آراءأرشيف الرأيالفكر والرأي

الأشباح وكتابة الرأي

الطبيعي جدا أن يسعى كل من يكتب رأيه، أو يعلن عن موقفه، إلى أن يوقعه باسمه، لأن رأيه، مثل ابنه، من صلبه. وهناك من يوقع باسم مستعار خشية الانتقام، وبعضهم يزور اسمه تجنبا للحرج الاجتماعي.

الأكثرية كانت في السابق لا تعلق ولا تبوح برأيها، حتى ولد المنبر الإلكتروني فظهر شجعان الرأي، وانتشرت خفافيش التعليقات أيضا. وبعد أن كانوا بضع مئات في السابق صار عدد الذين يدلون برأيهم كل يوم مئات الآلاف من الأشخاص، بمن فيهم القراء الذي يشاركون بالتعليق فأصبحوا جزءا أساسيا من الرأي والحوار الشعبي عبر الإعلام.

إعلامنا السابق كان مجرد خشب مسندة، وطريق واحدة، فيه واحد يملي وآخر ينصت. أما إعلامنا اليوم فحلبة ملاكمة، كل يلكم الآخر. ميزته تفاعليته؛ الكاتب يدلي برأيه والقراء يحاورونه، ويتناقشون في ما بينهم، واتسعت حدائق «الهايدبارك» الكلامية بشكل خرافي مع ظهور المنتديات السريعة. جميعها أكسبت الرأي حيوية، وزادت من قيمة الكتابة الصحافية، على الرغم من أن الكثير مما ينشر قد يكون خارج الموضوع، أو خارج الأصول، أو حتى خارج الأدب.

إلا أن هذه الميزة هي علة أيضا، ولأن النقاش المفتوح لا يشترط اسما حقيقيا، صار كثيرون مثل عسكر الحروب لا تعرف شخصياتهم، مما جرأ أصحاب الآراء القوية والقلوب الضعيفة على الإدلاء بدلوهم بأسماء مزورة بألسنة حادة مثل المنشار. تقليد جديد لم تر فيه الصحافة بأسا ما دام أنه يشجع انخراط الكثيرين. ومن تجربتي المتواضعة في السنوات الماضية كانت البدايات صعبة، لأن الذي يسمح بالنقد ويحرض عليه لم يكن يشارك في الكتابة، وكان مثل صاحب الملعب يكسب أيّا كان الرابح والخاسر. وبالنسبة لي كنت محرضا من جانب تاركا الملعب مفتوحا مما يدعو للسعادة، أما ككاتب فهو أمر غير مقنع بسبب كثرة الأكاذيب والنقاشات القاصرة. وفي رأيي تبقى مرحلة تمرين لنا جميعا، على التعبير أو على التحمل، حتى يتعلم القراء المشاركون والقراء المتفرجون الصبر، ويميزون الكذب من الصدق.

الكتابة من وراء قناع تمنح صاحبها شجاعة أدبية مهما كان صاحبها رعديدا. وأظن أن بعض خفافيش النت امتلكوا الشجاعة وصاروا فرسانا في التعبير بأسمائهم الصريحة لاحقا. على أي حال، لولا هذا التستر لما اتسعت الدائرة كتابا وآراء.

لكن يبدو أن الكتابة المستترة قد لا تدوم طويلا على المواقع المهمة والمنتديات الكبيرة، وتذكروا أن الفوضى تقود إلى النظام. عربيا استأجرت الحكومات أفضل العقول لممارسة المنع، أو كشف الأسماء والأماكن.

وفي الغرب دخل المحامون على الخط، وباسم القانون يريدون اليوم التضييق على الحريات الجديدة. وقد أشعلت النار حادثة مفادها أن قاضية ضبطت تهاجم أحد المحامين باسم مستعار على موقع إحدى الصحف، وتشهر به في قضية اتضح أنها تنظر فيها في المحكمة. وبعد أن كشفت الصحيفة هوية المعلقة المزورة زعمت القاضية أنها ليست التي كتبت التعليق بل ابنتها من فعل ذلك. وللإحاطة، فالمواقع تستطيع إلى حد ما، التعرف على ملامح المشارك الخفاش. هنا قررت الصحيفة فضح اسم القاضية قائلة إنها لم تعد تستطيع السكوت عن هذا العبث!

الآن أهل القانون، المشرعون والمحامون، يريدون تحميل المسؤولية لكل كاتب مهما تخفى. بتنا أمام صراع معقد يتطور بطيئا، والجميع في حال ذهول. فهل نحن مع الحرية مع الفوضى، أم في صف الرقابة وتكميم الأفواه؟

زر الذهاب إلى الأعلى