توزيع الإعانات بمساواة بين القبيلتين، تبدو السعودية تائهة كما الجميع.

واليوم، يبدو الملف اليمني، الذي صانه سابقاً بحذر ولي العهد سلطان بن عبدالعزيز، متاحاً للجميع، مع تنافس مختلف الأمراء على قدر ما يستطيعون وضع أيديهم عليه من الملف. تبحث السعودية بالتالي عن خلف تستطيع التعاون معه في ظل تخوّفها من خطر 'القاعدة' وقلقها من المغامرة الأخيرة التي خاضتها على الحدود مع الحوثيين. من شأن ضمان دعم المملكة المساهمة إلى حد كبير في تعزيز سطوة حميد، لكن هذا الأخير سيحتاج إلى أكثر من تصريحات مقتضبة وأموال سعودية لمنع أحد أقارب الرئيس من وراثة الجمهورية.

لم توضع بعد خارطة طريق لانتقال سلمي للسلطة في اليمن، فجل ما نجده خطابات فارغة وأعداد لا تُحصى من النماذج السيئة، لذلك لن يكون من السهل إطاحة حكم العائلة وتاريخها.

* مرشح لنيل الدكتوراه في الدراسات حول الشرق الأدنى في جامعة برينستون.

زر الذهاب إلى الأعلى