[esi views ttl="1"]
أرشيف الرأي

أبو علي وطريقه للثراء!

للمرء منا طموحات وأماني وأهداف يسعى لتحقيقها معتمداً على نفسه بعد إعانة مولاه وتوفيقه له مسترشداً في تحقيقها بما يملك من مبادئ ومثل وقيم عليا، هذا في الشخص السوي المتزن المتمتع بروح تآلفت مع الجد والكفاح والمصابرة..

أما الذي يعاني من أمراض العجلة والتسرع فإنه سرعان ما يتسلق على ظهور الآخرين ويأكل عذق جهودهم بدم بارد، ويبني قصور مجده بأحجار عرقهم وكدهم وتضحياتهم مستخدماً في سبيل هدفه الزائف أضراباً شتى من ضروب الخداع والمكر والدس والنفاق والتزلف، تذكيها ظلامات نفس مليئة بحب الذات والأنانية والاستفراد، ولكي تقترب الصورة أكثر ويتضح المشهد، نورد قصة أو حادثة تجعلنا نفهم الموضوع عن كثب، يُقال أنها حقيقية ويُقال غير ذلك، وفي تقديري إن كانت الكفة في رجحان بين الحقيقة والاختلاق فحسبنا منها نيل العبرة والاستذكار، فالحادثات إلى زوال ولكن العبر دائمة لا تزيلها يد الحدثان.

(أبو علي) هكذا ورد الاسم في الحكاية تتناوشه كلاليب الفاقة والفقر، وتعضه أنياب المسكنة والعوز، يرى بعين القهر والتحسر من حوله من أصحاب الكراسي الدوارة والبطون الملأى المدرارة وأصحاب الثروات العابرة السيارة يسرحون ويمرحون في أموال الأمة وثروات الوطن دون حسيب أو رقيب، أو بوجودهما مع غض الطرف لقوة ومنعة واستنفاذ.

فكّرو فكّر ونظر بعين اللؤم وقدّر، ثم شمّر واستنفر، يا ترى هل كانت تلك (التفاكير) من أجل سابقة له في فضح منكر وفساد فشى واستشرى في مفاصل اليمن حتى أصابه بروماتيزم الفساد؟ أم تُراه سيسعى للتخفيف من هون الذل الذي طال بأغلاله إيّاه ومن في شاكلته من الصامتين المسحوقين تحت نير الفساد والإفساد؟.

أبو علي أصابته لوثة من الأنانية وحب الذات، فكر في نفسه وحدها، وكيف سيعمل على نجاتها لعيش بعد ذلك في رياشة ونعيم، ولكنه لا يطيق عن وصل الغنى صبراً، كيف له أن ينافح ويكافح ليبلغ منتهى حلمه وغاية مقصده..

لا شك أن هذا سيكلفه كثيراً من سنيّ عمره التي ذهب معظمها في مكالفة أعراض الفقر وأمراضه البائسة المشقية، لا بدّ أن يبحث عن أقصر طريق لبلوغ ذلك دون أضرار وبأقصر زمن مقدَّر، وبما أنه فكّر وقدّر ونظر بعين اللؤم، فقد قرّر؟ قرر ماذا؟

قرر أن يسلك سبيل من يلعنهم صبيحة كل يوم وانبلاج كل جديد، وأن يتتبّع طريق من يسبّهم كلما مرت أطيافهم العفنة أمامه، لقد اختار لنفسه أن يمشي هذا الدرب المظلم مع علمه المسبق بظلامته وقتامته وخلوه من معاني الشفقة والتراحم، كيف لا وقد عركته الأيام وعرّفته بقساوتهم وغلظتهم وفظاظتهم، هو في الأخير ورغم نزاعات نفسه اللوامة اختطّ هذا المسلك ليصل إلى هدفه وأقبِح به من هدف ومرام، وجد أن طريق التزلف والنفاق هو ما سيمكنه من تغيير حالة إلى أفضل حال، وعندها وقف بباب مسئول كبير.. كبير جداً بحجم فقاعة كبيرة وضخمة، تلقفته أيدي الحرّاس المدججين بالسلاح الذين يُعهَد إليهم حماية (الرأس الكبير) ومنعوه من مجرد النظر لا المقابلة، لم يكن في منظر (أبي علي) ما يغري أو حتى يوحي بأنه من خاصة المسئول القريب أو من بطانته أو من المقربين إليه، إضافة إلى أنه أتى راجلاً لا راكباً سيارة فارهة، تساءل الحراس في نفوسهم :هل هو مواطن (شريف) جاء ليقدم شكوى أو طلباً إلى المسئول...

هذا مستحيل فقد انقضى ذلك الزمان منذ عهود قديمة، حتى المواطنين ممن حاولوا أن يقابلوا المسئول من قبلُ فقد كانت تُقابَل طلباتهم بالرفض القاطع حتى استيأسوا ولم يحلم أحد أن يأتي مرة أخرى إلى هذا المكان، دخل أبو علي معهم في نزاع وعراك وصراع وارتفعت على إثره أصوات الجنود مع صوته، فهو لم يرضَ الانصراف، وأصرّ على مقابلة المسئول الكبير، بينما أخبره الحراس أن المقابلة ممنوعة بل مستحيلة، ومع تعالي الأصوات نظر المسئول من خلف زجاج نافذة تعلو المبنى الذي كان يعمل فيه ورأى المشهد، ورأى (أبو علي) وهو ينصرف غاضباً حانقاً مهدداً الجنود بأنه سوف يعود غداً ليقابل المسئول الكبير رغماً عنهم، وبالفعل عاد في اليوم الثاني وحدث معه نفس التصرف من قبل، وفي اليوم الثالث مثل ذلك، وفي كل مرة كان المسئول يشاهد الحدث عن كثب دون أن يعلم به أو يراه (أبو علي).

في اليوم الرابع وعند وصول المسئول إلى مقر عمله صباحاً لم يدخل بسيارته الفارهة مباشرة إلى (حوش) المبنى كعادته دون أن يكلف نفسه حتى إلقاء السلام على الحراس، ولكنه توقف فجأة أمامهم مما استرعى انتباههم وطرأ عليهم بعض الارتباك المشوب بالحيرة عن سبب هذا التوقف الغريب، وعندما فتح نافذة السيارة كان الحراس يقفون بانتظام منتبهين إلى ما سيأمرهم به، ثم حدثهم قائلاً : إذا أتى ذلك الرجل قاصداً أبا علي ففتشوه ثم اسمحوا له أن يقابلني، أجابوه بصوت موحَّد : حاضر يا فندم.

بعد فترة زمنية بسيطة أتى (أبو علي) متوقعاً أن يدخل في عراك كالعادة مع الحراس، ولكنهم تبادروه بالتفتيش وأذنوا له بمقابلة المسئول الكبير، تعجب من الموقف، ولكنه أخذ بتلابيب نفسه وأسرع إلى باب مكتب المسئول قبل أن تفوته الفرصة ويغير الحراس رأيهم، وأمام الباب أخذته الرهبة من هيبة الموقف، لم يصدق نفسه.. أخيراً سوف يقابل المسئول الكبير، أخذ بعض التردد يتسلل إلى نفسه ولكن مما زاد ثقته أكثر أنه قد رتب لهذا اليوم طويلاً ومنذ أمد بعيد، وهو يعلم ما ينبغي له أن يقوله، وأمام طاولة المكتب الفخمة وقف (أبو علي) وقلبه يتراقص خوفاً وفرحاً مما سيظفر به إذا نجحت خطته.

كان المسئول الكبير يظن (أبا علي) مواطناً ساذجاً وبسيطاً جاء ليطلب بعض الطلبات وينصرف، ولكنه كان في ظنه مخطئ، فلم تكن كل تلك المحاولات التي بذلها من أجل أن يطلب شيئاً ثم ينصرف وهو غير متأكد هل يناله أم لا، ولكن كانت له مآرب أخرى ومقاصد شتى قد انطوت بخبث ودهاء بين ثنايا نفس تأبّت إلا الانعتاق من ربقة الفقر مهما كانت الوسيلة، فكأني بحاله تنطق بأن (الغاية تبرر الوسيلة).

.سأله المسئول عن طلبه ومراده، فرد بكل هدوء أنه ليس لديه أية طلبات غير طلب واحد بسيط، كلمات معدودة يريدها أن تُقال له من المسئول في زمن محدد وفي حال معينة، لقد طلب منه في حال ما إذا أتى لوضع حجر أساس لمشروع ما وأكثرها ! ورآه مع جمهرة الناس أن يشير إليه بيده ويقول له : (كيف حالك يا أبا علي، كل شيء على ما يُرام)، هذا فقط، وعده المسئول الكبير بذلك ولم ينسَ الوعد..

حتى إذا جاء الموعد ووصل المسئول الكبير مع عليّة القوم من كبار المسئولين والوجهاء في الدولة لوضع حجر أساس لمشروع كبير، تجمهر الناس وكان من بينهم (أبو علي) الذي استمات وبذل جميع جهده ليكون في الصف الأمامي حتى يصبح في مرمى نظر المسئول.

بعد الانتهاء من وضع حجر الأساس همّ المسئول والوفد المرافق له بالتحرك، وخلال مرورهم بمحاذاة الصفوف الأمامية برز أمامهم (أبو علي) فرآه المسئول الكبير فأشار إليه وهو يقول : (كيف حالك يا أبا علي، كل شيء على ما يُرام)، تعجب المسئولون الآخرون من هذه التحية الخاصة لهذا الصعلوك الذي لا يعني لهم شيئاً، ولكنهم بعد أن رأوا كبيرهم قد ألقى عليه التحية غيروا نظرتهم تجاهه، وأصبح كل واحد منهم يعدّ العدة ليتقرب من هذا الشخص، كان يدور في خلدهم أنه أهم شخص عند المسئول الكبير وربما هو الذي يرفع التقارير إليه، ولا بدّ أن يكون بهذه الهيئة والصفة حتى لا يلاحظه أحد أو ينتبه إليه، وربما أخطأ المسئول بإلقاء التحية عليه في حال رؤيته له، وعزموا على فتح قناة بل قنوات للتواصل معه وعقد العلاقات به.

تلقى (أبو علي) دعوة للزيارة من أحد المسئولين القائمين على شأن التوظيف في محافظته، فعرف أنها أول ثمار خطته العبقرية، فأعد العدّة وذهب لمقابلة المسئول، وخلال الزيارة سأل المسئول (أبا علي) من باب القيام بالواجب وتقديم الخدمة إن كان موظفاً لدى الدولة أم لا؟ فأجابه أنه ليس بموظف، فوجه في الحال بخانة وظيفية له على أن تتم إجراءات التوظيف في أسرع ما يمكن، وهكذا قطف (أبو علي) أول ثمار خطته الجهنمية وصار موظفاً في الدولة.

في يوم آخر ذهب (أبو علي) في زيارة إلى المسئول القائم بشئون الأراضي والعقارات فرحب به أشد ترحيب، وعرض عليه خدماته، فأخبره(أبو علي) بأنه يعتزم إقامة مشروع تجاري كبير وأنه يريد لأجل ذلك قطعة أرض ليقيمه عليها، فصرف له في الحال قطعة أرض واسعة المساحة في مكان مميز تُقدر عند بيعها بالملايين، فضحك (أبو علي) ضحكة خفيفة مليئة بنشوة الظفر ليعلن في نفسه أنه قد حاز الثمرة الثانية من ثمار خطته الخبيثة.

و هكذا استمر (أبو علي) يستغل وجاهته المزعومة وخوف المسئولين الكبار منه ومن تقاريره التي يرفعها إلى المسئول الكبير كما ظنوا، استغل كل ذلك في اجتباء المزيد من المكاسب والأعطيات، والحصول على وافر الامتيازات، ولا يزال الحال به كذلك حتى صار من أكبر المتنفذين، وانتقل في عيشه إلى بيت أوسع وأرحب، وصار يملك سيارة فخمة تناسب فخامته وثراءه، وكل ذلك ليس من أموال أُولئك اللصوص والأفّاكين، بل هو من جهد وعرق المظلومين الذين كان في يوم من الأيام واحداً منهم يحس بآلامهم، ويشعر بمعاناتهم، وينافح عنهم، ويقتسم لقمته معهم، أما الآن فصار يمر بسيارته من بينهم وهو متبلد المشاعر، جامد الأحاسيس، قاسي القلب، ميت الضمير، لكنه بين الفينة والأخرى يحس بضيق وهم وغم يعتصر نفسه فيجلس بينه وبين نفسه مهدود الفؤاد لأنه يعلم أن هذا ما يحدث دائماً لكل من يبحث عن الثراء السريع.

زر الذهاب إلى الأعلى