[esi views ttl="1"]
أرشيف الرأي

المصارحة ثم المصالحة

كنت رئيس تحرير «عرب نيوز» في جدة، وتسلم المقدم علي عبدالله صالح رئاسة اليمن في 17/7/1978، وأنا في لندن للعمل على إصدار «الشرق الأوسط»، وطلبت من الزميل إلياس حداد أن يعجّل بالذهاب إلى صنعاء لرؤية الرئيس الجديد ففعل، ولعل المقابلة الصحافية بالإنكليزية التي أجراها له كانت أول مقابلة صحافية خارجية للرئيس الجديد.

السنوات الاثنتان والثلاثون الماضية وحدها شاهد كافٍ على حكمة الرئيس وحنكته، وقدرته على إدارة اللعبة السياسية وإقامة توازنات في واحدة من أصعب بقاع الوطن العربي، ويكفي أن اليمن شهد حروباً في السبعينات والثمانينات، وحرباً أهلية في التسعينات، وهو خارج من حربه السادسة مع الحوثيين التي قد تكون الأخيرة، أو تكون هدنة أخرى تتبعها حرب سابعة.

حروب اليمن تعني أن في البلاد من السلاح ما يكفي ويزيد لخوض أي راغب مواجهة مسلحة، غير أن الحوثيين يتلقون دعماً خارجياً على شكل مال وتدريب وتحريض، جعلهم يعتدون على الأراضي السعودية. وجاء الرد سريعاً وقاسياً فلعله يردعهم عن العودة إلى العنف.

في المقابلة التي أجراها الزميل غسان شربل للرئيس علي عبدالله صالح لاحظت ان الرئيس أقل اهتماماً بالحراك الجنوبي والحركة الانفصالية فيه، فهو ككل اليمنيين وحدوي عربي، والانفصال ليست له شعبية تذكر، حتى إن الرئيس الذي يواجه الحراك ذهب إلى قمة ليبيا وهو يحمل مشروع اتحاد عربي.

الرئيس اليمني يتطلع إلى وحدة العرب فيما يواجه تحديات أربعة في الشمال والجنوب، وفي مواجهة القاعدة، ثم تحدي التنمية. بل إنه تحدث عن الفلسطينيين والانقسام بينهم، قبل أن يسأله غسان أو أنا عن الموضوع. وهو دعا الفلسطينيين إلى وحدة الصف حتى لا يضيعوا قضيتهم.

ربما كان من أسباب ثقة الرئيس بقدرته على تجاوز الصعوبات الحالية اننا قابلناه في يوم عيد ميلاده، وهنأناه بالعيد، وقلنا «مبروك»، لأنني لا أعتقد أن رئيس جمهورية ينتظر أن يُقال له «هابي بيرثداي تو يو» أو «سنة حلوة يا جميل».

المقابلة مع الرئيس علي عبدالله صالح في «الحياة» اليوم، وهو لم يتجنب أي سؤال من رئيس التحرير، كما رد على إشارتي إلى تدني مركز اليمن في مؤشر الفساد العالمي بالقول إنه لا توجد في اليمن ثروات تحرض على الفساد، وأيضاً سؤاله هل كان هناك تقصير محتمل في تقدير أعداد الحوثيين وتدريبهم وتسليحهم.

جلسنا في مواجهة الرئيس في مكتبه الرحيب ووراءه نوافذ بدت منها مآذن المساجد، وأحدثها مسجد الرئيس، وهو ضخم وعمارته جميلة جداً جمعت بين القديم والجديد. وكانت أمامي خزانة كتب في الحائط ضمت «جمع الجوامع» و «شمس العلوم» و «كتاب الأغاني» و «فتح البلدان» و «أوجز المسالك» و «تفسير روح البيان» و «التجريد».

العُرْضي، أو مجمع الدفاع، يضم الآن مكتب الرئيس القائد العام للقوات المسلحة ووزارة الدفاع ورئاسة الأركان، وقد بدأ تجديده سنة 1998 واكتمل أكثر العمل سنة 2004 إلا أنه مستمر. والموقع عمره أكثر من قرن ونصف القرن فقد بُدِئ العمل في بنائه سنة 1301 ه، أو 1848 ميلادية، واستمر حتى 1321 ه فكانت القشلة الأولى لقيادة الجيش العثماني والثانية دار الجيوش والثالثة البيادة (المشاة) والرابعة للعسكر النظامي. وهناك مسجد وحمام بخاري وسجن ومستودعات طعام.

أخذنا العميد علي حسن الشاطر، رئيس دائرة التوجيه المعنوي، في جولة حول الموقع ووجدت الترميم موفقاً جداً فهو أمين للأصل المحفوظ في صور كثيرة، فبقيت المداخل والأدراج والنوافذ والنقوش والنصوص التي تسجل تاريخ البناء القديم ومن أمر به والمدافن وشواهدها.

وترك العثمانيون اليمن سنة 1918 بعد هزيمة عسكرية قاسية ليبدأ حكم الإمامة وينتهي سنة 1962، ويقوم نظام جمهوري شهد انقلابات وتصفيات، حتى وصل إلى الحكم الرئيس علي عبدالله صالح سنة 1978 ليقود بلداً لا يعرف أهله الملاحة إلا وسط الأنواء.

ونقطة أخيرة، فلا بد أن للحكم في اليمن إيجابيات وسلبيات، إلا أننا ذهبنا إلى صنعاء لمقابلة الرئيس، وسمعنا كلام الجانب الرسمي عن أحداث اليمن من الشمال إلى الجنوب فلا أجزم برأي لأنني لم أسمع كلام المعارضة (إذا جاءك خصم وقد فقئت عينه لا تحكم له فربما جاءك خصمه وقد فُقئت عيناه)، لذلك أرجح أن قادة الحراك الجنوبي استغلوا أحداث الشمال ليعودوا إلى الصورة، ربما مستفيدين من إهمال أو تقصير في معالجة هموم أهل الجنوب واهتماماتهم وقضاياهم. إلا أنني أقول بثقة كمواطن عربي أصابته سوسة الحرية والديموقراطية بعد طول إقامة في الغرب إن نظام الرئيس علي عبدالله صالح مرحلة نادرة في تاريخ اليمن فهو تاريخ دموي قديماً وحديثاً، إلا أن في اليمن اليوم تجاوزات محدودة ضمن مساحة واسعة من الحرية، ولا خوف من النظام ورجال الاستخبارات، ولا سجون سرية، والمعارضة السياسية في وضح النهار وعالية الصوت، وخيار الرئيس الأول المصارحة ثم المصالحة، فلعل المشاكل تنتهي ويعود اليمن سعيداً.

زر الذهاب إلى الأعلى