[esi views ttl="1"]
أرشيف الرأي

ثلاث ليال في ضيافة الضنك بمستشفى إبن سيناء بالمكلا

سبق لي أن زرت مستشفى ابن سيناء (في المكلا شرقي اليمن ) قبل تلك المرة لكن مجرد عابر سبيل أثناء زيارات لبعض المرضى ممن تربطني بهم صلاة قرابة أو صداقه..

ولكن لم يسبق لي أن يطول بي إلمقام كما قدر لي في الأسبوع الماضي حين تلقيت اتصالا من أخي الذي تم ترقيد ابنته في المستشفى بتهمة إصابتها بمرض الساعة " الضنك" بحسب التقرير ألمخبري الأول ولان المسألة مسألة حياة أو موت لم يكن أمامي حال استلامي الاتصال إلا أن وضعت كل ما بيدي وذهبت بي الأفكار كل مذهب وأخذت استذكر مرض الضنك وحكاياته المفزعة وصولاته وجولاته المروعة.

لم يطل الوقت بي إلا وأنا في مستشفى ابن سيناء بفوه داخل قسم النساء الجناح العام لان الخاص لم يعد يتحمل المزيد وقائمة الانتظار حافلة بالأسماء المهم أننا في المستشفى ولا فارق كثير في الدرجات والرتب بين الأقسام أول عجائب الاستقبال أن المتهم حمى الضنك قد ثبت براءته من التهمه فقلت: الحمد لله فما بين غمضة عين وانتباهها يغير الله من حال إلى حال ولأني مؤمن بالمعجزات وبحصول الكرامات فقد قلت ليس هناك شئ على الله بعزيز.

لكن من هو المتهم بالضبط قالوا لا يزال البحث جاري عنه داخل المختبر المركزي ولان سوء حض مرض ابنتنا قد دله على يوم الأربعاء بعد الظهر فقد تعين علينا أن ننتظر تحديد نتيجة الفحص إلى يوم السبت من الأسبوع القادم ننام ونستيقظ ثلاثة أيام بلياليها ونحن نفكر في المتهم المجهول من عساه يكون؟..

ثلاثة أيام فيها الخميس والجمعة إجازة رسمية لا تكاد تجد فيهما من يؤنس وحشتك غير انين مريض يرقد بجوارنا أو مناوب القسم يواسيك بابتسامته اللطيفة البريئة وهو يؤدي ما يرى انه يسقط عنه الواجب ويحلل له لقمة العيش أو منظفة القسم تترد من وقت لآخر لتنبهك بأن عليك إن لا تنسى شئ من أطعمتك مكشوفا حتى لا تغزوها قطعان الصراصير المستوطنة حد الاستعصاء في زوايا الغرفة وتحت الاسره وحتى أحيانا وسط فراش المريض.

أن يومين في المستشفى تتخللها الجمعة بما فيها من هدوء وسكينة وقلة زائرين تجعلك تجد من الوقت ما يكفي لتتأمل أمورا كثيرة تدور من حولك منها ما يجعلك تضحك من شدة الشعور بالغبن والضياع وحينها تدرك حقيقة الحكمة التي تقول "شر البلية ما يضحك" ومنها ما يجعلك تفقد صوابك وتتلفظ ببعض التمتمات التي تفرغ بها شيئا من مكبوتات صدر يغلي بالسخط والشعور بالغبن.

وأنت تتجول في ردهات المستشفى تنظر إلى أرضيته وهي تتقشر كتقشر البيض وجدرانه وسقوفه وهي تنسلخ فتكتمل لديك صورة ثعبان كبير عملاق لحظة انسلاخه من جلده القديم .. شئ واحد كان ينقصني لحضتها إلا وهو كاميرا تصور تلك المناظر المأساوية.

وبينما كنت أتفحص وجوه الداخلين من مرتادي المستشفى شعرت في نفسي بأن غالبية من يأتي إليه تظهر عليهم صورة البساطة من ذوي الدخل المحدود ومن قد تقطعت بهم السبل وضاقت بهم الحيل من أبناء المحافظات الأخرى وكذا سكان البوادي المجاورة ولا تكاد تجد من تظهر عليه آثار نعمة أو يسار وهذا ربما يحمل مدلولات أعمق ويستحق وقفات تطول.

الشيء الذي لفت انتباهي هو انه ورغم رداءة الخدمات المقدمة إلا أننا ا كنا واضعين أيدينا في جيوبنا عند صاحب بنك الدم وعند التحاليل وأجرة الغرفة الخاصة التي نقلنا إليها آخر يوم من الضيافة وغيرها من الرسوم والجبايات وحكايات المليار الذي ضاع في السرداب عجل الله فرجه ! ولان الوقت لم يسعفني لشراء صحيفة أو جلب كتاب يقضي لي ساعة الانتظار إلا إنني قد اكتشفت ما يعوض عن ذلك، إنها الذكريات الخالدة لمن مروا من هنا قبلك وشموا بها جدران الاروقه وخضبوا بها الفرش ونحتوها على الآسرة وبقايا الدواليب الحديدية التي أكل عليها الصدأ وشرب ثم مزقها الزمن كل ممزق.

احدهم يكتب على الجدار عبارة شفاك الله يا أبو.. ويرد عليه أخر الشافي الله، وقد صدقا.. بينما كنت في المختبر حاولت الجلوس على كرسي كان محشورا في الزاوية سحبته قليلا لا جلس عليه فانهار بي على الأرض استجمعت قواي ونظرت من حولي لحسن الحظ لم يكن احد غير المناوب وطفلي الصغير هم فقط كانا شاهدين على الحادثة نبهني المناوب إلى أن الكرسي لم تبقى لديه إلا ثلاثة قوائم والرابعة عوضت بدلا عنها حبة بلك.

في قسم الطوارئ ترى مستودع من النفايات والخردوات والأجهزة المتهالكة بقايا مكيف عاطل ومواد نظافة مركونة وأمور كثيرة لا داعي لها واشيا أخرى يصلح أن توضع في مكان آخر وبجوار ذلك مريض زرته وهو خائف من نتيجة التحليل المنتظر لان له قصة من قبل مع نتيجة تحليل ادعى بأن الزائدة الدودية يجب أن تقتلع غير أن شئ من التريث بعد ذلك أثبت بطلان الدعوى تلك واليوم قد عادت إليه نفس الأعراض السابقة ويخشى من تكرر نفس السيناريو إن لم يكون الأسوأ منه.

بينما وأنت في سباق مع الزمن يحين موعد صلاة المغرب ولأن صلاة المغرب لا تحتمل التأخير تنطلق مسرعا مثقلا بالهموم والمشاغل إلى الصلاة لتكتشف بأن الإمام قد استفتح ب"الم.. ذلك الكتاب.." وسورة أخرى ليست بالقصيرة ومن هنا أجدها فرصة لأنبه إخواني أئمة المساجد خصوصا المساجد التي تكون قريبا من مرافق عامة أو أسواق مزدحمة أو ملتقى عابري السبيل بأن لا يشقوا على الناس بالتطويل والله ولي الهداية والتوفيق.

بعد انقضاء الصلاة وتحديدا في طريق العودة من المسجد جمعتني الأقدار بأحد الدكاترة المناوبين ولأن لي به بعض علاقات أحببت إن أفضفض معه قليلا على سبيل تفريغ بعض الشحنات السالبة وكنت أتوقع بأنه سوف يجد في نفسه ولو بعض الشيء كونه من رجال هذا المرفق الهام وعجبت عندما أمرني بالسكوت ليفرغ هو ما اظن بأنه براكين الم وحسرة ومرارة جعلتني أعوض ما فقدته إضعاف مضاعفه حتى قلت في نفسي ليته يسكت ومما اخبرني به بأن الكهرباء تنطفئ بينما هو يقوم ببعض العمليات للمرضى ثم نظر إلى وتنهد تنهيده وأخرج هاتفه المحمول وقال تصدق يا محمد بأنني أحيانا أكمل العملية عند انطفاء الكهرباء على ضوء جهاز التلفون, قلت ليتك لم تصدق فيما تدعي ! وفارقته عند بوابة قسم العمليات وأنا أقول اللهم لطفك بعبادك المستضعفين.

ثلاث شمعات في ثلاث ليال:-

قد يبدو للقاري بأن المشهد قاتم تماما إلا أن هناك شمعات تخللت تلك العتمة اذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:

الشمعة الأولى:-

عيسى الجابري المناوب في بنك الدم ذلكم الشاب دمث الأخلاق الذي يشعرك لأول وهلة تقابله فيها بأنك تعرفه منذ زمن بعيد فيغمرك بمشاعر الحب الصادق والتقدير والإعزاز فتحس بأنك بدأت تستعيد بعضا من إنسانيتك المهدورة في ردهات المكان لذا تجد نفسك منجذبا إليه حد الإسراف في زيارته, أعجبني فيه أيضا إصراره الشديد على شرح كل ما يشكل عليك حد إقناعك بأن كل شئ يسير على ما يرام فيرفع من معنوياتك المجروحة أصلاً منذ دخولك البوابة الكبرى أعجبني فيه أيضاً فصاحة قوله وتناسق أفكاره وترتيبه لكل إغراض مكتبه وأرشيفه.

الشمعة الثانية:-

بحكم أن أخي والد البنت المريضة يعمل لدى جامعة الأحقاف والجمعية الاسلامية فقد شد انتباهي روح التكاتف والتعاون والإخوة التي تربط منتسبي هاتين المؤسستين فكان حضورهم ومتابعتهم ظاهرة للعيان وكان للدكتور عمر باغوث حضور برغم إجازة نهاية الأسبوع.

الشمعة الثالثة:-

شد انتباهي تواجد عدد من المصاحف في الغرفة التي أقمنا فيها مما أعاننا على قراءة ما تيسر من الورد اليومي فجزاء الله من كان السبب في ذلك خير الجزاء.

زر الذهاب إلى الأعلى